«كريم بدر»: كيف يصبح الفن قريبا من حياة الناس العادية؟

في عالم الفن، حيث تلتقي الثقافات وتتشابك الهويات، يبرز الفن المصري الحديث كمثال ملهم على كيفية تجسيد الفن المعاصر للتراث الثقافي. في هذا السياق، يقدم الباحث والمصور الفوتوغرافي كريم بدر كتاب «Cultural Heritage & Art in Modern Egypt – التراث الثقافي والفن في مصر الحديثة»، الذي يستعرض تطور الفن المصري من بدايات القرن العشرين حتى عام 2014. موضحا كيف عبر الفن عن الروح المصرية المتجددة عبر الأزمان.

الفن والتراث الثقافي

«كيف يعبر الفن المصري الحديث عن التراث الثقافي، وتطوره عبر الزمن بين الأصالة والحداثة؟» من هذا السؤال قدم المصور الفوتوغرافي كريم بدر، الباحث المتخصص في التراث الثقافي، كتابه المنشور إلكترونيا حديثا، وهو عبارة عن دراسته الأكاديمية للحصول على الماجستير في عام 2014 من جامعة باريس 1 السوربون بانثيون.

قرر بدر طرح الدراسة ككتاب إلكتروني بعدما حالت الطرق التقليدية لنشرها ورقيا، بهدف إتاحتها للمهتمين بالمجال الفني النقدي. تبدأ الدراسة بمسح شامل لتاريخ الفن المصري الحديث بدءا من تأسيس مدرسة الفنون الجميلة عام 1908، التي شكلت نقطة انطلاق لتطور الفن في مصر وصولا إلى عام 2013.

يتحدث الباحث الأكاديمي في مجال التراث الثقافي لـ«باب مصر»، قائلا: “يُلقي الكتاب الضوء على كيفية دمج رواد الفن في أوائل القرن العشرين عناصر التراث المصري في أعمالهم”. تغطي الدراسة بشكل مفصل كيفية استفادة الفن من الحركات الوطنية والقومية، خاصةً خلال فترات الثورة، مثل ثورتي 1919 و1952. وتوضح كيف لعب الفن دورا محوريا في تعزيز الشعور بالهوية، واحتفال الفن المصري بالمشاهد الطبيعية والحياة اليومية، موثقا الواقع الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات الريفية والفقراء.

مشهد طقوس زيارة القبور لمحمود سعيد
مشهد طقوس زيارة القبور لمحمود سعيد
 الحدود النقليدية

لم يتوقف تأثير الفن عند الحدود التقليدية؛ بل امتد إلى ردود الفعل السياسية والاجتماعية. يشير الكتاب إلى تأثير حركة “الفن والحرية” التي ظهرت في الأربعينيات، حيث أدخلت السريالية إلى المشهد الفني المصري، مما أدى إلى تحرر الفن من القيود الأكاديمية وفتح آفاق جديدة للتعبير.

كما يتناول الكتاب الاحتفال بالتراث الإسلامي والقبطي من خلال الفن، مع التركيز على الخط العربي والفنون التشكيلية التقليدية، مظهرا كيف أن السريالية لم تؤثر فقط على الأسلوب الفني، بل على تصوير التراث الشعبي.

قدم بدر الرسالة باللغة الإنجليزية، وركز من خلالها على علم التراث الثقافي. متناولا دراسة حركة الفن التشكيلي في مصر خلال القرن العشرين. ليستكشف كيف كانت تعبيرًا أصيلًا عن التراث الثقافي المصري. يتناول الكتاب رصد كيفية استلهام الفنانين للتراث الثقافي وتعبيرهم عنه بطرق متنوعة. مع تسليط الضوء على كيفية تأثير التحولات الاجتماعية المعاصرة على كل حركة فنية أو كل فنان من الفنانين الرواد.

