قصة حياة ووداع: «هنا الأبواب لا تعرفني».. الرسائل الأخيرة لسكان «المكس»
في منطقة “المكس” بالإسكندرية تجلس امرأة تحت الشجرة التي زرعتها أمام منزلها، تقرأ القرآن وتتجمع حولها الطيور، تتحدث عن المنزل الذي بنته مع زوجها بـ25 جنيه فقط. تتذكر أنه كان لطيفًا جدًا، حيث كان يملأ الثقوب بالأوراق حتى لا تدخل الرياح الباردة ويغطيها بأكياس بلاستيكية لتدفئتها، كل صباح. كانت الجنة هناك، لكن هذا المنزل لم يعد موجودًا الآن، إنه مجرد ذكرى.
منطقة المكس
هذه المنطقة عبارة عن مجتمع من الصيادين حول ترعة المحمودية في أحياء المكس بالإسكندرية، لُقبت بـ”فينيسيا الشرق الأوسط” لأنها كانت تتمتع بنفس الأجواء والجمال الذي تتمتع به مدينة البندقية الإيطالية.
عندما بدأ المصور الشاب والقاص البصري محمد مهدي مشروعه للتوثيق المجتمعي “هنا، الأبواب لا تعرفني”، كان يمر بجانبه كل يوم، وفي طريقه للمنزل كان واحدا من أكثر المواقع جاذبية للمصورين الهواة بسبب المناظر الطبيعية الجميلة والأماكن القديمة والناس الودودين.
وفي أحد الأيام، استيقظ السكان على أخبار أنهم سيضطرون إلى مغادرة منازلهم وتاريخهم وربما حياتهم كصيادين. جعله يتساءل: “ما معنى الوطن؟ ماذا يعني النزوح؟ وما هو شعورك عندما تنتظر شيئًا ما ليأتي ويغير حياتك إلى الأبد؟”.
وفي محاولة لفهم هذه الأسئلة، تعاون المصور محمد مهدي مع سكان منطقة “المكس” أبطال مشروعه “هنا، الأبواب لا تعرفني” منذ عام 2016 إلى عام 2022.
«لماذا تكون الصورة انعكاس لما يراه المصور فقط؟ لماذا لا تكون العدسة سببا في نقل قصة صاحبها عبر مشهد واحد» هذه التساؤلات كانت سببا في خلق مشروع مجتمعي مستمر على مدار سبعة أعوام، لتوثيق حياة سكان منطقة “المكس” بالإسكندرية النازحين بسبب التطوير، ونجح المشروع التفاعلي في حصد جائزة World Press Photo لعام 2023.
تطوير “المكس”
«هنا، الأبواب لا تعرفني» هو الاسم الذي اختاره المصور محمد مهدي لمشروعه طويل الأمد، الذي يهدف إلى إيصال صوت “المكس” الذي نزح نصف سكانه بسبب أعمال التطوير في المنطقة.
محمد مهدي القاص البصري، يعيش حاليًا في مدينة الإسكندرية. يعمل في مجال التصوير الوثائقي، وجاءت له فكرة مشروعه بناءً على تجربته في منطقة المكس، والتي تخضع للتطوير خلال مشاريع توسعة وتطوير خندق المياه المحيط بها، بهدف زيادة منسوب المياه. نتيجة لذلك، بدأ الصيادون ينتقلون من مناطق الصيد التقليدية إلى قناة المكس الجديدة.
على مدى أجيال، عاش سكان المكس، بالقرب من المياه. بنوا منازلهم على طول قناة المحمودية، التي تربط قوارب الصيد الخاصة بهم بالبحر الأبيض المتوسط.
ربما بدت الحياة على مياه القناة شاعرية، خاصة للمصورين مثل محمد مهدي، الذي انجذب إلى الموقع في البداية بسبب أجوائه، لكن كسب العيش في صيد السمك في المكس كان دائمًا صعبًا.
تقيد الاتفاقيات البيئية الدولية عدد الأيام التي يمكن للسكان صيد الأسماك فيها. ويجبر التلوث الناتج عن المصانع المحيطة الصيادين على الإبحار لمسافات أبعد في البحر على قوارب خشبية صغيرة، مما يعرض قواربهم وحياتهم للخطر. وعلى الرغم من التحديات، فقد شكل الناس هنا مجتمعًا وثقافة قوية وفريدة من نوعها.
