ماجدة الجندي: سلاما لكاتبة حرة بلا قيود
«لم أكتب بعد ما أريد».. كانت ماجدة الجندي تكرر هذه العبارة كثيرا، كلما انفتحت سيرة الكتابة، ومطالبتي لها بجمع مقالاتها المتناثرة في بطون المجلات وإصدارها في كتب.
كانت قد بدأت أثناء الأزمة الصحية للروائي الراحل جمال الغيطاني عام 2015، سلسلة مقالات عن علاقتهما سويا. سيرة حياة، وسيرة وطن، وسيرة للثقافة. ولم تكن حكاياتها محاولة للتماسك، بقدر ما كانت إيمانها بعشق الغيطاني للحكي، قد يسهم في إنقاذه واستعادته لوعيه، وكأن الحكي محاولة لإنقاذ من نحب دائما، هكذا كانت حكاية شهرزاد أيضا.
«لم أكتب بعد ما أشعر به وأحسه تجاه جمال» تقول دائما في خجل وكأنها لم تفعل شيئا. ودائما ما كنت أرد: ومن الذي يكتب أذن؟
**
ماجدة الجندي واحدة من أسطوات المهنة، مع قلائل مثلت أيضا “ضميرا” مهنيا يأنس بوصاياها الكثيرون.. وهي وصايا لا تلقيها من موقع “وصاية”، ولكن تمررها بهدوء وتواضع شديدين. في كتاباتها المتعددة، التي نجد تمثيلا لها في كتابها “كما تدور عجلة الفخار” نجد أنفسنا أمام أسئلة متكررة، تثير الدهشة الدائمة لأننا لم نجد اجابتها رغم الثورات والانتفاضات.. والنضال المستمر الذي لم يتوقف. الأسئلة الرئيسية التي انشغلت به الجندى هى أسئلة العدالة الاجتماعية، والحرية والمواطنة، تراهن على “وعى الشعوب” لا على “منطق الوصاية”، وتحذر ” مواطنون” لا “أقلية”، وانتبهوا أيها السادة: في إسرائيل أكبر قلعة للأبحاث العليمة في المنطقة.
أثناء تحريرها لباب الكتب في الأهرام كانت تبحث في اختياراتها عن دور البسطاء، المهمشون في صناعة التاريخ، من هنا تحتفي بتجربة خالد فهمى في كتابه ” كل رجال الباشا”…وتجربة سيد عويس في أعماله الكاملة، ووصاياه باعتباره نموذجا للحكيم المصري المعاصر، الذى اعتبر “إيبور” نبراسا له. كانت رسالة ماجدة في كل ما تكتب رسالة العدالة والحرية القادمة من صوت قديم منذ أكثر من 4 آلاف عام، واستكملها كثيرون ومن بينهم كان سيد عويس الذي كان يردد ” من جسر أيسر ومن هاب خاب”، ببساطة من امتلك جسارة وشجاعة المواجهة يسر أمره ومن هاب أو خاف.. خاب.. لم تكن تلك قناعة عويس وحده، بل أيضا قناعة ماجدة الجندي!
**
لم تكتف الجندي في كتاباتها برسائل التحذير، أو لفت الانتباه إلى مناطق الخطر، كانت أيضا تولى عنايتها للجمال، والفن كأولوية أولى تحمل هذه الرسائل الى القارئ، في الكتابة تبدو لغتها خاصة بها وحدها، لغة مسنونة، ومكثفة وحادة عندما يستدعى الأمر، لغة تقترب من الشعر في مناطق كثيرة. ربما كانت تبحث عن لفظ، وهى تكتب، تدرك أنها هى المناسبة، لا بديل عنها، ومن هنا تأتى الكتابة طيعة، كأنها جملة واحدة طويلة. لا تصيب بالملل. تطرح أسئلتها وكأنها تلعب. ثم تترك القارئ يفكر فيما يقرأ ويبحث عنها.
أما معاركها الثقافية، فلا يمكن حصرها. معارك انطلقت من محبة المهنة، وإخلاصا لها، ودفاعا عن الهوية المصرية، وتصدت لتشوهات المدينة، دافعت عن الجمال دائما.
إذا أردنا أن نلخص الوضع الثقافي المصري في الربع قرن الآخر فإن أى من الباحثين لا يمكن أن يتجاهل في رصده عبارة وزير الثقافة الأسبق فاروق حسنى” حظيرة المثقفين” العبارة قالها الوزير للجندى في حوار من حواراتها المتميزة، ونقلتها كما قالها في الحوار لتفتح ملفا راكدا في علاقة المثقفين بالسلطة وتلخص في كلمتين مشهدا ثقافيا ملغزا وملغما في الوقت ذاته. وفي أحد البرامج التلفزيونية الشهيرة ما قبل ثورة 25 يناير لخصت الجندي وضع مصر في عبارة واحدة: “مصر أشبه بقطار انفصلت عربة السائق عن بقية العربات”… لتفقد في اليوم التالي مباشرة منصبها في الأهرام.. وتبدأ رحلة أخرى: كاتبة حرة بلا قيود. واستمرت حتى ايامها الأخيرة كاتبة حرة بلا قيود!
عندما تسلمت مسئولية تحرير مجلة علاء الدين، قدمت نموذجا فريد لما ينبغي أن تكون عليه صحافة الطفل. لم تكن الموضوعات المنشورة مجرد موضوعات ارشادية، كانت تؤمن أن الطفل أذكى من فرض وصاية عليه، كانت تؤمن أن الأطفال هم الاستثمار الحقيقي لمستقبل هذا الوطن، فضلت أن تشعل المصابيح، وتلعن في الوقت ذاته الظلام.
**
لم يتح لى “تلمذه” مباشرة على يد ماجدة الجندي (الأستاذة) كما كنا نخاطبها دائما. وإن كنت اعتبر نفسي تلميذا بالمراسلة، استفيد من مقالاتها في “الأهرام” وحواراتها المعمقة في “صباح الخير. ولكن في السنوات الأخيرة جمعتنا حوارات عديدة مباشرة أو عبر الهاتف. أنصت إليها باهتمام. وعندما بدأت في تحرير موقع باب مصر، لم تكن تبخل بنصائحها، واقتراحاتها الدائمة. كان أول رد فعل لأي موضوع ينشر يأتيني منها، تقترح أفكارا وزوايا جديدة للنظر، مع تشجيع دائم.
أستاذتنا.. لا نقول وداعا، بل سلاما كما كان أستاذنا الغيطانى يقول دائما.
اقرأ أيضا:
ملف| جمال الغيطاني.. الرحلة الأدبية