تأثير الفن 

يستعرض الكتاب بشكل مفصل تأثير الفن على التحولات الاجتماعية والسياسية والقومية في مصر، وكيف عبر عن هذه الرموز والقضايا عبر الزمن. ويسلط الضوء على كيفية بناء قاعدة شعبية للفن وتفاعل الجمهور معه، مستعرضًا أمثلة بارزة مثل محمود مختار وتمثاله الشهير “نهضة مصر”، الذي أعاد إحياء تقنيات النحت الجرانيتي التي كانت قد اختفت منذ العصور القديمة.

يتناول الكتاب أيضا أساليب تعبير فنانين آخرين عن الحياة اليومية بطرق متعددة، من خلال تصوير الحياة الريفية والصحراء، مثل أعمال محمد ناجي وراغب عياد. وكذلك استخدام الموروثات الشعبية لإبداع حركات سريالية جديدة، كما تجلى في أعمال عبد الهادي الجزار وحامد ندا.

لتحليل أعمال هؤلاء الفنانين، جمع كريم بدر البيانات من خلال مقابلات ميدانية مع فنانين ونقاد ومديري متاحف وقاعات عرض. كان الهدف من هذه الدراسة هو فهم كيفية إدارة التراث الفني والتفاعل مع الجمهور. مع التركيز على دور المتاحف والمعارض الفنية في المجتمع. ويقول صاحب الكتابات في التراث الثقافي، مثل مشاركته في “القاهرة مؤرخة”: “يستعرض الكتاب ردود الأفعال على الأعمال الفنية، وتفاعل الجمهور معها. وخصوصًا الأعمال الجدارية التي ظهرت في الشوارع. والتي أثرت على المشهد الفني ليس فقط داخل مصر ولكن أيضا خارجيًا”.

دراسة تحليلية

في إطار الدراسة التحليلية، تناول ردود الأفعال على الحركة الفنية المصرية. من خلال تحليل مواطن القصور في الحركة الفنية والمؤسسات الثقافية. والتركيز على دور الفنانين في تقديم فنهم للمجتمع وكيفية تفاعلهم مع الجمهور.

كما تناول الكتاب دور المتاحف والمعارض الفنية في تيسير الوصول إلى الفن المعاصر، بدلاً من حصره فقط في قاعات العرض الخاصة. وكيف ظهر هذا اللون بشدة بالتزامن مع ثورة يناير 2011، من خلال الجداريات الفنية في الشوارع.

وعن كواليس التوثيق، يقول بدر: “ركزت على أعمال اثنين من أبرز فناني الجداريات في تلك الفترة. استعرضت كيف تأثرت أعمالهم بالفن المصري القديم من حيث التعبير الفني والرمزية، وكيف استخدموا ذاكرتهم البصرية المرتبطة بالتراث المصري القديم في نقل الأفكار التي أرادوا التعبير عنها”.

وتطرق الكتاب إلى التحديات التي يواجهها الفن التشكيلي المعاصر، ومدى اهتمام الجمهور به من خلال أسئلة واستبيانات، وتحليل الإجابات لمعرفة مدى اهتمام الناس باقتناء الأعمال الفنية وزيارة المعارض، ومعرفة مدى وعيهم بالفنانين التشكيليين المصريين.

عروس النيل لمحمود مختار
عروس النيل لمحمود مختار
الفن التشكيلي والوعي الثقافي

ويشير الباحث الأكاديمي إلى أمر آخر ساهم في زيادة الوعي بالفن. وهو تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، متناولا دورها في تغيير الصورة النمطية التي تظهر في الأفلام. ويقول: “يتجلى تأثير الفن التشكيلي في مجموعة متنوعة من المجالات الفنية. مثل السينما والمسرح والجداريات في الشوارع والمتاحف الفنية. فضلا عن البرامج التلفزيونية والفقرات الفنية التي تعرض مجسمات متحركة تشبه لوحات بيكار المتحركة. كل هذه العناصر تساهم في تعزيز الوعي الثقافي وتجعل الفن قريبا من حياة الناس اليومية. مهما كانت تصوراتهم عن بعد الفن”.

ويضيف: “رغم إيقاع الحياة السريعة الذي قد يجعل البعض يشعر بالانفصال عن الفن. إلا أن هذا التواصل الثقافي لا يزال قائمًا ويواصل تأثيره على الجمهور”. وعلى مدار العقد الماضي، شهدت مصر زيادة ملحوظة في زيارة الأماكن السياحية مثل الأقصر وأسوان والنوبة. هذه الزيارات أتاحت التفاعل المباشر مع التراث الفني، مما يخلق تراكمًا ثقافيًا غير مباشر ويقرب الناس من الفن الذي لم يكن يومًا بعيدًا عنهم.

 التجريدية المعاصرة

يستعرض الكتاب تطور الحركة الفنية الحديثة في مصر، مع التركيز على تأثير التراث الثقافي والحركة الفنية المعاصرة. إذ تأثر الفن التشكيلي في مصر بالحركة الأوروبية، بسبب وجود فنانين أوروبيين ومستشرقين. ثم قدم الأمير يوسف كمال دعما كبيرا لتأسيس مدرسة الفنون الجميلة. بالإضافة إلى منح دراسية لدعم الفنانين المصريين. هذا الاهتمام أتاح لجيل من الفنانين المصريين التعلم وتطوير أسلوبهم الخاص. واستلهموا التراث المصري لتقديم فن حديث يعبر عن الشخصية المصرية. وبدأت الحركة الفنية بالتطور منذ العشرينيات، حيث تجلى الوعي الوطني والاستقلال بعد ثورة 1919.

في الخمسينيات، قدم فنانون مثل جمال السجيني وحامد عويس وعبد الهادي الجزار رؤى جديدة للقضايا الوطنية. تلت ذلك مرحلة تناول فيها فنانون مثل حامد ندا وجاذبية سري وإنجي أفلاطون موضوعات سريالية. مع معالجة أزمات اجتماعية متباينة.

في السنوات الأخيرة، استكشفت الأجيال الجديدة من الفنانين قضايا إنسانية أعمق، مثل العلاقة بين الإنسان وذاته وتمرده على الواقع. من خلال أعمال مثل تلك التي قدمها مصطفى الرزاز وصلاح طاهر وأحمد نوار. وواصل الفن التشكيلي في مصر التكيف مع التغيرات المجتمعية والإنسانية. مع تقديم تعبيرات تجريدية من خلال أعمال فنانين مثل أحمد نوار وفاروق حسني ومصطفى عبد المعطي ومعتز نصر الدين.

<yoastmark class=

الحركة الفنية التشكيلية في مصر

تظل الحركة الفنية التشكيلية في مصر ديناميكية ومستمرة في تطورها، رغم التحديات الحالية التي تواجهها. وعلى الرغم من بعض الصعوبات، يشهد المشهد الفني نشاطا ملحوظا مع تنظيم مهرجانات ومعارض فنية عديدة. مما يتيح للفنانين فرصة عرض أعمالهم وبيعها.

ويضيف: “يتم الاحتفاء برواد الفن المصري من خلال كتالوجات عالمية وعرض أعمالهم في صالات العرض العالمية. مثل أعمال محمود سعيد وعبد الهادي الجزار. وتقدير أعمال فنانين مثل حامد عويس في معارض دولية. وتُقتنى أعمال فنانين آخرين في متاحف وجاليريهات هامة على مستوى مصر والعالم، مما يعكس التقدير المتزايد للفن التشكيلي المصري”.

ويختتم كريم بدر حديثه قائلا: “من الضروري أن تستمر الحركة الفنية في إلهام الأجيال الجديدة، من خلال دعم المشروعات الفنية والمنح الفنية المقدمة من القطاع الخاص والدولة”.

اقرأ أيضا:

إعادة تعريف الفن في «سوق الجمعة»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر