قاهرة يوليو (6): الفاتحون في وسط المدينة
شرعت جمهورية يوليو، بعد أزمة السويس (1956) في تمصير وسط المدينة، التي كانت تعتبر أيام الملكية -حسب تعبير الباحثة جانيت أبو لغد “ساحل الذهب” (Côte d’Or). بعد 56 رحل العديد من سكان وسط المدينة الأجانب و الأرستقراطيين، لتتبدل التركيبة العرقية لسكان وسط المدينة بشكل جذري، متجهة في مسار واضح نحو التمصير، لدرجة أن المصريين المسلمين أصبحوا يمثلوا ثلاثة أرباع سكان وسط البلد في عام 1960. هذه النسبة، بحسب أبو لغد، هي علامة على «توحيد جديد» بين ما تبقى من طبقة الأرستقراطيين والجماهير، وبالتالي، والكلام لأبو لغد أيضًا، «تم استئصال أكثر جوانب الاغتراب فجاجة في المدينة بشكل نهائي».
نعتقد أن التوحيد السكاني الجديد الذي قصدته جانيت أبو لغد لا يمكن أن يتمثل سوى في النسب والأرقام، ذلك أن الفجوة بين الطبقات المجتمعية في وسط المدينة قد زادت فيما قبل الثورة ووصلت إلى نقطة اللاعودة.
كما تشير وقائع التاريخ إلى أن معظم أفراد طبقة الأرستقراطيين قد تم إجبارهم على مغادرة مساكنهم وأحيانا على الخروج من البلاد (شأن الأجانب ومعظم أفراد العائلة المالكة). بعض هؤلاء غادروا طواعية إلى الأحياء الجديدة على الضفة الغربية للنهر. بالإضافة إلى ذلك، اتخذ النظام تدابير قاسية ضد أنصار الملكية والطبقة الأرستقراطية، فتم تجنيبهم تمامًا ومنعهم من المشاركة المجتمعية والسياسية، توجسًا من نواياهم ومنعًا لحدوث حالات انشقاق بحسب مرسيدس فوليه. وبالتالي مسألة التوحيد السكاني بين الأرستقراطيين والطبقات الوسطى والدنيا من الشعب ببساطة ضرب من الخيال.
***
في هذا المقام، نعتقد أن النظام الجديد أراد كسب ثقة عامة الشعب من خلال فتح وسط العاصمة للطبقات المتوسطة والمحرومة. لدرجة أن وسط البلد أصبحت تمثل شرعية عمرانية للنظام الجديد. وهذه مفارقة جديرة بالنظر، إذ كان هذا هو الحال أيام الخديو إسماعيل عندما قرر أن تصبح “المدينة الحديثة” دليلًا على مشروع التحديث، الذي ابتدأه خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. سكن المستخدمون الجدد من الطبقات الوسطى والدنيا مدينة إسماعيل كأنهم «فاتحون منتصرون» على حد تعبير الصحفي يحيى وجدي. يستحضر (الناظر) راوي في قطعة من أوروبا لرضوى عاشور عملية تمصير وسط المدينة معتبرًا إياها خلافة أو تراثًا:
“تأمل الناظر فكرته ومسار الكلام. قال: مصَّر الضباط الأحرار قلب المدينة ومنحوه للطبقة الوسطى، ما معنى ذلك؟ هذا موضوع شائك ومعقد يحتاج مقالا. كيف أمزج الحكاية بالمقال؟، لا مانع من مقال قصير تحتويه الحكاية، ولكن الموضوع يتطلب مقالا طويلا”.
يقرر الناظر في النهاية التوقف عن مناقشة موضوع منح قلب المدينة للطبقة الوسطى في مقال طويل مذكرًا قراءه: “ليست مهمتي الآن نقل تفاصيل الانتقال وأشكاله، وتحليل كيف ولماذا ورث من ورث القاهرة الرومية”.
وفيما يتعلق براوي رضوى عاشور، ترى مارا نامان أن الناظر لا يقدر حقًا عملية تمصير وسط المدينة أو جدواها. نلاحظ أن الناظر يتردد بين رؤيتين متعارضتين لكن مرتبطتين في مفارقة. الرؤية الأولى هي إعجاب الناظر بالنظام الجديد الذي يحارب بطموح لبناء دولة حديثة ومستقلة. وهو ما لا يسمح له بإلقاء اللوم على الضباط الأحرار أو على قراراتهم. أما الرؤية الأخرى، فهي الشعور بالرثاء على «العصر الذهبي» الذي عاشته وسط البلد. مما يجعله يستحضر تحول وسط المدينة بمشاعر متأرجحة بين “الحنين والمرارة” بحسب نامان.
***
كان لجوانب التمصير تأثير عظيم على الطابع الأوروبي الذي اتسمت به وسط المدينة. فقد استبدلت بعض لافتات الشوارع ولافتات المتاجر المكتوبة بالفرنسية بلافتات مكتوبة باللغة العربية. وأصبحت أماكن اللهو والترفيه التي كانت مقصورة على الأجانب مفتوحة للمصريين، مثل نادي الجزيرة في جزيرة الزمالك الذي كان يعتبر المكان “الأكثر رفضًا للمصريين” أو «قلعة الأجانب»، بحسب جانيت أبو لغد.
ولتلبية احتياجات المستخدمين الجدد تم على عجل تجديد دور السينما التي احترقت في حريق القاهرة. وبدأت بعض هذه الدور، التي كانت تخصصت آنفًا في عرض الأفلام الأجنبية، في بث الأفلام العربية. ظهرت مسارح سينمائية جديدة في وسط المدينة، مثل دار سينما ومسرح قصر النيل، وانطلق المسرح القومي بفرقتيه في إحياء المسرحيات العربية القديمة.
أما دار الأوبرا– الخديوية والملكية سابقًا- فقد أخذت مكانها في تلبية احتياجات السكان الجدد من خلال العروض الشعبية وحفلات المطربين المصريين بدلاً من عروض الأوبرا الإيطالية والأوركسترا السيمفونية. لكن العروض الجديدة في الأوبرا لم يشأ لها القدر أن تستمر طويلًا: ففي عام 1971، دمرها حريق غامض تمامًا. وأصبح موقعها مواقف مفتوحة للسيارات ثم جراجًا متعدد الطوابق يتبع لمحافظة القاهرة. أما بالنسبة للملاهي والكازينوهات حول دار الأوبرا وفي حي الأزبكية، والتي أكلت معظمها النيران خلال حريق القاهرة الكبير، فقد تم نقلها على طول الضفة الغربية لشارع الهرم المؤدي إلى أهرامات الجيزة.
***
عادة ما يلتقي المثقفون المصريون في مقاهي وسط المدينة. وأشهرها مقهى الأمريكين في شارع فؤاد الأول، الذي أصبح شارع 26 يوليه (ذكرى خروج الملك فاروق من مصر، وهو يوم تأميم قناة السويس). اكتسب مقهى الأمريكين خلال عملية التمصير مكانة أكبر. إذ أصبح يتردد عليها فئة موظفي الحكومة (البيروقراطيين). وهم امتداد لطبقة الأفندية الذين تلقوا تعليمًا جامعيًا مرموقًا سمح لهم بالعمل في مرافق الدولة.
في ظل النظام الناصري، أصبح هؤلاء الموظفون الشباب قاعدة قوية لطبقة طموحة تعبر عن أحلام النظام الجديد ومفهومه للتحديث نحو إتمام عملية التمصير. وكما تزدهر مقاهي المثقفين والموظفين، تزدهر مقاهي الحشيش “الغرز” على الرغم من حظر تعاطي المخدرات. خلال الستينات، أصبحت مقاهي الحشيش نقاط التقاء المثقفين المصريين، حيث تدور نقاشات جادة وأحيانا ساخرة حول تجربة تحديث ناصر، وفقًا لمارا نامان.
