قاهرة يوليو (8): كيف أصبح «التحرير» ميدانا للأطلال؟!
لم يكن قصر عابدين هو الوحيد الذي خضع لتحولات في الاستخدام، إذ أن هناك قصورا أخرى تحولت فأصبحت إدارات أو مؤسسات تعليمية. وعلى الرغم من أن تقليد تحويل القصور إلى مؤسسات تعليمية، بالأحرى مدارس، بدأ أيام الملكية، كما كان الحال مع قصر الأمير سعيد حليم في وسط المدينة الذي تحول إلى مدرسة في عام 1931، فقد نُسب هذا التقليد لاحقًا إلى النظام الناصري. لكن المؤرخة مرسيدس فوليه تؤكد أن هذه الممارسة أصبحت أكثر انتشارًا في ظل نظام ناصر، الذي شجع على العديد من هذه التحولات في استخدام القصور. بعد عدة عقود، ظهرت حركة النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي في مصر، والتي تحسرت على زوال العهد الملكي والخديوي. ومن خلال هذه الحركة، والكلام لمرسيدس فوليه، أصبح “بريق وعظمة مصر الخديوية” موضع تحسر وألم، فيما أصبح العصر الناصري لجموع النوستالجين «موضع رفض».
وكما قلنا، فقد صارت بعض القصور التي تمت مصادرتها من الطبقة الأرستقراطية مقار إدارية تتبع رئاسة الجمهورية. وبعد رحيل الأجانب، وضعت الدولة يدها على عدد كبير من الشقق السكنية بوسط المدينة. كما تم تأميم جزء من عقارات شركات التأمين وتحويلها لتبعية القطاع العام.
***
يصف المهندس ميلاد حنا مصير هذه العقارات: “أصبحت الدولة – لأول مرة – لاعبًا رئيسيًا في عملية الإسكان، لاسيما عندما تعلق الأمر بالشقق الفاخرة وتلك الكائنة بالمواقع المتميزة. تم منح هذه الوحدات لرجال الثقة والسلطة أو غيرهم من أصحاب الاستحقاق “. والحق أن أغلب هؤلاء المستحقين كانوا من رجال الجيش وموظفي الحكومة الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى، والذين وضعهم نظام يوليو على قمة الهرم الاجتماعي في مصر.
لكن هذه الإجراءات المناهضة للنخبة الأرستقراطية من قبل الدولة تحمل معنى مزدوجا. فمن ناحية، هذه الإجراءات هي في الأصل جزء من عملية التمصير التي بدأت منذ قيام الثورة. من ناحية أخرى، تبدو هذه الإجراءات نوعًا من الانتقام لصالح عناصر اجتماعية جديدة ،أي البرجوازية العسكرية والبيروقراطية الجديدة، ضد الإقطاعيين وكبار السياسيين ورجال البلاط الذين تعاونوا مع المستعمر البريطاني طيلة فترة الاحتلال، خصوصا الذين تورطوا معه في ملابسات حادثة 4 فبراير 1942
ومع ذلك، لا يمكن على أية حال أن نعفي النخبة الحاكمة قبل 1952، سواء أكانت فاسدة أم لا، من نصيبها من المسؤولية عن البؤس والفقر الذي عانت منه الأغلبية من المصريين، علاوة على مسؤوليتهم عن تأزم الموقف السياسي نفسه. وبالتالي، وجدت هذه المجموعة نفسها مستهدفة بالعديد من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية مثل مصادرة أراضيها ضمن إجراءات الإصلاح الزراعي، وكذا إلغاء الألقاب، والوضع تحت الحراسة، وأخيرًا المحاكمة الثورية.
***
الجدير بالذكر أن استقلال الدولة المصرية لعب دورًا محوريًا في نجاح إجراءات القضاء على الطبقة الحاكمة السابقة. فلأكثر من قرن، حافظت النخب في المجتمع المصري على علاقاتها الثقافية مع العالم الغربي، لا سيما مع إنجلترا وفرنسا، حيث تلقى معظم أبناء هذه الطبقة تعليمهم، ومنذ بدء الاحتلال البريطاني عام 1882، تأصلت الروابط الوثيقة بين هذه النخب وبين المحتل حتى أصبحت العلاقة بينهما تلازمية، فصارت النخبة المصرية في نهاية المطاف قريبة من المحتل سمتًا ومظهرًا، مختلفة عن بقية طبقات الشعب الموصومة بالأمية حينًا وبالتخلف والانغلاق أحيانًا.
في هذا المقام، لا يمكن إنكار حالة التقارب التي حدثت بين النخبة وسلطات الاحتلال، أو إنكار المزايا التي جنتها النخبة من جراء ذلك. هذه الأخيرة سمحت للنخبة والكلام للمؤرخة آن كلير جايفيه بونفيل بتطوير “خطاب مماطل يحابي للمستعمر ويقف ضد السخط الناجم عن الاختلالات في المجتمع المصري التي سببها الاحتلال”. ومبعث ذلك أن تلك النخبة – ومازال الكلام لبونفيل- شعرت بذكاء أن الاستقلال التام سوف يتركها وشأنها أمام السكان الأصليين وهم في نظرهم غرباء أكثر من البريطانيين.
ومن ثم، فاستقلال البلاد لم يكن أبدًا ليلبي مصالح النخبة. ساهم البون الشاسع اقتصاديًا وثقافيًا بين النخب وجماهير الشعب في بناء «مجتمع غير متكافئ». حتى أنه في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، كانت لهذه الفوارق آثارًا عانت منها الطبقات الوسطى في المجتمع، فجعلتها تتحد من أجل تحقيق «هدف مشترك، وهو الكفاح ضد السلطة القائمة وضد الاحتلال». وهو ما أدى في النهاية لسقوط النظام الملكي ثم استقلال البلاد، الأمر الذي شجع القادة الجدد القادمين أساسًا من الطبقة الوسطى على تشكيل «برجوازية صغيرة» جديدة.
