قطار «أبو قير» في خانة المحو

ربما أدركنا شغف السؤال عن ماذا خسر الإسكندرانية بعزل قطار «أبو قير» من الخدمة نهائيا في انتظار المترو الواعد كبديل لقطار ضواحي المسافات القصيرة الذي عرفناه منذ الصبا، كحافلة ركاب متهالكة، موسومة بالبطء والتعطل دوما، تبعث على الضجر والسأم، وتُسر بروح أخرى خلاقة في آن. تمثل ذلك في انبعاث عديد من صور ومشاهد تعبر عن وجه من وجوه الحياة الاجتماعية في زماننا.

فحين ينهب القطار الشريط الحديدي، مارا بمحطات صغيرة، طاله على أنحاء وأرجاء شعبية تموج بالضجة والصخب، تشبه ما يحمله القطار من وجوه بسطاء احتشد بها لتعلن عن شجون وأوجاع دامية، القطار متسع قليلاً، تنبسط بضفافه مقاعد معدنية طويلة، تحتلها جموع من رجال ونساء وأطفال، تهبط كتل بشرية غفيرة، وتحل أخرى، حيث يضيق الممر بشخوص يغمرها البؤس والشقاء، زائغة العيون وتستفرقها الكروب والبلاء، وليس لديها سوى التلصص والصمت الذي يقطعه سقوط الحائط البشري، ليفصح عن مجتمع مفتوح، يمزق ما احتجب طيلة أعمار مديدة، ويفرَّغ القلوب المعبأة باليأس والسخط، الأسرار والاعترافات، في ثرثرة وهمس يومي زاعق أو خفيض، يروون الحكايات، وبوحا بخبايا النفوس، مشاعر وانفعالات عارية، وتلمس “الكلام في السياسة” في استرابة وتحوط كل ذلك، يؤكد فداحة الأزمة وهشاشة الأمل.

***

لقد اعتاده زبائنه، لألفة انعقدت معه، ولأنهم سكنوا الشوارع والحواري والأزقة المجاورة والتي تدنو من محطاته حيث يفد إلى القطار، نماذج بشرية عرفناها من فرط ترددها طويلاً وأخرى غرباء.

وفي أيام العطلات، يتكاثر رواده، تحديدا يوم الجمعة، فيمضون مبكرا صحبة.. عائلات.. وأفراد نحو المحطات في بهجة وانشراح، يصطحبون زاداً من الفاكهة والحلوى والمرطبات لزيارة الأهل والأنساب، ويعودون في المساء يحملون نفس الروح وذات النشوة الغامرة. ويتبارى كمسارية القطار الذين لا ينتظرون سوى توقيع غرامة على من ليس لديهم تذكرة، وكثيراً ما يتناثر بعض المخبرين، يتفرسون في الوجوه لاصطياد بعض من أرباب السوابق.

ويقطع الممر الذي حفل بزحام الركاب، الباعة الذين يمرون مرات ومرات ونداءات فظة تحمل معاني تُكره زبائن القطار على شراء بضاعة هزيلة وغير رائجة، ولا يزاحم فئة الباعة سوى شحاذون، وعديد ممن ينتحل المرض أو أصحاب عاهات بأردية رثة، وأنات وتأوهات، تتسول مشاعر وعواطف أفئدة الشفقة والرحمة.

***

في ظل تلك الأجواء، لا يغيب مشهد اختلاس العشاق للحظات الحب والهوى بالبحث عن أركان وزوايا أقل ضجة أو بين عربات القطار دون اكتراث لأحد، لتفشي اللهو والنزوات الممتعة، وكثيراً ما كانت تنشب المعارك داخل القطار بين الركاب، الشبان، الرجال، النساء، دون أن نعلم ما الذي أفضى لهذا الهياج والغضب، ولا نشهد سوى الاشتباك وصراخ النساء وصياح الأطفال، وفجأة، ينفض كل ما حدث كما نشأ.

ودوماً، يتأخر القطار، ولا يأتي في ميعاده، حيث يكتظ رصيف المحطة بالركاب، وقتها، تلتهب الحوارات والمناظرات وتصدر تعليقات «زمان نضبط ساعاتنا على موعد القطار»، «لا أحد يعمل»، «لا أحد يراقب»، مروراً بانفعالات التبرم والاستياء حتى يأتي القطار ولا ينفض اللغط حيث التدافع للظفر بمكان في القطار.

وكثيراً، ما تتكرر الحوادث التي يحدثها القطار، تحديدا حين صدمه لشخص أفضى للموت، حيث نشهد الهرج والفوضى، لتعطل القطار، فيهرع الركاب لمشهد الحادثة، وتبرز ملامح وقسمات الأسى لدى النساء، وتتعدد التفسيرات، والبعض لا يعبأ بشيء وتبتدئ رحلة السير في طريق القطار نحو أي اختيار.

لقد حظي قطار «أبو قير» بمظاهر حافلة بالخصوبة والثراء، عالم لم تكتسبه مركبات أخرى اتسمت بالسرعة، الأتوبيس، الميكروباص.. ربما البطء، ميراث القطار، ربما حيث أتسع «للفضفضة». وأن تحطيم العزلة صار ممكنا دائما.

اقرأ أيضا:

تحولات الإسكندرية: شرفات تكدير الهواء الطلق

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر