قاهرة يوليو (9): شوارع وميادين وتماثيل

تناولنا في الحلقة السابقة من السلسلة كيف تغيرت استخدامات بعض القصور في عهد جمهورية يوليو وكيف تغير وجه ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) فأصبح يجمع بين نقيضي البناء والهدم. لم تكن القصور والمباني الهامة بوسط المدينة هي التي شهدت تحولات جذرية فحسب، بل أن التحول قد طال أسماء الميادين والشوارع أيضًا. ففي سبتمبر 1954، ظهر للوجود قرار بتغيير أسماء الميادين والشوارع التي تحمل أسماء أفراد العائلة المالكة وكذا الشخصيات التي ارتبط اسمها بعلاقات مع البلاط الملكي أو مع سلطات الاحتلال. وبناءً على هذا القرار، فقد حلت محل هؤلاء أسماء شخصيات وطنية أو تواريخ ترمز لأحداث قومية أو مصطلحات ذات دلالة تعكس هوية النظام الجديد وتوجهاته.

بدأت حملة تغيير الأسماء بالطرق والشوارع الرئيسية المتآخمة لمقرات السلطة والأماكن المهمة في القاهرة. وبحسب الروائي حمدي أبو جليل، فإن هذا القرار أدى إلى انفصال هذه الشوارع عن تاريخها. نعتقد أن السلطة الجديدة تعمدت محو جهود الذين ساهموا في تأسيس وتنفيذ مشروع تحديث مصر خلال القرن التاسع عشر من الأسرة العلوية والسبب أن هذه الأخيرة تننمي إلى العهد البائد.

***

إن قائمة التغييرات في أسماء الشوارع والميادين طويلة، ولذا فسوف نكتفي بعرض بعض الأمثلة. تبدأ هذه التغييرات بميدان محمد علي باشا الذي اتخذ اسمه القديم «ميدان العتبة». أما ميدان وشارع الخديوي إسماعيل فقد حملا اسم التحرير، وكذلك الجسر الذي يحمل اسم الخديو إسماعيل عاد إلى اسمه السابق «كوبري قصر النيل». أما شارع فؤاد الأول فقد أصبح شارع 26 يوليو، تاريخ طرد الملك فاروق الذي تغير اسم شارعه إلى “شارع الجيش”. بينما تغير اسم شارع وميدان الملكة– وكان اسمهما حتى عام 1950 “الملكة نازلي” قبل أن يجردها ابنها فاروق من ألقابها نتيجة لخلافات بينهما –ليصبحا شارع وميدان نهضة مصر (على اسم تمثال محمود مختار الشهير الذي تم نصبه أمام محطة السكك الحديدية)، ثم تغير الاسم مرة أخرى بعد إقامة تمثال رمسيس فأصبح ميدان وشارع رمسيس. أما ميدان وشارع سليمان باشا الفرنساوي- وهو قائد جيوش محمد علي (1788-1860) وجد الملكة نازلي- فقد حملا اسم الاقتصادي المصري طلعت حرب (1867-1941).

غير بعيد من ميدان طلعت حرب ميدان صغير يحمل اسم الخديوي توفيق، وقد تم إعطاء اسم الميدان لعدو توفيق التاريخي، الزعيم أحمد عرابي الذي تم إطلاق اسمه على ميدان قصر عابدين – في إشارة لمظاهرة عابدين 1881 – ولكن سرعان ما أصبح اسمه “ميدان الجمهورية”.

لم يتوقف الأمر عند أسماء الميادين والشوارع، فقد تغيرات أسماء بعض المباني العامة أيضًا: تم محو اسم محمد علي من على ناديه الشهير بشارع البستان، والمعروف باسم “كلوب محمد علي”، لاسم النادي الدبلوماسي، وتم رفع اسم الملك فؤاد من كافة المؤسسات التي افتتحها مثل مستشفى الولادة التي سميت باسم الجلاء وكذا الشارع الكائن بها. أما مدرسته الثانوية في منطقة العباسية فقد أصبحت المدرسة الحسينية، وتم حذف اسم الملك فاروق أيضًا من لافتات المدارس التي حملت اسمه، فتحول اسم مدرسة فاروق الأول الثانوية إلى مدرسة إسماعيل القباني (وهو رائد تعليمي ووزير للتعليم في العصر الجمهوري).

