كيف انتقلت طقوس عيد «الأوبت» الفرعوني إلى مولد أبوالحجاج الأقصري؟
تستعد محافظة الأقصر لإحياء ليالي مولد سيدي أبوالحجاج الأقصري، والذي يعد من أهم المناسبات الصوفية إذ يشارك فيه الآلاف من مختلف الأنحاء. تبدأ احتفالات المولد في 11 من شهر شعبان، بانتشار شوادر الحلوى في شوارع المدينة. تليها نصب الخيام المختلفة لإعداد ولائم العشاء، وخيام الذكر والمدائح النبوية وأيضا مجالس الذكر في المسجد نفسه بمشاركة عائلة الحجاجية. كما تقام حلقات التحطيب والمرماح الخاص بسباق الخيول.
الكباب الصعيدي
خلال المولد تعكف السيدات على إعداد مختلف الأكلات ومنها “الكباب الصعيدي” الشهير. حيث توزع على الأهالي خلال أيام المولد، كما تجوب سيارات نقل الخبز أنحاء المدينة لجمع الخبز الخاص بالعشاء. وتعده السيدات مشاركة منهن في المولد ولنيل البركة من القطب الجليل.
تنتهي الليلة الختامية للمولد يوم 13 شعبان، وفي صباح اليوم التالي يخرج موكب الدورة، الذي يختلف في مولد أبوالحجاج عن الموالد الأخرى. ففيه العديد من الطقوس التي تبدأ بإطلاق الحمام من الأقفاص من كبير عائلة الحجاجية. في إشارة منه إلى بدء تحرك الموكب، الذي يتقدمه أفراد العائلة حاملين الأعلام وخلفهم عربة تحمل موكب كبير وجمل عليه هودج. وأيضا عربات تحمل كافة الأهالي وأخرى عليها مكبرات صوت تردد المدائح النبوية وخلفها آلاف الأهالي من الأقصر والمناطق المجاورة.
موكب الدورة
يتشابه موكب الدورة في مولد أبوالحجاج مع السفينة المقدسة في “عيد الأوبت” بمصر القديمة. إذ يقول الدكتور محمد إمام، الباحث الأثري: “هناك تشابه كبير جدا بين موكب عيد الأوبت في مصر القديمة. والذي ينتقل فيه المعبود آمون من معبد الكرنك إلى معبد الأقصر لإحياء ذكرى زواجه من “موت” وبين موكب دورة أبوالحجاج الأقصري. إذ كان الموكب في مصر الفرعونية يتحرك من معبد الكرنك إلى معبد الأقصر ويسير خلفه حملة الأعلام والراقصين والمغنيين في مصر القديمة في مشهد احتفالي يستمر 28 يوما”.
وتابع: خلال هذه الفترة يتجول الموكب في أنحاء طيبة القديمة كلها. وكان يعتبر عيد الأوبت من الأعياد القومية التي يتم خلالها توزيع الهدايا والحلوى على سكان طيبة القديمة. وهو ما يتشابه مع المولد الذي يتم التحرك فيه من أمام مسجد أبوالحجاج الأقصري والتجول في مختلف أنحاء المدينة ومن خلفه حمله الأعلام وهم مشايخ الطريقة. كما تتشابه السفينة المقدسة المحمول عليها آمون وخلفه تماثيل موت وخونسو، وباقي تماثيل ثالوث طيبة مع المولد. فيطوف أرجاء المدينة حتى يصل لمعبد الكرنك. ويتم توزيع الحلوى والمأكولات وإقامة سرادقات وولائم الطعام على مدار أيام الاحتفالات.
عيد الأوبت
يتحدث المؤرخ عبدالجواد عبدالفتاح في كتابه “الأقصر في عهد أبوالحجاج” عن موكب أبوالحجاج. ويقول: “يتقدم مركب الشيخ أبوالحجاج موكب الدورة محمولا على عربة وتحيط به الأعلام، التي يجرها الصبية والكبار ويحيطها الإجلال والوقار. وقد ربط الكثيرون بين مركب الدورة ومركب الإله آمون. والتي كانت تأتي في مهرجان مشابهًا تمامًا من الكرنك إلى الأقصر في حفل بهيج منذ ثلاثة آلاف عام. ولقد رفضها الكثير وأيدها الكثير أيضًا. ولا نجد ما يزعج أن تكون هي امتداد مركب آمون فتاريخنا الطويل الذي يتميز بالاستمرارية والقدم. غير مستبعد أن تكون هي نفس العادة التي ابتهج بها الأقصريون القدماء في عيد الأوبت”.
