قصة أول مدرسة مشتركة في مصر
بدأ تعليم البنات في مصر في القرن التاسع عشر، وكانت أول مدرسة تنشأ تحت إشراف الدولة المصرية في عهد الخديوي إسماعيل، وهي مدرسة السيوفية التي افتتحت في عام 1873. وتغير اسمها فيما بعد إلى المدرسة “السنية”، قبلها كانت هناك مدارس تضم الفتيات، ولكنها كانت تابعة للجاليات والإرساليات الأجنبية.
لم يكن المجتمع، في تلك الأيام يقبل باختلاط الأولاد والبنات في مدارس مشتركة سوى في المرحلة الإبتدائية، حتى جاء العام 1952 تأسست أول مدرسة مدرسية مشتركة في المرحلة الثانوية، وكانت في مدينة القنطرة شرق التي في منتصف المسافة بين الإسماعيلية وبورسعيد.
وقد قبلت وزارة المعارف بهذه التجربة نظرا للظروف التي وقع بها سكان المدينة. فقد كانت البلدة صغيرة يعرف سكانها بعضهم بعضا تمام المعرفة ونسبة التعليم تزداد تدريجيا في البلدة وأنشئت فيها مدرسة ابتدائية. ثم مدرسة ثانوية للبنين ومدرسة ابتدائية للبنات. ثم واجهتهم مشكلة البنت التي تريد إكمال تعليمها في المدارس الثانوية. ماذا يفعلون بها؟ إن أقرب مدرسة ثانوية للبنات في بورسعيد أو الإسماعيلية. فهل ستذهب الفتاة إلى بورسعيد التي تبعد عنها 40 كيلو ذهابا وإيابا؟ أو تقيم هناك في بورسعيد؟ وكيف ستذهب هناك بمفردها؟ أو تذهب إلى الإسماعيلية وتواجه نفس المشاكل؟
البحث عن حل
ومر عام امتنع الأهالي عن تعليم بناتهم في الثانوي وعام آخر. ولكن ضغط الفتيات يشتد والمدرسة الابتدائية يخرج منها كل عام عددا من البنات المتخرجات ويكون مصيرهن البيت يخلقن هناك المشاكل. ويثرن المناقشات مع الأب والأم حول ضرورة إكمال التعليم. واضطر الأهالي أن يواجهوا المشكلة بطريقتهم الخاصة. قالوا لا بأس أن تذهب البنت إلى مدرسة البنين بشرط الحفاظ على العلاقة بين الطلبة والطالبات. وقبلت وزارة المعارف ولكنها اعتبرتها ظرفا طارئا ولم تعتبرها تجربة يمكن تعميمها حتى بعد نجاحها لعدة سنوات في القنطرة شرق.
رأي وزارة التربية والتعليم
بعد مرور خمس سنوات على هذه التجربة، وفي شهر إبريل من عام 1957 ذهبت مجلة “آخر ساعة” لمدير عام منطقة القناة التعليمية، والذي تقع مدرسة القنطرة الثانوية تحدت إشرافه واسمه “محمد زكي سيد أحمد”. وقد عارض بشدة الاختلاط في المرحلة الثانوي. وقال إنه لا يوافق مطلقا على أن يكون الاختلاط في ثانوي، ولكن يجوز في الفترة التي لا يشعر فيها التلميذ بالجنس. ثم أمنعه في فترة المراهقة الأولى. حيث إنه لم يتسلح بعد بالمعرفة عن الجنس وبعد أن تمر فترة المراهقة سيمكنه عقله من التمييز، فلا يكون هناك خطورة آنذاك أن يختلط في الجامعة.
وتابع حديثه قائلا: “حتى الآن الاختلاط عموما عندنا في مصر قليل وعندما تدخل ابنتي المدرسة الثانوية وأسمع أنها خاطبت شابا سأغضب جدا فمجتمعنا لم يتطور بعد إلى هذه الدرجة. ثم أن الاختلاط عندنا حتى الآن غير مستكمل، كالزيت والماء إذا خلطناهما لا يختلطان. بل يبقى كل عنصر على حدة. وهذا هو نفس ما يحدث في الجامعة. أما مدرسة القنطرة فهذه مسألة ظروف ولا نعتبرها تجربة عامة. إنما هي تجربة للبيئات المماثلة ولا نستطيع أن نطبقها على المدن الكبرى لأن العائلات فيها مختلفة اجتماعيا، لهذا أعارض تعميم التجربة”.
