قاهرة يوليو (5): تمصير وسط المدينة
فور وصوله إلى السلطة، قرر النظام الجمهوري الجديد إيلاء أهمية للعاصمة المصرية. ومن ثم تحولت القاهرة في سنوات معدودات مركزًا وحيدًا تتم منه إدارة الدولة. في سبيل ذلك تم تصميم الطرق السريعة لربط المناطق المحيطة بقلب العاصمة فظهر للوجود طريق صلاح سالم السريع لربط القاهرة وضواحيها بالمطار. بالمثل، تم ربط الأحياء الجديدة الكائنة على الضفة الغربية بوسط المدينة فتم إنشاء عدة جسور فوق النيل. وارتبط اختيار موقع هذه الجسور بمشروعات الإسكان الاجتماعي التي شرعت الدولة في تشييدها لصالح الطبقات المتوسطة والفقيرة.
ظهرت الكباري الجديدة فوق النيل منذ أواخر الخمسينيات. مثل الجسر الموصل لجامعة القاهرة (1957)، بطول 484 مترًا وعرض أربعين مترًا ليصبح أعرض كباري القاهرة في ذلك الوقت. وليسلط الضوء على شغف الدولة بتحقيق الأرقام القياسية في مجال البناء. بالإضافة إلى ذلك، واصلت الدولة جهودها في تطوير شوارع القاهرة لتقوم بتمهيد 5.5 مليون متر مربع من شوارع العاصمة بين عامي 1952 و1958. كما تم توسيع شرايين العاصمة الرئيسية. مثل شارع الخليج الذي أطلق عليه اسم مدينة بورسعيد “المدينة الباسلة”، طرة، غمرة (شارع رمسيس)، شارع شبرا، وكذلك طريق الأهرام.
***
في نفس الوقت، نشأت علاقة جديدة ومختلفة بين العاصمة والجهاز الإداري: شهد عدد الوظائف في القطاع الإداري بالقاهرة نموا لم يسبق له مثيل وتضاعف إلى درجة أن المدينة أصبحت تضم ثلثي موظفي الحكومة. في الحلقة السابقة أشرنا إلى مبنى المجمع المهم في جنوب ميدان الإسماعيلية. وهو الذي أصبح فيما بعد الثورة ميدان التحرير. المبنى تم وصفه من قبل المؤرخ أندريه ريموند على أنه «مبنى ضخم ينتمي إلى الطراز الستاليني». لكن الحقيقة أن المبنى الذي صممه وبناه المعماري محمد كمال إسماعيل بين عامي 1950 و1952 هو على نموذج مبنى Buffalo city Hall في نيويورك للمعماري John J. Wade. إلا أن مجمع التحرير يمزج بين المبادئ الحداثية في العمارة وتأثيرات العمارة الاسلامية. ضم مجمع التحرير مكاتب عدد ضخم من موظفي الحكومة تراوح بين 18 إلى 30 ألف موزعة على ألف واربعمائة غرفة متصلة ومنفصلة في أربعة عشر طابقًا.
فيما بعد أصبح مجمع التحرير بحسب غيسلان أليوم «الترجمة المعمارية للاشتراكية الناصرية» بالرغم من انتماء المبنى تاريخيًا إلى العصر الملكي. المؤرخ الفرنسي أندريه ريموند اعتبر مبنى المجمع “نشيدًا خرسانيًا مكرسًا للبيروقراطية البائسة التي أقامتها الاشتراكية الناصرية». بينما دفعت ضخامة المبنى – 55 مترًاـ الروائي حمدي أبو جليل إلى التساؤل عما إذا كان الغرض من بنائه هو حشد جميع موظفي الدولة في مبنى واحد للسيطرة عليهم بشكل مثالي (؟). في حين أن الجغرافي المصري جمال حمدان، مؤلف العمل الرائع «شخصية مصر» وصف مبنى المجمع الضخم بأنه “نصب تذكاري” و”دولة داخل دولة”. وبالتالي اكتسب المجمع سمعته لدوره المركزي في الجهاز الإداري لجمهورية يوليو من ناحية. ولمعماره استثنائي الضخامة من ناحية ثانية. ثم لموقعه الجغرافي المشرف على ميدان التحرير وشارع القصر العيني حيث البرلمان والوزارات من ناحية ثالثة.
***
ومنذ الخمسينات، استقبلت جامعات القاهرة الكبرى، مثل جامعة القاهرة، وعين شمس، وحلوان، والأزهر، الطلاب المصريين والعرب. تم إنشاء جامعة الأزهر خلال نفس الفترة في مدينة نصر على مسطح «لا يمكن لأي جامعة مصرية تجاوزه» بحسب جورج موتان. ولتصبح الجامعة الأكثر شهرة في العالم الإسلامي. أتاح التعليم الجامعي المجاني فرصا لتمكين الشباب وسعى لتحقيق المساواة المجتمعية. من ضمن ذكريات طفولته يروي العالم أحمد زويل (1946-2016): “كنت في السادسة من عمري. التحقت للتو بالسنة الأولى من المدرسة الابتدائية. وقتها قال جمال عبد الناصر، قائد الثورة، في خطاباته: “كلنا متساوون. كلنا متشابهون. وهذا يعني أن ابن الفلاح وابن رئيس الجمهورية يمكنهما الالتحاق بنفس الجامعة”.
أما مجتمع قاهرة يوليو، فكان في قلب كل التحولات السياسية والمجتمعية والاقتصادية. وتظهر لنا العديد من الصور القديمة مشاهد للحشود المتجمعة حول قادة الثورة في العديد من الأحياء الكبرى والأماكن المهمة في القاهرة. كميدان عابدين وميدان التحرير في قاهرة إسماعيل وكميدان الأزهر الكائن في قلب القاهرة القديمة. أظهرت الصور التفاعل السياسي للجماهير لتذكرنا بمشاهد مظاهرات ثورة 1919. هذه العلاقة ثلاثية الأبعاد بين التحولات السياسية ومجتمع القاهرة وتفاعله في شوارع المدينة وميادينها وضحها الجغرافي إريك دينيس:
“كفاعل المركزي للتغيرات السياسية العميقة التي حدثت في مصر منذ عام 1950. قام مجتمع القاهرة بتفكيك التسلسل الهرمي (أيام النظام الملكي) واجتذب مزيجًا أكثر مرونة في إطار من التجربة الاشتراكية. وفي ظل حركة عدم الانحياز خلال سنوات الناصر التي أعقبت حركة التحرير الوطني (ثورة يوليو) في عام 1952. هذه الفترة (العهد القديم) ماتت، وأصبحت القاهرة الآن أكثر حرية جغرافيًا وعامية على نطاق واسع، ولا توجد فيها مناطق محظورة”.
تمصير وسط المدينة
مصطلح «التمصير» لا يرتبط فقط بالفترة الناصرية وإنما يعود تاريخه إلى الثورة الشعبية عام 1919، والتي حملت شعار «مصر للمصريين». ارتبطت فكرة التمصير بحركة قومية ظهرت في عدة أوجه: ثقافية وفنية وسياسية وعمرانية. بيد أن الثورة الشعبية سنة 1919 لم تبدأ بإرادة سيادية. نظرا للصلة التي جمعت سلطات الاحتلال بالبلاط وبالمناهضين لفكرة القومية المصرية آنذاك. لكن بعد ثلاثين عامًا أصبحت عملية التمصير مشروعًا قوميًا تحت قيادة عبد الناصر الذي تبنى نسخة اشتراكية للتمصير. والتي ستؤثر على المشهد الحضري لوسط المدينة كما سيتقدم.
في الأدبيات التي تتناول تاريخ القاهرة مصطلحات عديدة يُفهم أنها مرادفة لعملية التمصير في الفترة الناصرية منها مصطلح التوطين لجانيت أبو لغد. ومصطلح الحداثة الناصرية لأندريه ريموند، وعملية التحديث لمارا نامان. لكننا في هذا السياق نفضل استخدام مصطلح التمصير، لأنه أكثر ارتباطًا بالسياق الذي يؤكد في رأينا، الاستمرارية بين ماضي وحاضر البلاد. كما يشير إلى العلاقة التاريخية بين المشروعات التي نفذها العصر الناصري وبذور القومية منذ بداية القرن العشرين.
***
في كتاب القاهرة الصادر في عام 1969، ذكر ديزموند ستيوارت أن “التمصير أصبح سياسة للدولة منذ عام 1952. سواء كانت سياسة مخططة أو عفوية”. نعتقد أن افتراض وجود السياسة العفوية هو لمز صريح للنظام الثوري لأنه يحمل في طياته مراقبة ستيوارت – كعين ناقدة – لسياسات النظام الجديد التي اتسمت أحيانًا بالتردد والارتباك. كما كان بعضها غير منطقي ومتناقض.
قدم ستيوارت في كتابه الذي ترجمه يحيى حقي صورة لتمصير وسط المدينة في العصر الناصري، متذكرًا الأيام التي سبقت حريق القاهرة الكبير عام 1952. والذي يراه ستيوارت على أنه احتجاج شعبي ليس فقط ضد الفقر. ولكن أيضًا ضد الرفاهية المتفشية في طبقة الارستقراط والأجانب حتى أصبح البون بين الطبقات أكثر حدة وخطورة في نهاية عهد الملك فاروق (1936-1952). يصف ستيوارت مشهدًا لوسط المدينة خلال هذه الفترة:
“ففي خلال تلك الأيام الكئيبة شارع فؤاد الأول وشارع سليمان باشا ترتادهما أميرات جميلات لشراء كل ما يروق لهن من المتاجر الفاخرة. وكانت بعض المطاعم تقدم القواقع وأنواع الجبن الأجنبي ترد لها بالطائرة من باريس. بينما عاش باقي أفراد الشعب على دخل لا يزيد عن قروش قليلة”.
يوحي كلام ستيوارت بأنه مؤيد للثورة ولقرارتها لكن إذا واصلنا القراءة نجد أنفسنا في حيرة من موقفه. فهو يحاول أن يكون محايدًا لكن كلامه له أيضًا دلالات مغايرة: ففي سياق الحديث عن العهد الجديد كتب ستيوات “لم يعد في القاهرة الجديدة (يقصد قاهرة يوليو) قمم للأناقة. فالقصد هو تحقيق الاستواء، ولا قمم تشمخ فيها الأناقة ولا وهاد يعشش فيه الفقر”. وقبل ذلك بسطور قليلة كتب ستيورات أيضًا: “أصبحت القاهرة أقل وضاحة وأناقة”. على أية حال يختم ستيورات كلامه برأيه في فكرة المجتمع القاهري المتجانس الذي تنشده جمهورية يوليو. ونترك هنا للقارئ الاستنتاج: “وإذا كان هدف الحكومة هو الوصول لمجتمع متجانس فإن العين لا تخطيء أن تلحظ تباين الأنماط بين أهل القاهرة. فالمدينة في ذاتها بتعدد أحيائها وأحوالها تعكس اختلاف الأجناس والألوان والعادات التي يتألف منها المجتمع القاهري”.
***
في رأينا لا يمكن فصل مفهوم المجتمع العادل المنشود عن فكرة «إعادة ابتكار وسط المدينة» واللفظ لمارا ناما. وذلك يعني أنه ينبغي أن تصبح وسط المدينة أخيرًا مكانًا أقل خصوصية وأكثر ترحيبًا بجميع الطبقات الاجتماعية. وهو الأمر الذي أدى بقادة جمهورية يوليو لاتخاذ تدابير عمرانية جديدة سوف نتناولها في الحلقة القادمة.