في عام 2020، بدأت الحكومة المصرية إخلاء أجزاء من المكس ونقل السكان إلى مساكن تبعد عدة كيلو مترات عن الترع. وحتى الآن، تم نقل حوالي ثلث حي المكس. بسبب ارتفاع منسوب مياه البحر نتيجة تغير المناخ العالمي والحاجة إلى التجديد والتطوير الحضري كأسباب لإعادة التوطين، لكن العديد من السكان ما زالوا متشككين في ضرورته.
الأمر المؤكد هو أن إعادة التوطين لا تعني هدم المنازل فحسب، بل تعريض الذكريات الجماعية والثقافة المحلية في حي المكس للخطر.
هنا الأبواب لا تعرفني
تتحدث القصص التي يوثقها هذا المشروع عن ذكريات الأشخاص عن المكس التي تلاحقهم في كل مكان، شجع محمد مهدي السكان على كتابة رسائلهم الخاصة، وبناء أرشيف من الذكريات الخاصة للأجيال القادمة.
خلال تواجده في المنطقة، التقى محمد ببعض الأشخاص القدامى الذين تحدثوا عن ذكرياتهم وسردوا قصصًا عن المكان وأحداث الماضي مع أفراد العائلة والأقارب. وعلى حد وصفه لـ”باب مصر”، من هنا جاءت الفكرة لتوثيق حياة سكان “المكس” بالتصوير. حيث يعتبر المكان مهمًا للناس، فإذا مرت بتغييرات يمكن الاحتفاظ بصوره للحفاظ على التراث والذاكرة.
وفي إحدى المرات، التقى محمد بصياد قديم يروي قصة عن كيفية تبادل الصيادين رسائل بحرية كانت موضوعة في زجاجات ورميها في الماء. هذا الحدث كان ملهمًا له، وعثرا على تلك الرسائل التي تمت كتابتها وإلقاؤها في الماء.
تم تطوير فكرة مشروع محمد مهدي بمنحى جديد، وقرر أن يروي القصص الوثائقية من وجهة نظر صاحب الصورة دون تدخل منه كمصور. وبدأ في توزيع ورق على الناس في المنطقة، وطلب منهم أن يكتبوا رسائلهم الأخيرة قبل الرحيل.
المفاجأة كانت عند جمع تلك الرسائل. إذ تبين أنها متنوعة ومؤثرة. وجد محمد رسالة من صياد عن زوجته وشقيقه المتوفيين، وأخرى عن البحر وتوجيه اللوم إليه، ورسالة مكتوبة لمنزل بناه صياد مع زوجته.
استلهم محمد من تلك الرسائل فكرته ليصور العلاقة بين كل شخص وما تأثر به في “المكس”، وبدأ في تصوير المشروع، عبر التقاط صورًا للأشخاص المذكورين في الرسائل، مستندًا إلى ما تم كتابته في تلك الرسائل. كل صورة أو رسالة يتم التقاطها تخلق قصة بالنسبة للشخص الذي يتم تصويره.
الرسائل الأخيرة
يستند المشروع إلى فكرة تسجيل الذكريات. حيث تعكس كل صورة الشخص الذي يتم تصويره ويعزز فكرة المشاركة المجتمعية في العمل ويحكي قصصها الفريدة.
بدأ المشروع في عام 2016، مع روح المنطقة الفريدة وجمالها الذي يشبه مدينة البندقية. تأثر بارتباط الناس بالبحر وحياتهم الفريدة من نوعها، فصاحب كل منزل يترك مركبه الخاص أمام منزله. وهذا يجعلهم يتأثرون بشكل أكبر في حياتهم اليومية وصيد الأسماك.
وفيما يتعلق بالبيئة، قاموا ببناء منازلهم على الضفاف لخدمة طبيعة حياتهم، تغيرت أفكار الناس حول المنطقة. حيث يتحدثون عن فقدان الارتباط بالمكان بعد سنوات من الانتماء إليه، وفقدان الذكريات.
بالنسبة للسكان، فإنهم يشعرون بفقدان جزء من ذاكرتهم وهويتهم عندما يجري نقلهم أو تطوير المنطقة. هناك من يوافق على النقل والتطوير بدون حزن، ولكن هناك من يعبرون عن حزنهم وإصرارهم على البقاء في المكان.
