قاهرة يوليو (4): شوكة عبدالناصر وجيران التحرير الثلاثة

قد يتصور البعض أن ظهور عمارة الحداثة في القاهرة من ضمن المنجزات الخالصة لزمن جمهورية يوليو. من ثم تجدر الإشارة إلى أن أصول هذه العمارة إنما تعود إلى فترة الأربعينيات السابقة على حركة يوليو 1952. ارتبط ظهور عمارة الحداثة في مصر بالنخبة الفكرية المتعلمة في أوروبا، لاسيما عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، الذي أعلن في إحدى كتاباته أن السبيل لمواجهة أوروبا هو استعارة الحضارة الغربية كما هي. شملت الأنتليجنسيا العائدة من أوروبا بعض المعماريين المصريين. عززت تلك الخلفية اسهامات هؤلاء في ادخال مبادئ العمارة الحداثية في المجالات الأكاديمية والعملية في العمارة والعمران المصريين فصارت مبانيهم تنشد “الكمال المعماري” و”التوحيد القياسي” و”الاقتصاد في مواد البناء”. وهو ما أثر بشكل واضح على الإنتاج المعماري خلال العصر الناصري.

***

وتأثر التوجه المعماري الجديد بالاتجاه الاشتراكي الواقعي. وبالتالي حرص المعماريون الحداثيون في مصر على مراعاة الجوانب الاجتماعية، بدا ذلك في مشروعات الإسكان الاجتماعي والإسكان العمالي. وفي زمن جمهورية يوليو، اتسمت العمارة المصرية الحداثية بالبساطة والوظيفية والاستخدام المفرط للخرسانة المسلحة دون محاولة لموارتها. لكن ينبغي أن نؤكد على أنه منذ أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، بدأت العمارات العالية ـ ناطحات سحاب – في الظهور في خط سماء القاهرة. وظهر معها مبدأ حداثي آخر هو التركيز على الاستفادة المثلى من المساحات الداخلية. في سبيل توفير عدد أكبر من الوحدات السكنية لاستيعاب الزيادة السكانية. أما من الناحية الجمالية، فقد لجأ بعض المعماريين المصريين لطراز الأرديكو َ Art Deco. فظهرت بوضوح الزخارف المستوحاة من التراث المصري القديم مثل زهرة اللوتس في تزيين المداخل والأبواب والشرفات. زهرة اللوتس تلك سوف تصبح فيما بعد مصدرًا للإلهام لواحد من أبرز إنشاءات الحداثة في قاهرة يوليو: برج القاهرة.

يعتبر برج القاهرة من بين الإنشاءات المهمة ومن الأمثلة الدالة على شغف الدولة «بالعملقة والبراعة الفنية» والتعبير لأندريه ريموند. على جزيرة الزمالك، بالقرب من وسط المدينة. صممه وبناه المعماري نعوم شبيب بين عامي 1956 و1961، والمبنى على شكل اسطوانة ضخمة من الخرسانة المسلحة يبلغ طولها 187 مترا. تنتهي الاسطوانة بزهرة اللوتس وتبدأ من قاعدة من الجرانيت الأسواني، وهي بالمناسبة المادة المستخدمة في بناء المعابد والمقابر في مصر القديمة. ببناء البرج العملاق، استطاعت مصر الثورة تحقيق رقم قياسي عالمي وتشييد رمز للقاهرة الحديثة في زمنها. لدرجة أن برج القاهرة قد جاوز ارتفاع هرم خوفو بمقدار 43 مترًا وتم اعتباره في ذلك الوقت ثاني أعلى برج بعد برج إيفل الفرنسي.

***

لكن تشييد برج القاهرة لم يكن فقط شاهدًا على حداثة قاهرة يوليو أو على الشغف بالعملقة والبراعة الهندسية فحسب وإنما كان هو وليد سياق سياسي متوتر بين عبدالناصر والولايات المتحدة: قدمت الحكومة الأمريكية لناصر هدية شخصية قدرها ستة ملايين دولار كرشوة لوقف دعمه المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي.

نعوم شبيب
نعوم شبيب

وقرر ناصر تحويل الوضع لصالحه بإعلانه أن الستة ملايين سيمولون «برجًا مرئيًا للسفارة الأمريكية على ضفاف النيل. سيكون رمزًا للمقاومة والثورة ومصدرًا للفخر لمصر وإفريقيا والشرق الأوسط». بعد بناء البرج، وعلى سبيل السخرية، أطلقت الصحافة الأمريكية على برج القاهرة لقب “شوكة عبدالناصر”. أو «الشوكة في ظهر عبدالناصر» «the fork in the back of Nasser». وبغض النظر عن التسمية الأمريكية فلا يمكن إنكار أهمية برج القاهرة لنظام عبدالناصر وعلاقته بصراعه التاريخي مع الإمبريالية والهيمنة الأمريكية.

فيما بعد، تمت إضافة أبعاد أخرى لتشييد برج القاهرة اُضيفت على البعد السياسي: ففي كتابه القاهرة ـ ترجمة يحيى حقي – يضيف الناقد الأدبي الإنجليزي ديزموند ستيوارت (1924-1981) بعدًا مجتمعيًا. فيصف برج القاهرة بأنه قد خرج من قلب الطبقة الوسطى. لكن لم يفت ستيوارت السخرية من وصف برج القاهرة بأنه «أحد روائع العمارة الإسلامية الحديثة» بحسب بيان صحفي حكومي. إذ أنه – أي ستيوارت- يرى في معمار برج القاهرة أنه يشبه بالأحرى سلة مهملات عملاقة ومتعالية!

***

إن تتبع مسار الحداثة المعمارية في مصر وتطور عمران قاهرة يوليو تجعلنا نتساءل عن الرابط بين عمارة الحداثة. ونظرة الطبقة الحاكمة الجديدة إليها ومن ثم اختيارها. والواقع أن ثمة رابط يضاف إلى ما تناولناه الحلقة السابقة. ويجمع بين اختيار الحداثة كنمط وبين حاجة الطبقة الحاكمة الجديدة إلى إضافة قيمة مجتمعية وسياسية. ومن ثم بدت الحداثة كمتحدث معماري وعمراني للسلطة الجديدة ومعبر عن روح عصرها. ساهم اختفاء بعض المباني المهمة خلال حريق القاهرة الكبير مع الاختفاء التام لمعظم المؤسسات الأجنبية الكبرى في تمهيد الطريق لنموذج معماري وحضري مختلف اعتبرته الناقدة مارا نامان «كمشروع تحديثي جديد».

ومن ثم فإننا نعتبر حريق القاهرة في يناير 1952، وهو الذي عده جمال عبدالناصر أول علامات الثورة الاجتماعية ضد المؤسسات الفاسدة. ترجمة مكانية مهمة للرفض العلني لوجود طبقة الارستقراط والأجانب في وسط المدينة. وبدون قصد خلق النظام الملكي المتداعي فراغًا من حوله وداخله ممهدًا الطريق لمسار تحديثي تبناه النظام الناصري وظهر في عمارة وعمران عاصمته.

***

نستطيع أيضًا أن نفهم أن النمط الحداثي الجديد بدا متأثرًا بالتوجه الاشتراكي للنظام. الذي قرر أن يتقارب في توجهاته مع الاتحاد السوفيتي. وعليه فقد ظهر مبنى الإذاعة والتلفزيون – ماسبيرو- على كورنيش النيل، متأثرًا بالأسلوب البنائي السوفيتي. وبالمثل، فقد تمخضت المرحلة عن عمارة حداثية جديدة في وسط المدينة. ظهرت من خلال الجيران الثلاثة: فندق هيلتون، ومبنى جامعة الدول العربية، ومبنى بلدية القاهرة في ميدان التحرير (الإسماعيلية سابقًا). حتى أن مبنى مجمع التحرير الذي بدأ بناءه في أواخر عهد الملك فاروق قد تمت نسبته لجمهورية يوليو لطرازه الحداثي. فضلا عن موقعه واقتراب زمن تشييده لزمن الثورة. فيما بعد صار المجمع معروفًا بأنه رمزًا للمركزية وقلعة للبيروقراطية الحكومية.

أما فندق الهيلتون (1955-1959)، فقد تم تشييده بتشجيع من عبدالناصر نفسه الذي أراد إنشاء “فندق ضخم على درجة عالية من الفخامة في قلب المدينة، على ضفاف النيل”. تم تصميمه من قبل المكتب المعماري الشهير Welton Becket & Associate وعبرت كتلته العملاقة والنقوش على واجهاته. فضلا عن الأثاث المستلهمان من الحضارة المصرية القديمة عن حاجة النظام لإنشاء كيان فندقي ضخم لأجل إقامة كبار الضيوف والشخصيات العامة من خارج البلاد. وهو ما نراه نحن تأكيدًا لدور مصر وعاصمتها في قلب الدوائر الثلاث: العربية والإسلامية والأفريقية (راجع الحلقة الأولى).

أما بالنسبة للجار الثاني: مقر جامعة الدول العربية (1955-1960)، فقد صممه المعماري المصري محمود رياض. وعكست عمارته قيمته القومية في أنه المكان الذي ستعقد فيه القمم العربية وداخله سوف تتقرر مصائر القضايا الإقليمية المهمة. لاحقًا وفي عام 1960، تم بناء جار ثالث، صممه محمود رياض، لبلدية القاهرة (المنشئة أساسًا منذ عام 1949). عما قليل سوف يصبح مقر الاتحاد الاشتراكي العربي ثم مقر الحزب الوطني الديموقراطي بعد عودة الأحزاب السياسية في عهد السادات.

***

كل هذه المنجزات والمآثر الحداثية هي كما ذكرنا سابقًا خطوات سعى بها النظام الجديد فور وصوله إلى السلطة من أجل أن تحتل العاصمة المصرية أهمية خاصة تؤهلها لدور قيادي إقليمي غير مسبوق. ووفقًا لإرادة سيادية أصبحت القاهرة خلال الخمسينيات والستينيات مركز السلطة للبلاد وبغير منازع. بذلك تأكدت التسمية العامية للقاهرة فأصبحت “مصر” منذ ذلك الحين في رأينا. وهكذا أصبحت قاهرة يوليو وبحسب عالم الجغرافيا السياسي جورج موتان هي «المركز الوحيد لصنع القرار في بلد شديد المركزية».

اقرأ أيضا:

قاهرة يوليو (3): مدينة نصر والمهندسين.. الحداثة التي وصلت متأخرا!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر