«قنا».. أصل كل شيء
بعيدا عن مجرى النيل، تقع تلك المدينة ذات الوشاح الصوفي، حيث يرتكز مسجد سيدي عبدالرحيم القناوي في المنتصف تلتف حوله الزوايا والتكايا الصوفية، فهو محور الأحداث فيها يعتز الناس به، وينادونه بالسيد، وهي المحطة الأكثر شهرة في مواصلات قنا الداخلية.
تعبر قنا عن الصعيد بأصوله الراسخة، في كرم الضيافة والحنين إلى الماضي. الحياة الهادئة المتزنة على أنغام أشعار الصوفية والمريدين. اللباس المهيب الذي يتزين به الرجال في كل محفل، فهم يمثلون ثقافتهم التي يعتدون بها ويفتخرون بها في كل حديث. هيبة النيل وجلاله تتخلل أركان المحافظة بشكل لافت، في قنا يمكنك التعرف على الصعيد بشكله الأصيل والعميق دون تخيلات.
حضرة السيد
بين الأزقة الضيقة الساكنة خلف مسجد سيدي عبدالرحيم القناوي، تعقد كل يوم أربعاء حضرة باسمه، وبقدر أهمية تلك الحضرة للمتصوفة المنجذبين إلى السيد، تبقى أهميتها أيضاً للفقراء. فالحضرة التي يتردد فيها ذكر سيدي عبدالرحيم بأناشيد صوفية فرصة ذهبية أيضا لتناول وجبة دسمة من البليلة القناوية، والأرز بلبن.
يؤثر حضور سيدي عبدالرحيم القناوي على شكل الحياة فيها، أسماء المحلات والدكاكين كلها تتعلق بآل البيت والقرب منهم والتقرب إليهم. يصنع سيدي عبدالرحيم الجو العام في المدينة فتجد ذكره عند كل باب. يتنوع شكل البيوت في قنا، بين بيوت للنخبة تحمل طابعا أوروبيا في الشكل، وبين بيوت العوام التي تحمل طابعا مختلفا يعبر عن الطبيعة المحلية والمهنية أيضا مثل بيوت “الفخارين” المسقوفة ببواقي أزيار الفخار، وغالبا ما تكون بالطوب اللبن.
قبلة قوص
في مكان منعزل، تصل إلى قوص عبر طريق محفوف بالأشجار، نقي كنقاء معناها في المصرية القديمة. فهي تسمى “مدينة المرمر”، لكنها على الرغم من تاريخها المصري القديم. مدينة تعبر في كتب التاريخ الحديثة عن المدينة الإسلامية. وذلك لظروف تاريخية مرت بها، ولموقعها المميز على طريق الحج. هنا في مدينة قوص حيث عراقة التاريخ وتراكمه. ظلت قوص لفترة طويلة كعبة العلم الديني في الصعيد، يسكنها الطلاب والعلماء على حد سواء. توفر لهم المدينة جوا مناسبا لبيئة علمية خصبة، أساسها المسجد العتيق، أحد أشهر معالم المدينة ويطلق عليه أيضا “المسجد العمري”. حيث تم تأسيسه في العهد الفاطمي، وتصل إلى هذا الصرح العظيم من أي طريق تسلكه عبر شوارع تلك المدينة الغنية، فهو في منتصفها بالضبط.
هذا المعلم الذي ميز المدينة، لا يقف وحيدا بل على مقربة منه وبشكل آخر وبنمط مختلف. توجد أحد أقدم المعاصر في الصعيد “معصرة الشيخ يونس”، التي يرجع تاريخها إلى أزيد من مائتي سنة، والتي لا زالت حتى الآن تعمل بنفس الطريقة القديمة.
على مقربة من المدينة، توجد قرية تاريخية تسمى “القنابر”. تحمل بين شوارعها الطينية أطلال معبد قديم يرجع تاريخه إلى عصر البطالمة. يتعامل معه الناس على أنه جزء من الشارع، خلى من كل طقوسه التي كان يتميز بها، فأصبح حجارة يستعملها الناس في حياتهم اليومية العادية، هذا المعبد كان مخصصا لعبادة الإله حورس.
تلك المدينة العريقة ذات إرث بطلمي طويل، فيوجد في قرية نائية أيضا تسمى بشنهور، معبدا بطلميا آخر لنفس الإله “حورس” الذي كان الإله المحلي لتلك المقاطعة. لكن تميز هذا المعبد يكمن في امتزاجه مع قرية جراجوس المشهورة بالخزف، ثنائية تاريخية تعبر عن تراكمية المدينة التاريخية.
دندرة وعبقها
على مقربة من المدينة المركزية قنا. ولكن على الشاطئ الآخر من النيل، تقع قرية دندرة ومعبدها العريق الواقع على مدخلها المهيب. وتلك الثنائية التي مزجها التاريخ ببراعة تتجسد في إرث القرية المرتبط بمعبده ارتباطا وثيقا.
فعلى أول الطريق تدخل إلى المعبد الضخم، الذي يُلقي في قلبك الرهبة والمهابة. وأثناء زيارة المعبد، ستنتقل من الفناء الخارجي عبر قاعة الأعمدة إلى ممر يؤدي بك في النهاية إلى قدس الأقداس. يرتفع مستوى الأرض تدريجيا كعادة المعابد المصرية القديمة، فقدس الأقداس لا تصل إليه إلا في حالة صعود. بينما تصبح الأسقف أقل ارتفاعا كما تصبح أكثر قتامة حيث تفسح الساحات المفتوحة ذات الأسقف وقاعات الأعمدة المجال للغرف الداخلية المظلمة. عند قدس الأقداس ينزل عمود ضوء صغير واحد فقط لإلقاء النور على تمثال عبادة الإله. الذي يكفي فقط لرؤيته في منزله أو بالأدق في قدسه.
معبد دندرة، الذي أنشئ في العصر البطلمي، أحد أجمل المعابد المحفوظة لنا حتى الآن وأكثرها تأثيرا في النفس. يحتوي على مناظر جميلة أخاذة محتفظة بألوانها الزرقاء الخلابة حتى الآن. تلك النقوش تتعلق بتأسيس المعبد وتكريسه للآلهة والشعائر والطقوس الدينية التي تسجل معلومات المصريين القدماء فيما يتعلق بأجرام السماء وبروج النجوم والخزائن السرية التي تشكلت في سمك الجدران.
ثم يأخذك الطريق في الجوار إلى ما وراء التاريخ نحو القرية التي ارتبطت واتصلت بالمعبد، والتي حافظت أيضا على شكل بيوتها الأصلية الأنيقة كما كانت، متأثرة بالعمارة الفرعونية القديمة.
نقادة
نقادة التي ارتبطت تاريخيا بالفخار، لا زالت تقف شامخة تعبر عن هذا. فعلى مقربة من المدينة الرئيسية وتحديدا في قرية نجع الشيخ علي، تتنافس ورش الفخار بعمالها الأفذاذ على إنتاج فخار يليق بتاريخهم العريق في المهنة. مشهد يتكرر كل يوم، عمره أزيد من سبعة آلاف عام يعبر حقيقة لا خيالا عن أحد أقدم الحضارات في العالم. لا يتصدر الفخار وحده المشهد في نقادة. فصناعة النسيج أيضا تحاول أن تظهر في الصورة. فقديما كان يصدر أهل نقادة النسيج المسمى بالفركة إلى السودان، الآن في قرية الخطارة لا زالت بعض الورش تعمل على صناعة النسيج.