يتمحور مشروع الرسائل والتصوير حول فكرة رسائل البحر، ويتيح لأي شخص أن يضيف شيئًا أو رسالة عن طريق تركها. ويستند المشروع إلى ذكريات الناس على مدى سبع سنوات، ويقول: “تفاعلي مع الموضوع يظهر أن التصوير ينقل شيئين. فإذا لم يكن المصور موثوقًا به، يمكن أن يستغل الصور بطريقة غير مرغوب فيها اجتماعيًا. ولكن عندما تعيش في مكان وتشارك فيه، فإنه لا يوجد وجهة نظر واحدة”.
الصورة كما يجب أن تكون!
عندما بدأ أهل “المكس” في المشاركة بأنفسهم، تباينت وجهات النظر. هناك أشخاص يمكنهم أن يكشفوا عن تاريخ وذكرياتهم وتاريخ المكس والبيت والأهل والأصدقاء. يتم توثيقها بطريقة مجتمعية بدون تحيز.
ويضيف: “التنوع جعلني أرى أن التصوير الوثائقي ينبغي أن يتجه نحو منح الصورة السلطة والحق، دون أن نحدد كمصورين ما نريد تصويره بدون أن نجعل الناس يقررون كيف يظهرون، لأن ذلك حقهم”. ويستكمل: “كان انطباع الناس عندما بدأنا العمل على المشروع يأخذني معهم في رحلاتهم وطلبوا مني توثيق رحلات الصيد أيضًا”.
يهدف المشروع أيضًا إلى تعزيز الوعي وتكوين مجتمع يفهم ويشارك في الأحداث عن طريق كتابة رسائلهم ومشاركة ذكرياتهم ونضالهم وأحلامهم. وأن يكون تراثًا ينتقل إلى الأجيال القادمة.
ويوضح: “ليعلم الأجيال القادمة أنهم لم يتخلوا عن وطنهم أو تراثهم. وأنهم يحملون معهم التقاليد التي نشأوا عليها وصنعوا منها أجمل الذكريات. وأشكر السكان وأبطال القصص الذين شاركوا على مر السنين في تشكيل المشروع الوثائقي”.
نجح المشروع في حصد جائزة World Press Photo لعام 2023. إذ رأت لجنة التحكيم أنه مشروع تعاوني منظم متعدد الأبعاد. يعتمد على نهج التصوير الفوتوغرافي الوثائقي، واستخدام أرشيفات المقيمين، والرسائل الأخيرة، والرسومات المكتوبة بخط اليد، والفيديو، والصوت.
وعن كواليس الفوز، يوضح: “شاركت في مسابقة على موقع تفاعلي حيث قدمت في شهر نوفمبر 2022. وتم الإعلان عن النتائج في شهر مارس أو إبريل. ويحتوي الموقع على ثلاثة أقسام في مجال الصحافة. وتقدمت في القسم الذي يتيح فرصة لتقديم القصص غير التقليدية، حيث يركز الموقع على رواية القصة وليس فقط على الصورة”.
رسائل لأهل المكس
يرى المصور أن الهدف من المشروع هو بقاء رسائلهم وذكرياته، ومن المتوقع أن يجمعها في كتاب بعدما تسلم دفعة أولى من الرسائل التي تم إرسالها من جميع أنحاء العالم إلى سكان المكس والمشروع، الذي يوثق الذاكرة الجماعية والفردية لسكان المكس، ولكن بشكل تعاوني لا يعتمد فقط على وجهة نظره.
وبعد فوزه بجائزة التصوير العالمية انتشرت الفكرة في جميع أنحاء العالم. وبدأ الناس في إرسال رسائل إلى المكس أو لأشخاص محددين من خلال الموقع للتحدث عن معنى المكس أو مشاركة قصة شخصية أو رسمة.
ويقول: “أنا متحمس وسعيد لأنني سأقوم بقراءة وترجمة الآلاف من الرسائل التي وصلت. وسأبدأ في مشاركتها مع السكان ومعكم. الآن يمكنني أن أقول أن المشروع بدأ أخيرًا في إحداث تأثير حتى لو بسيط على المجتمع والسكان”.
اقرأ أيضا:
من مزرعة الحيوانات لـ«عزبة البهايم».. لماذا تثير ترجمة الأدب العالمي للعامية جدلا؟