أما “محمد الراوي” وكيل المنطقة التعليمية، فهو كذلك يعارض مبدأ الاختلاط في الثانوي. وقال: “الاختلاط منتشر في الغرب وهذا صحيح. ولكن الغرب لا يزال فاسدا، ولا يصح أن نأخذه قدوة ولنا تقاليدنا الخاصة وديننا، الذي يرى من الخير لنا ألا نتعرض لمثل هذه التجربة أصلا”.
وينتقل التحقيق إلى مدينة بورسعيد لأخذ رأي الأستاذ “عبدالحميد حسين عبدالرازق”، ناظر مدرسة بورسعيد الثانوية بنين، ولم يوافق هو أيضا على فكرة الاختلاط في هذه السن بالذات. فعلاوة على التقاليد التي تمنع مثل هذا الإجراء، فهناك أيضا الطلبة وروح الطلبة المراهقين لا تشجع إطلاقا على هذا.
أول رأي يوافق على الفكرة
أما السيدة “فاطمة سعد”، ناظرة مدرسة البنات الثانوية ببورسعيد. فقد رحبت بالفكرة قائلة: “أن هذه تجربة جميلة وأظن أنه من الأحسن تعميمها في مختلف مدارس القطر”.
وأضافت: “لاشك أن الاختلاط ينمي شخصية البنت. وقد رأيت هذه التجربة في ابنتي فعندما كانت في مدرسة ابتدائية للبنات كانت تبدو خجلة في حضور الضيوف. ولا تكاد تنطق أمامهم بحرف واحد، ولكنها عندما التحقت بمدرسة مختلطة تغير الحال وصارت تناقش آراؤهم بحرية لم أعهدها فيها”.
آراء معارضة من قلب القاهرة
وعندما ذهب استطلاع الرأي لأحد المدرسين بالمطرية في القاهرة، كان رأيه صادما. فقد قال الأستاذ “عبدالرحمن المغربل”، مدرس أول اللغة الإنجليزية بمدرسة المطرية الثانوية: “إننا نحول مدارسنا الثانوية إلى مدارس مختلطة تقليدا للغرب. لماذا؟ مع أن بيننا وبينهم فروقا جوهرية كثيرة فجونا حار ودمنا حار كذلك. وهذا يساعد كثيرا على إثارة الغريزة الجنسية لأقل سبب. ثم أنهم لا يهتمون بالبكارة عند الفتيات، أما تقاليدنا فتعتبر هذا الموضوع في المرتبة الأولى من الأهمية”.
وتابع متحدثا عن تجربة الجامعات المصرية: “أن الطالبات في الجامعة غير متفوقات علميا. أما في ثانوي فهن متفوقات لأنهن لا يجدن ما يشغلهن عن الدراسة والعلم. فلو أخذنا بنظام الاختلاط فلاشك أن مستوى التعليم سوف ينخفض كثيرا عما هو عليه الآن”.
ناظر المدرسة المختلطة يتكلم
ولكن ناظر المدرسة المختلطة بالقنطرة، كان له رأيا آخر. فقد أكد أنها تجربة ناجحة وأدت إلى خلق جو من التنافس بين الطلبة والطالبات. وأضاف أن الذين ينادون بغير الاختلاط رأيهم غير تقدمي فالنتيجة عكس ما ينادي بها الكتاب الرجعيون. وطالب بتعميم هذه التجربة في جميع مدارس القطر المصري.
وتحدث أحد المدرسين في المدرسة المختلطة واسمه “إبراهيم الجندي”، وهو مدرس لغة إنجليزية. وقال: “أنا لا أحبذ الاختلاط لأن هناك مشاكل كثيرة تحدث. منها ما يحدث لنا كمدرسين بصفة خاصة وخصوصا أن معظمنا شباب. فإذا نالت طالبة درجة أعلى من الطالب قالوا “إشمعنا؟” لازم فيه حاجة. وأن المدرس ده بيودي وشه كتير ناحية البنات وهكذا”.