***
صاحبت التحولات في استخدام القصور عملية تطوير كبرى استهدفت وسط المدينة، ورمت إلى محو ذكرى الوجود البريطاني. فعلى سبيل المثال، أصبح وجود الثكنات البريطانية (ثكنات قصر النيل) في ميدان التحرير أمرًا غير مرغوب فيه، على الرغم من إخلائها عام 1947 ضمن احتفال قومي عظيم، رفع خلاله الملك فاروق العلم المصري على هذه الثكنات؛ وبعد ذلك بدأت الحكومة الوفدية الأخيرة في هدمها في عام 1951.
بعد عامين، واصل النظام الثوري الجديد أعمال الهدم، وتسبب في اختفائها النهائي لتحل محلها المباني الثلاثة الحديثة: فندق هيلتون، ومقر جامعة الدول العربية، وبلدية القاهرة. أما الميدان الذي ضم المباني الثلاثة، وكان اسمه ميدان الإسماعيلية أو ميدان الخديوي إسماعيل، فقد أعيد تسميته ليصبح ميدان الحرية في أغسطس 1952، ثم ميدان التحرير ابتداء من سبتمبر 1954، والاسمان بالطبع للدلالة على نهاية عصر الاحتلال والاستبداد.
وفي ميدان التحرير، كان يوجد مسجد وضريح الشيخ محمد العبيط، الذي قيل إنه صديق وجاسوس لمحمد علي باشا. بعد عام 1952، وجد النظام أن وجود هذا المسجد، الذي اتسم بمعمار بدائي واسم لا يخلو من الطرافة (جامع العبيط!)، لم يعد مناسبًا للدور الجديد الذي سوف يلعبه ميدان التحرير. في عام 1954، تم هدم المسجد واستبداله بمسجد آخر على طراز المملوكي الجديد، صممه المعماري الإيطالي ماريو روسي. حمل المسجد اسم شخصية قومية ذات عداء تاريخي لمحمد علي باشا، هو الشيخ عمر مكرم.
***
ولإبراز أهمية ميدان التحرير كان من الضروري النظر في تعديل مورفولوجيا الميدان وما حوله من خلال عمليات تخطيطية وعمرانية مختلفة، شملت تشييد كورنيش النيل (1955) وهدم حديقة مقر السفارة البريطانية، لأنها امتدت حتى نهر النيل، وأجبر وجودها حركة المرور على الانعطاف والالتفاف، علاوة على كونها تذكيرًا يوميًا بالوجود البريطاني. صاحبت ذلك بعض عمليات الهدم، فأدى ذلك إلى اختفاء عدد من الأماكن المشهودة بالميدان، منها قصر السيدة قوت القلوب الدمرداشية، وهي أديبة وابنة الشيخ الدمرداش وصاحبة الصالون الأدبي المشهور في زمانه. تم هدم القصر في عام 1966 لتوسعة المساحة المؤدية إلى كوبري قصر النيل.
وبالمثل، تم هدم فيلا هدى شعراوي، رائدة الحركة النسوية المصرية في أوائل القرن العشرين، سنة 1960، وتم هدم فيلا الكونت زغيب في سنة 1963. أصبحت أراضي هاتين الفيلتين ساحات انتظار للسيارات. في الجوار كانت فيلا عمر سلطان باشا، شقيق هدى شعراوي، فتم هدمها في عام 1972، وحل محلها مسجد الرحمة الذي افتتح في نفس السنة. أخيرًا، تم هدم فيلا الأميرة أسما حليم في شارع القصر العيني في عام 1957، وحل محلها المقر الرئيسي لبنك التنمية وكريديت أجريكول.
وللإنصاف، ينبغي القول إن اختفاء الفيلات والقصور في وسط المدينة لم يكن أمرًا تفردت به جمهورية يوليو، فقد كانت القاهرة الإسماعيلية، كما أوضحنا في سلسلة “القاهرتان“، كانت في مرحلتها الأولى تتكون من فيلات وقصور ذات بساتين شاسعة، ثم بدأت تلك في الاختفاء ليتم استبدالها بالعمارات السكنية منذ أوائل القرن العشرين حتى فترة ما بين الحربين العالميتين.
***
لكن المرحلة الأخيرة بدأت بالفعل في الستينيات، لاسيما بعد حركات التأميم والإصلاحات العمرانية. تجدر الإشارة أيضًا إلى أن بعض قصور وسط المدينة قد أفلتت من مصير الهدم، مثل فيلا ديلور غليون في شارع الشواربي، التي صممها أمبرواز بودري في عام 1872. كان القصر مقر المفوضية الإيطالية ثم مقر صحيفة السياسة (السياسة)، لسان حال حزب الأحرار الدستوريين الذي تم حله بعد عام 1952. ربما أفلتت الفيلا بسبب موقعها المخفي في شارع صغير في وسط المدينة لدرجة جعلت الأنظار لا تنتبه لوجودها.
ومع كون ميدان التحرير قد أصبح “ميدان الأطلال” خلال الستينات فإن الأهمية التي اكتسبها الميدان في ثوبه الجديد، خصوصًا بعد تشييد مبانيه الجديدة العملاقة على ضفاف النيل، قد شجعت على ظهور خدمات جديدة فيه، مثل شركات الطيران والسفر السفر، وبدأت تظهر فيها المطاعم وصالونات الشاي والبارات حول وداخل فنادق الميدان. بعض هذه الخدمات أصبحت تشغله حتى وقتنا هذا رغم عمليات الهدم والبناء التي لم تتوقف منذ بداية جمهورية يوليو.