قبة بدر.. أثر فاطمي منسي خلف ظلال الصوفية
وسط مقابر باب النصر الخشبية، وأمام تلك البوابة التاريخية للقاهرة الفاطمية، تقبع وسط الأضرحة وشواهد القبور قبة ذات تصميم فاطمي لا تخطئه عين الخبير. مكتوب على مدخلها أنها المقر الرئيسي لمشيخة عموم السجادة السعدية الشيبانية. وأن بها مقام السيد يونس السعدي الإدريسي الشيباني. لكن بالبحث التاريخي نكتشف أن هذه القبة تنتمي لشخصية مهمة عبرت على تاريخ القاهرة وتركت بصمة لا تمحى، وتحديدا في الحقبة الفاطمية. إذ أن القبر القابع تحت القبة يعود في الحقيقة إلى الوزير الأجل بدر الجمالي (توفى سنة 487هـ/ 1094م)، تلك الشخصية الضخمة في تاريخ مصر الفاطمية، وأحد بناة القاهرة الكبار على مدار تاريخها الألفي.
قبة بدر
قبة بدر الجمالي المعروفة عند أهالي باب النصر وبعض الطرق الصوفية باسم (قبة الشيخ يونس السعدي)، مكان يسكنه سحر مدينة القاهرة ويلخص الكثير من تنوعها الحضاري. فهنا تتراكم طبقات التاريخ وتنصهر معا في سبيكة تتداخل مكوناتها بصورة غير محسوسة. فنرى التاريخ وهو يمارس هوايته المفضلة في مراكمة الأحداث التي تمنح كل بقعة خصوصية لا تنكر. فالقبة التي تعود إلى بدر الجمالي الوزير الفاطمي القوي. أصبحت في يوم ما في حدود القرن التاسع عشر الميلادي، تحت سيطرة الطريقة الصوفية السعدية، التي ورثت بعض العادات والاحتفالات الفاطمية بالإضافة إلى وراثة مقبرة الجمالي وابنه الأفضل شاهنشاه، فما هي قصة ذلك التحول؟
ينص المقريزي في أكثر من موضع من كتابه (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار) على أن أول بناء في المنطقة الفضاء الواقعة خارج باب النصر في العصر الفاطمي، هو قبر بدر الجمالي. إذ يقول: “أنشأ [أي بدر] تربة عظيمة وفيها قبره هو وولده الأفضل بن أمير الجيوش وأبو علي كتيفات”. ويضيف في موضع آخر: “اعلم أن المقابر، التي هي الآن خارج باب النصر، إنما حدثت بعد سنة ثمانين وأربع مائة. وأول تربة بنيت هناك تربة أمير الجيوش بدر الجمالي، لما مات ودفن فيه، وكان خطها يعرف برأس الطابية”، وتوضح هذه النصوص بداية الظهور التاريخي لهذه القبة.
ودار حوار مطول بين الأثريين والمؤرخين حول نسبة هذه القبة الواقعة في قلب مقابر باب النصر. وذلك رغم اتفاقهم على أنها قبة فاطمية الطراز بلا شك. وتعود إلى عصر بدر الجمالي أي النصف الثاني من القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. إذ يذهب الأثري المصري حسن عبدالوهاب في كتابه (تاريخ المساجد الأثرية) إلى ترجيح أن قبة بدر الجمالي هي نفسها قبة الشيخ يونس السعدي. بينما لم يأخذ بهذا الرأي الأثري كريزويل، لكنه أكد أن دراسة القبة الأثرية تثبت أنها من أعمال نفس الفترة التي توفي فيها بدر الجمالي. ويحدد في كتابه (العمارة الإسلامية في مصر) فترة بناء القبة بين عامي 1094 و1125م.
أمير الجيوش
الدكتور أيمن فؤاد سيد عرض في هوامش تحقيقه لكتاب (المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار)، للحوار العلمي حول إثبات نسبة القبة إلى أمير الجيوش قائلا: “رجح الآثاري الراحل حسن عبدالوهاب… أن هذه القبة هي قبر بدر الجمالي، اعتمادا على ما تذكره المصادر من أنه دفن خارج باب النصر. وتبنى محمد رمزي في أحد تعليقاته على النجوم الزاهرة الرأي نفسه اعتمادًا على نص للسخاوي صاحب (تحفة الأحباب). ولكن دون عرض لأسباب ذلك. واستبعد كريزويل وأحمد فكري هذا التحديد، الذي اعتبراه فرضًا بما أنه لا توجد أية كتابة تؤكده. ولكن يوسف راغب اعتمادًا على كتاب (وصف مصر) وخريطة القاهرة التي رسمها علماء الحملة الفرنسية سنة 1798م. أثبت أن قبة يونس السعدي تظهر في هذه الخريطة باسم (زاوية السيد بدر). وبالتالي فإن هذا المصدر الذي لا يمكن دحضه يسمح لنا بالقول بأن قبة يونس السعدي المسجلة في الآثار برقم 511، هي قبة بدر الجمالي. وأنه تغير اسمها بعد نهاية القرن الثامن عشر، ربما في أعقاب تعد على المكان أو اغتصاب له”.
هناك أدلة أخرى تميل إلى إثبات نسبة القبة إلى بدر الجمالي، منها الكتابة التي تؤطر عقد المحراب. ونصها: “إنما يعمر مساجد الله من يؤمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك…”. ومن أسف أن هذه الكتابة هي كل ما بقى من كتابة تاريخية كانت تزين القبة من الداخل. ورغم أن هذه الكتابة لا تحمل أي إشارة تاريخية فالثابت أنها مكتوبة بالخط الكوفي المزهر الذي ميز العمائر الفاطمية. كما تشبه التفاصيل المعمارية للقبة مثيلتها التي تعود إلى العصر الفاطمي الثاني مثل قبتي عاتكة والجعفري بشارع الأشراف. وهي أمور ترجح أن القبة تعود بالفعل إلى بدر الجمالي وابنه الأفضل. وأن الطريقة السعدية وضعت يديها على هذه القبة ونسبت ضريح بدر الجمالي إلى يونس الأصغر ابن سعد الدين الجباوي الشيباني مؤسس الطريقة السعدية.
الطريقة السعدية
ومن الأمور اللافتة أن بعض المتواجدين في القبة من أبناء الطريقة السعدية قالوا لـ”باب مصر” إن تاريخ تواجد الطريقة السعدية في مصر يعود إلى الربع الأخير من القرن الخامس الهجري. وهو نفس تاريخ وفاة بدر الجمالي، على الرغم من أن مؤسس الطريقة السعدية توفي بعد وفاة الجمالي بقرن كامل. وتحديدا في سنة 575هـ/ 1180م. أي بعد سقوط الخلافة الفاطمية نفسها وتخلي دولة الأيوبيين عن استخدام الخط الكوفي المزهر الذي استخدم في تزيين قبة بدر. وهو ما يرجح بناء على معلومات خريطة الحملة الفرنسية. أن أبناء هذه الطريقة الصوفية قد استقروا في هذه القبة ونسبوها لمؤسس طريقتهم في حدود القرن التاسع عشر. بعد أن رأوا تاريخ وفاة بدر الجمالي الذي كان ولا شك مسجلا على حائط المقبرة الداخلية. خصوصا أن هناك بعض الاحتفالات الفاطمية التي انتقلت إلى هذه الطريقة الصوفية كما غيرها من الطرق الصوفية.
أما صاحب القبة الأصلي فهو السيد الأجل أمير الجيوش بدر الجمالي، كافل قضاة المسلمين وهادي دعاة المؤمنين، والوزير القوى للخليفة الفاطمي الضعيف المستنصر بالله (حكم 427-487هـ/1036-1094م). الذي بدأ رحلة صعوده من ولاية الشام للفاطميين فحصل على لقب أمير الجيوش. ثم سرعان ما ترك الشام بسبب الفوضى وتولى عكا، ومنها استدعاه الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي عاني من فوضى سياسية وحرب أهلية بين فرق الجيش. عرفت في التاريخ باسم الشدة المستنصرية، والتي استمرت لسنوات عدة. فجاء بدر الجمالي الأرمني الأصل مع فرق أرمنية من الشام إلى مصر بحرا. وأعاد عبر التخلص من فرق الجيش المتناحرة الاستقرار والهدوء إلى مصر. وبعد أن فوض له الخليفة كل صلاحياته أصبح الرجل القوى في الدولة الفاطمية لأكثر من عشرين عاما.
بصمات معمارية
خلال الفترة التي حكم فيها بدر مصر، ترك الكثير من البصمات المعمارية في القاهرة ومختلف المدن المصرية. ففي الإسكندرية أعاد بناء جامع العطارين ولا تزال اللوحة التأسيسية الخاصة به موجودة داخل الجامع. كما ترك الكثير من المنشآت في مدن الصعيد، لكن القاهرة حصدت الحيز الأكبر من جهود الجمالي العمرانية. فقد وسع أسوار القاهرة وأعاد بناء أبواب القاهرة التي لا تزال قائمة حتى الآن وهي الفتوح والنصر وزويلة والبرقية. كما بنى المشهد الجيوشي بأعلى جبل المقطم، فضلا عن بناء قبة ضريحية خارج باب النصر. والتي تعرف بين الناس الآن باسم قبة يونس السعدي. هذه القبة التي تحتاج إلى مزيد من الاهتمام والتوثيق والتنقيب الأثري في المنطقة المحيطة. قادرة على أن تتحول إلى نقطة جذب سياحي حول قبر باني أسوار القاهرة الشامخة.
اقرأ أيضا:
مفاتيح القرافة.. لمسة مصرية على دنيا الأموات