ويواصل المدرس فيحكي قصة طريفة من داخل المدرسة المختلطة: “نسيت مرة كتابي الذي أشرح منه. فاستعرت كتابا من أحد الطلبة وأعطاه لي بدون وعي. فوجدت فيه بضعة أبيات شعرية عن زميلاته الطالبات. وكان في الفصل فتيات أسماؤهن نرجس – ثريا- سلوى- ابتسام”، فكتب الطالب قصيدة جاء فيها:
ثريا نرجس الورد
ثريا سلوة الفصل
ثريا بسمة الأمل
ثريا أول الفصل
علاوة على التعليقات التي وجدتها على القصيدة. وكل هذا معناه أنه يحدث أثناء الحصة ولاشك أن هذا معناه أيضا أن الطلبة مشغولون عن الدراسة بالجو الذي يحيط بهم.
وكانت هناك آراء مؤيدة لفكرة الاختلاط من بين مدرسين المدرسة، فالأستاذ مصطفى الخياط، مدرس العلوم بالمدرسة، قال إن الأولاد مؤدبون أكثر من طلبة المدارس الأخرى وسلوكهم قد تهذب لوجود البنات معهم. ولكني لا أظن تعميمها في القطر يمكن أن يؤدي إلى نتيجة حسنة لأن هذا مجتمع محلي صغير وكل واحد يعرف الآخر. أما إذا طبقت في المدن الكبيرة فستفشل قطعا.
رأي طالبات المدرسة
وعندما سئلت طالبات المدرسة المختلطة على رأيهن في هذه التجربة، فكانت النتيجة أن معظم الفتيات يوافقن على الاختلاط فقالت “ثريا النادي”، إنه لا ضرر من الاختلاط وأنها تفضله حتى عندما تذهب للجامعة تكون قد اعتادت على الاختلاط ولا تنزعج وأنه يحدث كثيرا أن يمر أحد الطلبة عليها في البيت ليستعير كراسة أو يعطيها شيئا ولا يعترض أحد في البيت على هذا.
ولكنها اشتكت من عدم اشتراك البنات في أي نشاط ولا رحلات مدرسية ولا حفلات وحريتهم مقيدة في المدرسة، أما الطلبة فحريتهم كاملة. والطالبة سلوى عبدالله راشد قالت: “إننا نكلم الطلبة في الفصل فقط، ولكن خارج المدرسة نكلمهم بتحفظ شديد وفي الغالب نعمل نفسنا مانعرفهمش وأن الاختلاط يجعلها تبدو في مظهر حسن وقد تتأخر لأن البلوزة مش مكوية فتكويها مع أن ذلك لا يهمها إذا كانت في مدرسة بنات”.
أما الطلبة فكان رأيهم أن الاختلاط يقيد حريتهم ويخشون دائما الخطأ في الإجابات عن الأسئلة أمام الطالبات والمدرسين يوجهون اهتمامهم نحو الطالبات، وكذلك يحرجون أحيانا في شرح بعض الموضوعات المتعلقة بالجنس وبعضهم رأى أن الاختلاط يقوي شخصية الطالب ويهذبها، أما الطالب “عبدالصبور العروسي”، فهو صعيدي وعندما سئل عن رأيه في هل يرضى أن تجلس أخته إلى جانب طالب في فصل واحد؟ فأجاب: لا أوافق أبدا”.
رأي رجال الدين
وتوجه التحقيق إلى رجال الدين، فعبدالله راشد، أمين صندوق الجمعية الخيرية الإسلامية، قال: “إن هذه التجربة لا تنفع إلا في القرى وليس في المدن، فالقنطرة مثلا ليس فيها سينما أو حدائق حتى يتقابل فيها الأولاد والبنات وأعتقد أن الاختلاط في مدرسة القنطرة أحسن من الداخلية في مدارس البنات في أي بلد آخر أو تسكن البنت بمفردها وطبعا إذا كان هنا مدرسة خاصة بالبنات فأنا أذهب بابنتي إليها دون شك”.
أما الأب بولس فيقول: “المهم هو أدب البنت، مادامت البنت مؤدبة من الأصل فلا خطر على أي شيء وما حدث هنا مسألة ضرورة”.
وهكذا وحتى إبريل 1957 وانقضاء خمس سنوات على أول تجربة اختلاط في المدارس الثانوية في مصر، كانت الوزارة لا تعترف بهذا الاختلاط ولا تعتبر مدرسة القنطرة الثانوية المختلطة تجربة ولكنها اعتبرتها ظرفا استثنائيا، ومن المفارقات أن وقت هذا التحقيق – 1957- كانت المرأة المصرية تخوض أول تجربة لها في التاريخ للترشح للبرلمان وهو الحق الذي انتزعته وفق دستور 1956.