أما بعض المقاهي التاريخية بوسط المدينة فقد كانت هدفًا لتغييرات في الاستخدام. فمثلًا، مقهى ماتاتيا الشهير (المبني بين عامي 1872-1874) والذي يعود تاريخه إلى زمن إسماعيل. كان مكانا لجمع وجوه عصره مثل جمال الدين الأفغاني والشاعر حافظ إبراهيم ومحمد المويلحي وسعد زغلول. مقهى ماتاتيا، الذي شهد اجتماعات قادة الجيش المصري التي مهدت لثورة عرابي عام 1881 تم إغلاقه في عام 1960. ثم تم تقسيم مساحته إلى خمسة متاجر كبيرة.
***
أدى التغيير في التكوين الديموجرافي لمنطقة وسط البلد منذ عام 1956 إلى تحول في مستوى الأنشطة التجارية التي كانت تعتبر غربية في مناطق مثل منطقة التوفيقية والأزبكية وباب اللوق. تغيرت أنماط الاستهلاك نتيجة اختلاف الفئة المستخدمة من ملاك ومستهلكين عن فئة الأجانب والأرستقراطيين. قبل عام 1952، لم تكن السلع والأسعار الأجنبية في متناول الطبقات الدنيا أو «غير الأرستقراطية»، على حد تعبير جانيت أبو لغد. لكن فيما بعد، تم التخلص تدريجيًا من هذه السلع واستبدالها بسلع أخرى تجذب المستهلك الجديد.
وأخيرًا، ظهرت السيدات المصريات، اللاتي وصفتهن أبو لغد بأنهن «ذوات العباءات السوداء أو الملايات»، واللواتي يسكن المناطق الشعبية في شمال وشرق القاهرة. ظهرن أخيرًا أمام فاترينات شارع سليمان باشا وشارع شارع فؤاد الأول، الذي جاهد للحفاظ على روح الرفاهية داخل”متاجره الكبرى”. وكمثل النسوة ذوات العباءات البلدي، ظهر في وسط المدينة فتية وفتيات ينتمون إلى الطبقة الوسطى، وهم يتسوقون ملابسهم من متاجر وسط المدينة، فبدت ملابسهم “جلودًا جديدة”.
أثبت مشروع التمصير الجديد علاقة مباشرة بين تحولات الاستخدام في وسط المدينة وروح العصر الجديد العامة. حيث يختلط الفخر بالتناقض. أما الفخر، فغالبًا ما كان يستحضره جمال عبد الناصر بجملته الشهيرة: “ارفع رأسك يا أخي: فقد مضى عهد الاستعباد”. أما التناقض، فتؤكد مارار نامان أنه مرتبط بالطبيعة المتنازع عليها لوسط المدينة. ففي عمرانها ومآثرها المعمارية أثر قديم للتمييز المجتمعي وللاستعمار. ثم أنها الترجمة العمرانية لمشروع إسماعيل التحديثي لكنها – في عصر جمهورية يوليو – أصبحت في قلب عملية التمصير ووفق مفهوم جديد للتحديث.
***
وبحسب نامان، أصبح المجال العام لوسط القاهرة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي مسرحًا لثورة اجتماعية واقتصادية بدأت للتو في قلب الأمة المصرية من ناحية. ومن ناحية أخرى وفي نفس الوقت شهدت نفس المنطقة تدميرًا ممنهجًا لعملية التحديث “الإسماعيلية” القديمة. وبالتالي، يُنظر إلى وسط المدينة خلال هذه الفترة على أنه مسرح اجتماعي تُنفذ فيه عمليات الهدم والبناء في نفس الوقت. حتى أن الناظر، راوي “قطعة من أوروبا”، لا يزال يذكر بأسف تحولات وسط المدينة. حيث يعتبر العصر الجديد – عصر جمهورية يوليو – رحلة عبر الزمن لها خصائصها الخاصة. اختلف فيها السكان والعادات واللهجات والاحتياجات اختلافًا كبيرًا عما كان عليه الحال سابقًا. فبدا له أن وسط المدينة تسير في وجهة مختلفة ربما غامضة:
“كانت القاهرة الرومية المعروفة بوسط البلد تمشي في اتجاه زمن آخر، تطوي ملابسها وتحمل حقيبتها وتشرع في سفر: ســافرت إلى زمن آخر أو جاءها هذا الزمن بأهله ولغته ورموزه ومطالبه، لا فرق”.