***

ورغم أن هذه السياسة، الهادفة أساسًا إلى محو أسماء العائلة المالكة من الشوارع والميادين والمؤسسات، قد بدت جزءا من إستراتيجية الدولة المصرية، إلا أن تطبيق هذه السياسة قد شابها بعض القصور حتى أن بعض الشوارع نجت من حمى التغيير محتفظة بأسمائها المتصلة بالعائلة المالكة كشارع أحمد باشا، بحي جاردن سيتي: لم يكن القادة الجدد يعرفون أن أحمد باشا هو في الأصل أمير من الأسرة لعلوية، وهو أحد إخوة الخديوي إسماعيل. وبالمثل، كانت هذه الموجة من تغييرات أسماء الشوارع والميادين تعتمد في بعض الأحيان على العلاقات السياسية بين النظام الناصري وجيرانه من الدول.

على سبيل المثال، سمي شارع البستان، أحد الشرايين الرئيسية لوسط المدينة، على اسم سياسي عراقي وصديق مقرب لناصر هو الرئيس عبدالسلام عارف (1921-1966).أما في حي المنيل، بالقرب من وسط المدينة، يوجد شارع الملك عبدالعزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية (1902-1953)، والذي تسمى الشارع باسمه تقديرا لزيارته الأولى لمصر سنة 1946، وكان الشارع يحمل اسم “النيل” سابقًا. فقد هذا الشارع اسم الملك عبدالعزيز في أوائل الستينيات، بعد تدهور العلاقات بين ناصر والملك سعود ابن الملك عبدالعزيز وخليفته [1953 – 1964] ليتسمى من جديد باسمه السابق النيل. وبعد تحسن العلاقات بين النظامين، المصري والسعودي، عاد الشارع ليحمل اسم الملك عبدالعزيز.

شجعت الروابط بين النظام الناصري وحركات التحرر الوطني الميل إلى تسمية الشوارع والميادين باسم رموز تلك الحركات. فمثلًا، أعطت جمهورية يوليو اسم سيمون بوليفار، زعيم النضال ضد الاستعمار في أمريكا الجنوبية (1783-1830)، إلى الميدان الذي كان يسمى قبل عام 1952 ميدان قصر الدوبارة، وهو مقر المندوب السامي البريطاني الذي كان يعتبر الحاكم الحقيقي للبلاد أيام الاحتلال. وبالمثل، تم تغيير اسم الشارع المؤدي للميدان، من الوالدة باشا (خوشيارهانم والدة الخديو إسماعيل) لأمريكا اللاتينية في عام 1960.

***

أدت هذه التغييرات إلى موجة من الانتقادات من قبل المعماريين والمؤرخين. حتى أن المؤرخ محمد كمال محمد قد نشر مقالاً مطولًا من ضمن ما جاء فيه أن “في تاريخ مصر وفي التاريخ العربي والإسلامي، العديد من الشخصيات التي تستحق أن تطلق أسماؤها على شوارعنا وميادينا، وخاصة تلك المتآخمة لوزارة الخارجية والجامعة العربية وأغلب السفارات”. أحد الذين تناولوا التحولات التي مرت بها أسماء الشوارع والميادين في وسط المدينة هو “الناظر” راوي قطعة من أوروبا لرضوى عاشور. ذكر الناظر شارع الجمهورية – إبراهيم باشا سابقًا – وهو الشارع المؤدي إلى قصر عابدين:

“في يناير عام 1952 بدأ الحريق (المقصود حريق القاهرة) بشارع إبراهيم باشا، بعدها جاء الضباط الأحرار، فأطلقوا عليه شارع الجمهورية. أرادوا على ما يبدو رفع الحاجز بين المدينتين (القاهرتين)، ولكنهم على طريقة الضباط أصدروا أمرا، وأيضا على طريقة الضباط الذين لم يتح لهم بعد إنهاء تعليمهم الثانوي سوى عامين أو ثلاثة من دراسة لا تخرج مقرراتها عن حدود العلوم العسكرية، لم يشغلهم كثيرا التفكير في المعاني والدلالات”.

نختلف مع تفسير الناظر لسببين: الأول هو أن الاسم الجديد “الجمهورية” تم إطلاقه أولًا على ميدان عابدين، وأدى ذلك إلى تغيير اسم الشارع الذي يقود إليه. والثاني أنه سواءً كان المقصود الميدان أو الشارع فكلاهما لا يمثلان الحد الجغرافي الفاصل بين القاهرتين، وإنما يمثله شارع الخليج المصري الذي تغير اسمه إلى بورسعيد كونها “المدينة الباسلة” التي قاومت العدوان الثلاثي في أعقاب تأميم قناة السويس سنة 1956.

***

ومع هذه الحركة الواسعة من تغييرات الأسماء، احتفظت بعض الشوارع بأسمائها القديمة، لاسيما تلك التي حملت أسماء بعض الشخصيات الأجنبية التي ساهمت في تطور البلاد خلال القرن التاسع عشر. ومنها تلك التي حملت أسماء علماء المصريات ماسبيرو وشامبليون ومارييت؛ أو رواد الحركة التعليمية مثل كلوتبك، مؤسس كلية الطب المصرية، أو وجوه السياسة والاقتصاد كنوبار باشا، أول رئيس وزراء في مصر الحديثة، ومن ثم احتفظت هذه الشوارع بأسمائها وبقيت في الذاكرة الجماعية حتى يومنا هذا.

أما بالنسبة للتماثيل في وسط المدينة، فقد تعرض بعضها لحملة من التغييرات كتلك التي تعرضت لها أسماء الشوارع والميادين: على الجانب الغربي من ميدان قصر عابدين، كان من المقرر كشف الستار عن تمثال تم نصبه في إبريل 1952 للملك فؤاد الأول ممتطيًا جواد، لكن استحال ذلك بعد حركة الجيش التي قامت بعد ثلاثة أشهر فقط.

وبعد إعلان الجمهورية، تم استبدال تمثال الملك فؤاد الأول بتمثال الزعيم أحمد عرابي، وهو من أعمال النحات مصطفى خليل، وهو بالمناسبة نفس نحات التمثال القديم! لكن سرعان ما غادر تمثال عرابي قاعدته ليستقر في ميدان المحطة بمدينة الزقازيق (قريبًا من مسقط رأسه). أما بالنسبة للقاعدة، فقد تمت إزالتها تمامًا سنة 1958. كان وضع تمثال الملك فؤاد جزءًا من مشروع حضري للربط بصريًا بين ميدان عابدين وميدان الخديوي إسماعيل (الإسماعيلية أو التحرير)، وذلك من خلال إقامة تمثال آخر للخديوي إسماعيل.

***

ففي وسط ميدان التحرير، تم نصب قاعدة من الجرانيت الوردي استعدادًا لاستقبال التمثال البرونزي لإسماعيل تكريما لدوره في بناء القاهرة الحديثة غير أن سقوط النظام الملكي قد جعل إقامة التمثال، الذي نحته مصطفى نجيب في عام 1951، أمرًا مستحيلًا. ومن ثم، ظلت القاعدة عارية من تمثال حتى تمت إزالتها سنة 1987.

وخلال سنة 1964، تم استبدال تمثال سليمان باشا الفرنساوي في الميدان الذي يحمل اسمه بتمثال الاقتصادي طلعت باشا حرب، الذي يعتبره بعض المؤرخين أحد آباء السياسات الناصرية في مجال النضال ضد السيطرة الاقتصادية الأجنبية. كما يعتبر بعضهم مجهوداته الاقتصادية هي المرحلة التحضيرية لحركات التأميم التي انطلقت منذ الخمسينات. كان تمثال طلعت حرب، الذي «يشبه الباشا إلى حد قليل» بحسب ديزموند ستيوارت، من منحوتات فتحي محمود وفاروق إبراهيم.

أما الاستثناءات فيما يخص التماثيل فكان أهمها يقع في ميدان الأوبرا: تمثال إبراهيم باشا، ابن خليفة محمد علي باشا، الذي هو أحد نسختين نحتهما شارل كوردية وهنري ألفريد جاكومار في باريس بأوامر من الخديوي إسماعيل (النسخة الثانية قائمة في حديقة المتحف الحربي بالقلعة). وهو التمثال الوحيد الذي لم يتم إزالته من تماثيل الأسرة العلوية. لم يتم إزالة تمثال إبراهيم باشا لأنه يمثل رمزًا عسكريًا عظيمًا لا يمكن إنكار دوره في بناء الجيش المصري الحديث الذي تخرج فيه كل رجالات دولة يوليو، وهنا نتشارك مع وجهة نظر ديزموند ستيوارت الذي كتب أنه «نظرًا لأن إبراهيم باشا قائد عسكري عظيم، فإنه لم يزل يحتفظ بالكثير من تقدير الدولة واحترامها، ولهذا السبب تم الاحتفاظ بتمثاله أمام دار الأوبرا». ونضيف أن عدم إزالة تمثال إبراهيم باشا يؤكد على ولع رجال يوليو بالرمز التاريخي الذي يتفق مع أيديولوجيتهم، وهو ما ناقشناه في أولى حلقات “قاهرة يوليو”.

تمثال لاظوغلي باشا
تمثال لاظوغلي باشا
***

يضاف على تمثال إبراهيم باشا ما تم الاحتفاظ به من تماثيل شخصيات قومية شهيرة مثل سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد ماهر. تم بالمثل الاحتفاظ بتمثال لاظوغلي باشا الواقع في الميدان الشهير باسمه في وسط المدينة، وقد نحته جاكومار مع تماثيل إبراهيم باشا وتماثيل الأسود الأربعة التي تزين كوبري قصر النيل. كان لاظوغلي وزيرا ومستشارا في زمن محمد علي باشا (1805-1848). وعلى الرغم من دوره الدموي في مذبحة المماليك (1811)، إلا أن نظام يوليو قرر أن يحتفظ بتمثاله لأسباب غير معروفة. لكن في رأينا، فإن موقع ومقياس ميدان لاظوغلي لم يكن ذا أهمية للنظام. علاوة على ذلك، من المحتمل أن صناع القرار في ذلك الوقت لم يكن لديهم فكرة واضحة عن هوية هذا الشخص أو دوره في التاريخ، كما كان الحال مع شارع أحمد باشا. لذلك لا يزال التمثال في مكانه حتى يومنا هذا.

أهالى بورسعيد يزيلون تمثال ديليسبس
أهالى بورسعيد يزيلون تمثال ديليسبس

لكن ورغم كل شيء، فإن تماثيل وسط القاهرة لم تلق لحسن الحظ مصير تمثال فرديناند ديليسبس عند مدخل قناة السويس، على تخوم مدينة بورسعيد. التمثال الضخم الذي نحته إيمانويل فريميتي كان يبلغ ارتفاعه 33 قدمًا وتم افتتاحه في 17 نوفمبر 1899 قبيل ذكرى وفاة ديلسبس الخامسة. في أعقاب أزمة السويس وفشل العدوان الثلاثي، لم يستطع سكان مدينة بورسعيد، الذين تعرضوا لهجمات القوات الفرنسية والإنجليزية أيام العدوان، تحمل وجود التمثال على أرضهم لاسيما أن أعلام البلدين-إنجلترا وفرنسا- كانتا مرفوعتين معًا على قاعدة التمثال. في 24 ديسمبر 1956، أحرقت المقاومة الشعبية في بورسعيد هذه الأعلام قبل أن تقوم بتفجير التمثال الذي يرمز إلى الهيمنة الفرنسية البريطانية بالديناميت.

لقي تفجير التمثال استحسان الشعب والصحافة المصرية وبعنوان «بورسعيد تفجر ديليسبس»، نشرت صحيفة الأهرام اليومية على صفحتها الأولى خمس صور كبيرة تظهر تفاصيل الانفجار، بدءًا من التمثال المحاط بالحشد وتسلق بعضهم التمثال لزرع القنبلة، ثم صورة للانفجار وسقوط التمثال وأخيرا صورة لقاعدة التمثال خالية يحوم فوقها وحولها دخان كثيف.

اقرأ أيضا:

قاهرة يوليو (8): كيف أصبح «التحرير» ميدانا للأطلال؟!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر