قاهرة يوليو (7): الشعب يجلس على العرش

كان مهمًا بالنسبة لنظام جمهورية يوليو أن يدعم عملية التمصير التي ابتدأها منذ قيام الحركة المباركة، فكانت وسط البلد هي الترجمة العمرانية لذلك. وكان من ضمن دعائم عملية التمصير اللجوء للرمز. وقد تناولنا في الحلقة الثانية من السلسلة كيف تأثر جمال عبد الناصر ورفاقه بفكرة الرمز التاريخي حال وضع أيديولوجية جديدة صاغها في كتابه فلسفة الثورة. على أن فكرة الرمز التاريخي تمت صياغتها عمرانيا أيضا، وتمت ترجمتها إلى تحولات حضرية مهمة، كان من ضمنها عمليات إزالة وإحلال لبعض التماثيل التي اشتهرت بها وسط المدينة، ولعل أشهر هذه التحولات تنصيب تمثال رمسيس الثاني في وسط ميدان المحطة، المعروف سابقًا باسم ميدان باب الحديد.

قبل تنصيب تمثال رمسيس الثاني، كان في موقعه تمثال نهضة مصر، وهو أشهر أعمال النحات محمود مختار. يمثل “نهضة مصر”، المنحوت من الجرانيت، أبو الهول جالسا عند قدمي فلاحة مصرية ترتدي ملابس الريف التقليدية. وتبدو هذه الأخيرة – التي تمثل مصر – أنها توقظ أبو الهول الذي يرمز بدوره إلى الحضارة المصرية القديمة ويتطلع كلاهما، الفلاحة المصرية وأبو الهول، إلى مستقبل مجيد لبلدهما. متأثرًا بالثورة الشعبية الكبرى عام 1919، نحت محمود مختار (1891-1934) “نهضة مصر” في باريس، ثم عرضه في معرض الفنون الجميلة بباريس عام 1920، بعد زيارة سعد زغلول الشهيرة لباريس لحضور مؤتمر الصلح والمطالبة باستقلال مصر. التقى زعيم الأمة بمحمود مختار وأبدى إعجابًا شديدًا بتمثال “نهضة مصر” وبرمزيته في التعبير عن صحوة الأمة المصرية، ثم شجعه مختار على إنتاج نسخة تذكارية مقياس من التمثال لتنصيبها في أحد ميادين القاهرة، هو ميدان المحطة.

***

أصبح التمثال مشروعًا قوميًا، وتمت دعوة الأمة المصرية للمشاركة في التمويل عن طريق الاكتتاب، وفي 20 مايو 1928، تم رفع الستار عن التمثال في احتفال وطني كبير حضره سعد زغلول ومحمود مختار والعديد من الشخصيات البارزة. ومنذ ذلك التاريخ، تغيرت تسمية ميدان باب الحديد فأصبح ميدان نهضة مصر.

على الرغم من قيمته الرمزية وارتباطه بالثورة الشعبية، تمت إزالة تمثال “نهضة مصر” ونقله للميدان أمام جامعة القاهرة ليحل مكانه تمثال للملك رمسيس الثاني. كان قد تم اكتشاف التمثال الجديد مفصولًا على ست قطع متناثرة في قرية ميت رهينة بسقارة على بعد 30 كم من هضبة الجيزة عام 1882.

ومنذ ذلك الحين، فشلت جميع المحاولات لجمع أجزاء التمثال في الموقع، ولكن في عام 1954، قرر جمال عبد الناصر، رئيس الوزراء آنذاك، نقل هذا التمثال الضخم وتثبيته في ميدان المحطة. تم نصب تمثال رمسيس، المنحوت من الجرانيت الوردي، أخيرًا على قاعدة بارتفاع ثلاثة أمتار على حافة نافورة ضخمة في عام 1955 خلال احتفال مهيب. ومن يومها، أعيدت تسمية الميدان والطريق المؤدي إليه ليصبحا ميدان وشارع رمسيس.

