"للتو ..ماتت نصف حكاية".. قصة قصيرة لـ هانى عفيفى
خيوط الضوء الأزرق الهائمة فى براح الليل الفسيح في نفس النقطة التي التقطت فيها عيونى حينما كانت ماتزال فى مرحلة الطفولة نفس تردد اللون الأزرق الذى كان يومها علي هيئة حدا فاصلا بين نهاية ليلة ألهبتها الدماء، وبداية مؤكدة لنهار نفثت فيه الشمس جزء من لهيبها، فاللحظة التي مررت فيها أمام مقرهم كانت إبان زرقة الدماء المسالة طوال الليل قبل سوادها، وكأن موجات اللون الأزرق هي الموجات الوحيدة التي تتطابق مع شبكية عيونى كلما مررت من هنا .
كوافد جديد علي المنطقة لم أكن أعرف عن تاريخهم العائلى أى شيء فقررت أن ما رأيته عنهم يكفى لأن يكون تاريخا ثقيل الحشايا مدبب الأطراف تماما كنصل السكين التى أصبحت محورا لآداء بحث نفذه العشرات من قوة الشرطة التى حضرت لمعاينة الجريمة العائلية تلك .
أبنوسية بشرتهم كانت تتراوح حدتها بين فرع وآخر علي حسب الأم فقد استخدمت الأم كمعون بالمعني الحرفي للكلمة في داخل ثقافتهم التي أفرزت الجريمة تلك، إلا أن عرض الجبهة وكبر منطقة الشارب وفلطحة الأنف كانت صفة شكلية ثابتة فيهم كلهم .
لم تكن للعائلة المستوطنة هنا منذ مدة أعتقد أنها ليست بالبعيدة مهنة محددة، وقد يكون هذا أحد الأدلة علي أنهم مستحدثون في المكان فى هامش طرأ علي المنطقة أثناء تكونها، ومع مرور مدة ضمنوا كمتن .
اختلاف البدايات عند كل منا يجعل للأسطورة طعم مختلف علي كل لسان يحكيها، فأسطورتهم لدى بدأت وبدأ الوعى بها من هنا من حانوت الحلوى والفطائر الذى كان يملكه أحد أفراد الأسرة، فقد كان رمانة ميزان العالم بالنسبة لى فهو آخر ما تتعلق به عيونى أثناء ذهابى للمدرسة، وأول ما يفتح الشهية لطفل عندما يعلم بأنه مكافئا .
تتشابك النهايات ولكن قد يرغب أحدنا في أن تظل الحكاية مستمرة أكثر من الآخرين فالنهايات قطار لا يمكن توحيد محطته الأخيرة ، فما بين هذا المساء وذاك الصباح البعيد جدا، وما بين خروجى للميدان ثم العالم ومرورى بالحانوت آخر الليل، متخلصا من بقايا ذكريات العالم الخارجى بعد منتصف الليل، ما يقارب الثلاثة عقود، مرت بها الكثير و الكثير من المحطات وانتهت بدايات جمة إلا أن “قابيل” الذى بعثه السجن إلينا من جديد جلس في نفس مكانه المعتاد علي باب حانوته الذى أصبح حانوتان، فى نفس البقعة التى أصبح فيها أخ وحيد لا أخين ليتحول دم المقتول منهما بعد كل تلك السنوات إلى عبوات زيوت سيارات منمقة بعناية فوق أرفف لامعة، فقتل هذا “القابيل”وللمرة الثانية، بإقتطاعه نصف التاريخ لإبنه، وشيعا سويا على أنغام موسيقى المهرجانات نصف الحكاية التى للتو ماتت .
من مجموعة قصصية للكاتب بعنوان” الفوضى الخلاقة” صدرت فى العام الماضى عن دار نشر ابن رشد.