قصة| المزمار المسحور… د.جليلة القاضي
يقع مركز باراتودا للعلاج بالطب البديل في ولاية كيرالا جنوب الهند، علي أعتاب غابة استوائية حيكت حولها الأساطير فأحاطتها بستار كثيف من الغموض ومثيرا للريبة والتوجس، بحيث لم يجرؤ أحد من النزلاء في المركز على تخطي البوابة التي تفصل حديقته عن الغابة والتوغل داخلها. ولو لعدة أمتار. طوال فترة إقامتي التي امتدت لأسبوعين، سيطرت علي رغبة دفينة لكشف خبايا هذه الغابة التي تطل عليها شرفة غرفتي وتطالعني في كل الصباحات، أشجار الجوز والفلفل الأسود السامقة، والسناجب الرشيقة تعدو على أفرعها بخفة. عشية رحيلنا من باراتودا، وضعت حدا لترددي وعزمت الأمر على خوض المغامرة بمفردي، توجهت إلى الغابة صباحا بعد الإفطار، دلفت بحذر من البوابة، مشيت ببطء في ممر تظلله أفرع الأشجار المتعانقة تاركة بينها فراغات صغيرة تنفذ من خلالها أشعة الشمس. أخذت تتباعد تدريجيا أثناء تقدمي، لينفتح أمامي مشهد يأخذ اللب لصفوف من الباسقات الوراقات المثمرة التي بفضلها تتجدد الحياة. لا شيء يقطع السكون هنا سوي حفيف الأشجار ونعيق الغربان المتواجدة بكثرة في هذه المقاطعة. أخذت أتغلغل داخل الغابة ناسية تنبيه رفيقات غرفتي مرارا بتوخي الحذر..
– هراء ومبالغات
– ألم يفضي لنا سولي الآتي من جزر الموروشيوس بسر ذهابه للغابة وحده كل صباح لممارسة رياضة التاهيشيي؟، يعلم يقينا إذن بخلوها من الحيوانات المفترسة، وإلا لما تركت إدارة المركز بوابة الغابة مفتوحة أو تقاعست عن تعلية السور الفاصل.. أكد سولي أن كل سكان الحديقة من السناجب، وبالفعل لم نشاهد سواها منذ مجيئنا، تمرح بين الأشجار، دون إصدار أيه أصوات، إلا أن بعض النزلاء اجزموا بوجود بعض الفصائل السامة من الثعابين عند الحد الفاصل بين حديقة المركز والغابة، إثر مشاهدتهم لعمال النظافة أثناء اصطيادهم لها بعصيان طويلة ووضعها في أكياس سميكة. لا تخلو المغامرة أكيد، ولا جدال، من المخاطر لكنها ليست بالضخامة التي صورها لنا خيال البعض. ثم كيف تستوي الحياة دون مغامرة، الحياة في حد ذاتها مغامرة كبيرة، أو لا شيء، ثم إني بحاجة لكسر الروتين القاتل للنظام٬ الصارم المفروض علينا في باراتودا منذ أسبوعين.
كنت مستغرقة في أفكاري وتأمل المكان والتعرف على أنواع الأشجار من خلال قراءة البطاقات الأنيقة المعلقة علي جذوعها عندما التقطت أذناي صوتا أثار ريبتي. أخذت أتلفت حولي بوجل، فكرت في التقهقر للخلف والدوران ومن ثم العدو خارج الغابة. ومازلت بعد في بداية رحلتي الاستكشافية. بمجرد أن استدرت للشروع في الهرب، ظهر ثعبان ضخم من فصيلة الكوبرا زاحفا على فرع غليظ لإحدى الأشجار، قاطعا طريق عودتي وكل ما تبقي لي من أمل في النجاة. تدلي بجزعه السميك المغطي بحراشف ألوانها زاعقة لم أشاهد مثلها من قبل، تجمع بين الأرجواني والفيروزي، كأنه يرتدي زيا هنديا لا ينقصه سوى إيشارب برتقالي. نظر إلي بعينيه الضيقتين، تقلصت عضلات رقبته، فتح فمه، وظهر فكه العلوي بأسنانه الحادة، أخرج لسانه، أخذ يحركه يمينا وشمالا، وأصبح على أهبة الاستعداد للانقضاض علي. تيقنت من هلاكي المحتوم. أخذت ذاكرتي تستدعي كل ما قرأته من قبل أو شاهدته في الأفلام لمواجهة الثعابين. هما حلان لا ثالث لهما: إما أن يظهر طرزان فجأة منطلقا نحوي كالقذيفة وينتشلني في اللحظة الأخيرة؛ أو أن اقتله بطبنجتي وأقضي عليه على الفور كما قتلت ديكا بالأمس. كان هذا الأخير يصدعنا بصياحه طوال اليوم. استعدت بانتشاء لحظة إخراجي الطبنجة وتصويبها نحو الديك في اللحظة التي كان يمشي فيها مختالا كالطاووس وسط أربع فرخات، أرديته قتيلا بطلقة واحدة. فأخذت الفراخ تخفق بأجنحتها وترفرف جزلة وزغاريدها تشق عنان السماء.
أدخلت يدي داخل حقيبتي القماشية بتوتر للبحث عن طبنجتي، لم تكن هنا، تذكرت أنني تركتها في حقيبة أخرى. إلا أن أصابعي اصطدمت بجسم، مصقول تعرفت عليه من ملمسه الناعم وفتحاته المستديرة الموجودة علي سطحه. لم يكن سوى الناي الأخضر الذي أهداني إياه راماش، الهندي الفصيح، صاحب المتجر المطل على المحيط في فاركلا. اعتدنا المرور عليه كلما ذهبنا إلى الشاطئ. للسباحة في بحر عمان. أطلقنا علي متجره مغارة علي بابا لاحتوائه على كل ما نحتاج إليه: زيوت أساسية، ومكسرات، وعصير جوز هند، وأناناس دائما طازج، وطارد طبيعي للناموس، وفوط كتانية… كان راماش يتحدث بإنجليزية مفهومة لحد كبير لقضائه عدة سنوات في بريطانيا. لذا كنت استمتع بالحديث معه. أهداني عشية سفرنا، هذا الناي، علي الرغم أنني لا أجيد العزف عليه، لكنه هز رأسه يمينا وشمالا علي طريقتهم قائلا: خذيه ستحتاجين إليه يوما ما.
جلست في وضع القرفصاء على الأرض، أخرجت الناي، وظبطت نغماته بسرعة أدهشتني، لا أدري كيف انطلقت في عزف مقطعا من أوبرا «المزمار المسحور» لموتزارت. وعينيي لا تغادران الكوبرا، الذي بدأ في التقهقر زاحفا حتي اختفي تماما. انخرطت في العزف بكل كياني حتى حلقت خارج الزمان والمكان. انتزعني من حالة تصوفي تلك، ظهور الكوبرا حاملا كمان، تتبعه فرقة موسيقية من الثعابين بكامل آلاتهم الموسيقية. كان يرتدي رباطا أسود للعنق ليميزه عن بقية أعضاء الفرقة باربتطهم الحمراء. اقترب مني، قمت من جلستي، انحني أمامي، شبكت كفاي، حييته علي الطريقة الهندية. اصطف الموسيقيين في نصف دائرة، على اليسار عازفو الكمان الأول، يليهم قسم الكمان الثاني، في الوسط عازفوا الفيولا، علي اليمين عازفوا التشيلي وخلفهم الكونترباص، في الأخر عازفوا الهوائيات والنحاسيات. جلس الكوبرا الكبير، في مقدمة قسم الكمان الأول. أسرت له بالمقطوعة التي سنعزفها، مقطوعة «موزات المصري» التي تجمع بين موسيقى موزارت والموسيقى الشرقية. انهمكوا في ظبط آلاتهم، اتخذت وضع المايسترو، أشرت لهم بالناي الأخضر، بدأت الموسيقى خافتة، شرعوا في العزف بمهارة فائقة في الأداء، تصاعدت النغمات طارت، عبر الغابة، وصلت إلى مسامع نزلاء مركز بإراتودا. خرجوا كلهم من غرفهم ومن صالات التدليك، اتبعوا مصدر الصوت، بدأوا يتوافدون على الموقع. البعض جاء مهرولا، لا يستر جسده سوى الفوطة التي تلتف حول الجزء السفلي للرجال، وتشمل الأعلى للنساء؛ البعض الآخر يرتدي البرنس الفستقي استعدادا لجلسة العلاج؛ الأطباء والطبيبات أتوا ببلاطيهم البيضاء؛ إخصائيات المساج بقمصانهن المخططة: عاملات النظافة بأرديتهم الخضراء، والكناسات بجونلاتهم الطويلة الزرقاء. تجمهر الجميع حول أوركسترا الكوبرا، والدهشة تعقد ألسنتهم، يهزون رؤوسهم إعجابا واستحسانا.
بحركة من يدي، أوقفت العزف. التفت إليهم، طلبت منهم بأدب، الانصراف فورا والعودة بملابس السهرة.