***

وبحسب الناقدة الأدبية إيفيديه دامبيير نويري، فإن هذه البادرة العمرانية «ترمز إلى ولادة مصر المستقلة من جديد». فالتمثال يعبر عن ثلاث هويات بحسب نويري: فهو تمثال لأحد أعظم الفراعنة، ثم إنه نصب مرموق وتذكاري المقياس، كما أنه شاهد على حضارة مصر. من جانبها، تعتبر المؤرخة مرسيدس فولي عملية تنصيب تمثال رمسيس «عملاً سياسيًا قويًا»، إذ أن “الزعيم الجديد جمال عبد الناصر أراد تواصلًا رمزيًا بينه وبين عظمة مصر الغابرة، لا سيما بعد قرون طويلة من الهيمنة الأجنبية”.

نتفق مع كل من نوايري وفولي معتقدين أن الرمز أو الرسالة وراء تنصيب تمثال رمسيس تعيد إلى الذاكرة الجماعية قصة مصلح وباني وفاتح عظيم. مثلما تشير إلى فكرة الاستدعاء، استدعاء الرمز التاريخي عن طريق الشخصيات التاريخية التي ثبت أن لا غنى عنها في تأصيل أيديولوجية عبد الناصر ورفاقه. وإذا علمنا أن تمثال رمسيس يبلغ ارتفاعه 11 مترًا متجاوزًا ارتفاع تمثال نهضة مصر بسبعة أمتار. وأن عملية تجميع التمثال قد نجحت في عهد الثورة بعد العديد من المحاولات الفاشلة. فإننا يمكننا أن نرى عملية نقل وتنصيب التمثال في سياق شغف الدولة. وفقًا لأندريه ريموند، بالعملقة والبراعة الهندسية.

والحديث عن إحلال الرموز الحضرية في القاهرة ضمن عملية التمصير لا يمكن أن ينفصل عن عملية الإحلال المجتمعي التي أجرتها دولة يوليو. يدفعنا ذلك لتناول الإجراءات التي تم اتخاذها لإحلال طبقة الأجانب والأرستقراط من العاصمة، وخاصة من وسط المدينة واستبدالها.

***

أثرت هذه الإجراءات، التي نعدها إحدى أهم مراحل عملية التمصير، على الحالة المعمارية والحضرية لوسط المدينة. فضلاً عن تغيير الاستخدامات وأنماط الاستهلاك التي أشرنا إليها في الحلقة السابقة. والحق أنه فور وصول الضباط الأحرار إلى السلطة، اعتبر هؤلاء كل ما سبقهم من آثار «العهد البائد». وهو المصطلح الذي ظهر خلال السنوات الأولى للثورة، وكان يستخدم بكثرة في خطابات عبد الناصر وتصريحاته لدرجة أنه المصطلح المفتاحي للدلالة على الفترة قبل عام 1952. أو بالأحرى النظام الملكي.

وفي ضوء مصطلح العهد البائد، شن ضباط يوليو الذين بدأوا يشغلون مناصب حيوية بالدولة حملة ضد رموز الفترة السابقة. وتقول الرواية المشهورة أن وجيه أباظة، أحد الضباط الأحرار الذي أصبح رئيس أركان الإذاعة المصرية. قرر حظر بث أغاني أم كلثوم بعد الثورة، بحجة أنها تمثل العهد البائد. لكن جمال عبد الناصر، عند إبلاغه بمسألة الحظر، أمر بإعادة بث أغاني أم كلثوم، معتبرًا أنه “إذا أردنا حظر أغاني أم كلثوم، فعلينا أولاً هدم الأهرامات، لأنها أيضًا من العهد البائد”.

على أن السياسة التي اتبعتها جمهورية يوليو ضد العهد الملكي ورموزه ومآثره الحضرية اتسمت بالقسوة، في حين يُنظر أحيانًا على أنها عملية “الصفحة البيضاء” Tabula rasa، لأنها هدفت لمحو لماضي البلاد واستبداله بحاضر واعد منحته الثورة للطبقات الوسطى والدنيا.