ويوضح: هناك العديد من العادات والتقاليد التي لا تزال موروثة من العصر الفرعوني حتى الآن. قالقول بالتقادم الزمني بين العصرين لا ينفي ذلك وإلا فماذا يقولون في مراسم الجنازة؟ ولقد رأيت بعيني استخدام الدف في الجنازة بالأقصر. وهي عادة غريبة على كل البقاع، حتى أنه في يوم وفاة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، خرجت المواكب بالأقصر تبكى والنساء مستخدمة الدف. ولم يعرف كل غريب عن الأقصر لماذا يستخدم الدف هذا في جنازة؟ وهو للتعبير عن الفرح والسعادة. ولكن نظرة واحدة في مقبرة راموزا بالأقصر تجيب عن هذا السؤال من فرط الشعر للنساء واستخدام الدف.
السفينة المقدسة
واستطرد عبدالفتاح: ربط العديد من علماء الآثار من المصريين والأجانب بين المركب الذي يصاحب الدورة في مولد أبوالحجاج وبين مركب آمون. وهي سفينة كانت مقدسة يحتفل بها سنويًا. إذ يؤتى بها من معابد الكرنك إلى معبد الأقصر محمولة على أكتاف الكهنة. ويحيط بها الجنود والأمراء في “عيد الأوبت” في الأقصر الفرعونية. ولا غرابة في امتدادها حتى العصر الإسلامي فتاريخ مصر يمتاز بالقدم والاستمرارية. وسواء كانت تلك المركب هي التي استخدمها الشيخ أبوالحجاج في تنقلاته بالأقصر أو هي مركب الإله آمون في “عيد الأوبت” فهو تقليد يشع البهجة والسعادة.
منع الدورة
خلال السنوات الثلاث الأخيرة منعت السلطات التنفيذية في محافظة الأقصر خروج موكب الدورة في خطوة احترازية من انتشار مرض كورونا. ويطالب الأهالي بخروج موكب الدورة هذا العام، وحتى الآن لم يرد بيان رسمي بمنع خروج موكب الدورة في المولد. مما يلوح بالأمل لدى أهالي الأقصر في الاحتفال هذا العام بخروج موكب الدورة.
من هو أبوالحجاج
يعرف المؤرخ الكبير عبدالمنعم الحجاجي في كتابه “الأقصر في عهد أبوالحجاج” القطب الجليل. فهو العارف بالله “يوسف بن عبد الرحيم بن عيسى الزاهد”، ولد في بغداد في أوائل القرن السادس الهجري، في عهد الخليفة العباسي “المقتفى لأمر الله”. ويمتد نسبه إلى الإمام الحسين بن على رضي الله عنهما.
وكان ينتمي لأسرة ميسورة الحال، إذ شغل والده منصب كبير في الدولة العباسية في بغداد. وجاء إلى مصر ونزل بمحافظة الإسكندرية، وفيها التقى أعلام الطرق الصوفية وخاصة الطريقة الرفاعية والشاذلية. وتتلمذ الشيخ أبوالحجاج الأقصري على يد الشيخ عبدالرازق الجازولى. وانتقل بعد ذلك إلى محافظة قنا وفيها التقى القطب الجليل سيدي عبدالرحيم القنائي صاحب المسجد الشهير في محافظة قنا، الذي تأثر به وبعلمه كثيرًا.
وأخيرًا استقر في محافظة الأقصر ومكث بها حتى وفاته في عام 642هـ. ودفن في ضريح داخل مسجد بُني على أطلال كنيسة قديمة في قلب معبد الأقصر، والذي سمى باسمه فيما بعد، في عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب. وعُرف عنه التقوى والزهد وصلاح الحال والعلم الكثير. إذ ترك لنا الكثير من الكتب والمنظومات الشعرية أشهرها منظومة علم التوحيد. وكان كثير الانعزال للتعبد والتأمل، كما كان له مجلس للعلم يقصده العديد من محافظات مصر.