***

بدأت عملية الصفحة البيضاء سياسيًا بعدد من الإجراءات الحاسمة كان منها إلغاء الألقاب الشرفية، وحل الأحزاب السياسية. وإغلاق مقار صحفها والقضاء على أذرعتها الإعلامية. وتشكلت المحاكم الثورية التي عرفت بقسوتها وتنكيلها بسياسيي ورموز العهد الملكي. على صعيد مواز، تمت مصادرة أملاك العائلة المالكة في نوفمبر 1952 ولم يقتصر الإجراء على أسرة محمد علي. وإنما شمل رؤساء الحكومة السابقين والوزراء وكبار رجال الدولة والسياسيين. فتم تجريد الجميع من ممتلكاتهم. وحيال ما سبق، تم إغلاق مكاتب الصحف ومقار الأحزاب السياسية التي كانت تشغل عددًا من القصور والفيلات في القاهرة. ومن ثم خلت هذه الأماكن من شاغريها في وقت قصير.

أما القصور الملكية، فقد جرى تحويل جذري في استخداماتها وأحيانًا تم فتحها للزيارات الشعبية. ومنها قصر عابدين الذي كان مقرا للسلطة لمدة ثمانين عامًا. كما أن بناءه يتزامن مع بناء القاهرة الحديثة (قاهرة إسماعيل). في 15 إبريل 1953، نشرت مجلة “آخر ساعة” تقريرًا بعنوان “الشعب يجلس على العرش”.

***

كانت الصورة الرئيسية للموضوع لفلاح مصري في ملابس ريفية جالسا على السرير في غرفة النوم الملكية بقصر عابدين. وممسكًا بحذائه بيد وباليد الأخرى يقبض على سماعة الهاتف التي كان يتقرر منها مصائر البلاد أيام الملكية. في نفس التقرير، تظهر العديد من الصور للفلاح جالسًا على كرسي العرش بالقصر. ثم في الحمام الملكي مع زوجته التي تظهر في صورة أخرى تساعد طفلها الصغير على قضاء حاجته في مرحاض الملك. إلى غير ذلك من لقطات موصوفة لم تهدف إلا أن تظهر للشعب أن قصر الملك صار أخيرًا مباحا ومستباحًا لعامة الشعب.

بعد سقوط النظام الملكي، ظهر نسر الجمهورية (نسر صلاح الدين) رمز الدولة الجديد ليحل محل التاج الملكي الضخم المزدان بالنجوم والذي زيّن زمنًا طويلًا شرفات قصر عابدين. ويعتبر الروائي حمدي أبو جليل هذه البادرة إعلانًا لسلطة جديدة على المنطقة، أو على البلد بأكمله. كما يضيف أبو جليل بسخرية، أنه يبدو أن رجال يوليو بإضافة نسر الجمهورية قد أضافوا قصر عابدين إلى إنجازاتهم الثورية.

أما بالنسبة للاستخدام، فقد تحولت مباني قصر عابدين لتصبح بعد عام 1952 مقرًا لثلاث وزارات. كما أصبح أحد مبانيها مركزًا للتطعيم ضد الملاريا. وأصبحت ثكنات الحرس الملكي مقرًا للاتحاد الوطني (1958). ثم مقرا لمحافظة القاهرة، من 1958 إلى 1959، ثم من 1965 حتى اليوم. تلك الوظائف المتنوعة الغريبة التي لم يكن مقدرًا للقصر أن يشغلها لا شك أثرت بشكل واضح على معماره وصورته العامة.

***

أصبح ميدان عابدين، وساحة قصره الذي شهد الأحداث التاريخية الكبرى للبلاد. بدءًا من المظاهرة الشعبية في عام 1881 والتي افتتحت الثورة العرابية، وحتى ثورة الضباط الأحرار عام 1952، حديقة عامة. بحيث «يمكن للمرء أن يرى بوضوح عمال البلدية يقضون فيها أوقات القيلولة». فيما كانت سابقًا متنزهًا للملوك والأمراء والقناصل الأجانب، بحسب أبو جليل الذي وصف هذا التحول بأنه أحد الأدلة على أن ثورة 1952 قد حققت أهدافها. وأولها السماح للمصريين بتحديد مصائرهم وإدارة ممتلكاتهم.

اقرأ أيضا:

قاهرة يوليو (6): الفاتحون في وسط المدينة

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر