قاهرة يوليو (3): مدينة نصر والمهندسين.. الحداثة التي وصلت متأخرا!

ربما من الأسباب التي دعت نخبة جمهورية يوليو إلى التخلي عن وسط المدينة كمقر لمباشرة سلطتهم هو تشييد ضاحية مدينة نصر عام 1958 بالقرب من مقر السلطة الجديد في مصر الجديدة. كما أنها تقرب من قيادة الجيش وثكناته بالعباسية. تمثل مدينة نصر مركزًا إداريًا وسكنيًا مهمًا. وتوفر المدينة الجديدة، المكونة أساسًا من مجموعة من العمارات والأبراج المحاطة بالفراغات العامة وبالخدمات، بيئة معيشية عمرانية مهداة للطبقات الوسطى.

وبحسب بعض المؤرخين يعتبر تشييد مدينة نصر من ضمن الإجراءات الحكومية الهادفة إلى «تعزيز هيمنة العاصمة» أو إلى تأكيد مفهوم المركزية الحضرية (تناولناه في الحلقة السابقة). كان قد تقرر نقل معظم الوزارات والإدارات الحكومية الواقعة في وسط المدينة خصوصا تلك الكائنة في شارع قصر العيني، إلى المدينة الجديدة. ولكن ذلك لم يحدث لأسباب مختلفة، وإنما استقرت فيها الوزارات والادارات التي تأسست بعد عام 1952. مثل وزارة التخطيط القومي (1958) ثم معهد التخطيط (1960)، والجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (CAPMAS) (1964). وكذا شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير، التي تعتبر صاحب امتياز مشروع مدينة نصر. في وقت لاحق، أصبحت المدينة الجديدة محور تمركز الكيانات العسكرية ونوادي القوات المسلحة. كما استقبلت المدينة الجديدة مركزًا كبيرًا للمؤتمرات وعدد من المقار للشركات المهمة منها شركات النفط.

***

وعن الكيفية التي ظهرت بها مدينة نصر للوجود فإنه يجدر بنا هنا دحض معلومة متداولة في أن مدينة نصر كيان حضري غير مخطط أساسًا أو أن تخطيطها كان من وضع الضباط الأحرار أنفسهم من دون الرجوع إلى المتخصصين. تصميم مدينة نصر من وضع المعماري سيد كريم وهو أحد أهم المصممين المصريين في زمانه. تغطي المدينة 2800 هكتار وتم تصميمها لتشمل استاد أولمبي يتسع لـ80000 متفرج ومنطقة إدارية ووحدات سكنية بعضها على هيئة أبراج لتستوعب سبعة إلى عشرة آلاف ساكن. يستند تخطيط المدينة إلى مبادئ ميثاق أثينا Athens Charter 1933. وهو الميثاق المبني عليه المدينة الإشعاعية للمعماري الفرنسي لو كوربوزيه Le Corbusier 1935. وهو نفسه الميثاق الذي حدد معالم التصميم الحضري في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. فيما يستند تصميم المباني السكنية إلى تصميم المساكن اليوغوسلافية في ذلك الوقت. أما عن طراز مدينة نصر فيتنمى بشكل عام لحركة الحداثة في العمارة وبشكل خاص لمرحلة الحداثة المتأخرة Late modernism في توجهها الوحشي Brutalism، الأمر الذي امتدحه كتاب القاهرة لغيسلان أليوم: «إن معمار مدينة نصر يناسب عصره تمامًا». وبصفة عامة يعلق الكتاب على المشروع أنه كان «الشأن (يعني المشروع) الأكبر للنظام في ذلك الوقت».

***

على صعيد موازي، على الضفة الغربية للنيل، تتدخل الدولة للتصرف في أراضي الأوقاف، ليتم بناء مدينة المهندسين الجديدة عليها ويتم توزيع الأراضي في المدينة الجديدة على الضباط الأحرار. ثم على مختلف النقابات المهنية مثل المهندسين (حملت المدينة اسمهم) ورجال القانون وأساتذة الجامعات والصحفيين وغيرهم. ينتمي هؤلاء إلى الطبقات الوسطى وفي ظل العهد الجديد والامتيازات الجديدة يظهر هؤلاء – مجتمع ضاحية المهندسين- كطبقة مهيمنة جديدة. نعتقد أن مدينة المهندسين الحالية هي النتيجة لتوحيد الأحياء الصغيرة (أحياء الضباط والقضاة والصحفيين) في إطار حضري واحد. في هذا الصدد ننتقل ببعض التصرف ما أعطاه الكاتب والمهندس ميلاد حنا من صورة مفصلة عن تشييد مدينة المهندسين من خلال تسليط الضوء على العلاقة بين الطبقات الوسطى والطبقة الحاكمة الجديدة منذ عام 1952:

«في 23 يوليو 1952، دخلت مصر حقبة جديدة نتجت عنه تغييرات اجتماعية كبيرة. وبعد دراسة مستفيضة، سأذكر هنا فقط أثر هذه التغييرات على مسألة الإسكان: […]

  • صعود الطبقات الوسطى (العسكريين ورجال الشرطة والموظفين…). أراد هؤلاء (باعتبارهم أبطال المرحلة الجديدة)، أن تعكس مساكنهم الوضع الاجتماعي الذين صاروا يتمتعون به. تم تقسيم الأراضي التابعة للأوقاف، على الضفة الغربية لنهر النيل، وتم توزعيها. ظهرت العديد من المناطق السكنية التي تحمل اسم الطبقات الاجتماعية التي تسكنها: مدينة (حي) الضباط – في موقع رئيسي بالقرب من المتحف الزراعي. حيث سكن بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، بعيدًا عن الأحياء الشعبية التي سكنوها قبل عام 1952- ثم مدينة (حي) القضاة، ثم مدينة أساتذة جامعة القاهرة، وضباط الشرطة، والتجاريين والزراعيين، وموظفي الخارجية. ثم مدينة لآخر المنضمين للمجموعة: المهندسين وهم الذين أبدعوا في تصميم مدينتهم حتى فرضوا اسمها “مدينة المهندسين” على المنطقة كلها  فاستوعبت تلك باقي الأحياء الصغيرة».
***

ورغم كل شيء وفيما بعد، عمرت الضاحيتان – مدينة نصر والمهندسين – وأصبحتا بطلي مرحلة الانفتاح. حتى أن الراوي في رواية عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، يستحضر عمليات الإزاحة والاحلال للطبقات التي كانت تسكن وسط المدينة. ثم يذكر على وجه التحديد ضاحيتي مدينة نصر والمهندسين: «ثم جاءت السبعينات فبدأت وسط البلد تفقد أهميتها شيئًا فشيئًا وانتقل قلب القاهرة إلى حيث تعيش النخبة الجديدة في المهندسين ومدينة نصر”.

يعد تشييد المدينتين (مدينة نصر والمهندسين) على حدود وسط المدينة من بين الجهود التي بذلتها السلطة الجديدة لإعداد العاصمة للدور الذي سوف تلعبه لاحقًا. ولأن المدينتين هما ثمرة “العهد الجديد” كان من المهم أن تكتسي كل منهما بثوب معماري جديد أيضًا. بدى للسلطة الجديدة الطراز الحداثي Modern Style أو الطراز الدولي في العمارة International Style– كطراز مثالي بسبب قلة تكاليفه وسرعة تنفيذه وتركيزه على المبدأ الوظيفي النفعي. وبالرغم أن حركة الحداثة في العمارة التي ظهرت منذ مطلع القرن العشرين كانت قد بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة في الدول التي ظهرت فيها. إلا أن نسخة رديئة ورخيصة منها – الطراز السوفيتي – وصلت متأخرة إلى مصر لتبدأ دورة جديدة في قاهرة يوليو وضواحيها الجديدة.

ليست تلك وجهة نظرنا وحدنا، راوي رضوى عاشور في قطعة من أوروبا. انتقد بشدة الضباط الأحرار في اختيارهم طراز العمارة الحداثية في ضواحي قاهرة يوليو الجديدة. تحديدًا في مدينة نصر. معتبرًا معمارها مملًا ليس فيه ابتكار: «ذهبوا إلى أوروبا المدمّرة بفعل الحرب. تطلعوا إلى مبانيها الجديدة الأشبه بعلب الكبريت المتطابقة، بنوا مدينة نصر. ووزعوا معمارها على ما تيسَّر من المدينة».

***

يستوقفنا في كلام الراوي رؤيته في أن تطور العاصمة وإنشاء أحياء جديدة يرتبط أساسًا بالضباط الأحرار أنفسهم. باعتبارهم صانعو القرار الذين تتجاوز سلطتهم سلطة الوزراء والمخططين. بمعنى أن الراوي ينسب الأمر كله إلى “الضباط الأحرار”، على الرغم من حل التنظيم بحل مجلس قيادة الثورة عام 1956. وذلك في رأينا للتأكيد على الطبيعة الشابة والعسكرية للطبقة الحاكمة. هذه الطبيعة هي نفسها العذر الذي يلتمسه الراوي لهم في قراراتهم. خصوصًا فيما يتعلق بالقاهرة: «كن رحبا، قدِّر وتفهّم أنهم كانوا صغارا، لم تسعفهم المعارف. خاضوا حروبهم بما أتيح لهم من إمكانيات. ما الذي يضير في نقلهم تخطيط المدينة. النوايا حسنة. خطأ بسيط، جل من لا يخطئ، الكمال لله وحده!».

***

على أية حال، لم يشفع للطرز النيو كلاسيكية القديمة وجاهتها واستلهامها من التراث المصري أو العربي لدى السلطة الجديدة التي اعتبرتها من آثار العصر البائد. وقررت أن تستبدل بها صورة حديثة تعبر عن روح العصر في ضواحيهم الجديدة. حيث سكنت البرجوازية الجديدة التي قوامها من الطبقة الوسطى. منذ ذلك العهد صارت قاهرة الخديو الهوسمانية الكلاسيكية في القلب بين ضاحيتين حداثيتين – مدينة نصر شرقًا والمهندسين على الضفة الغربية للنهر – ليعكسا بمبانيهما المستطيلة وأبراجهما وفراغاتهما حالة عمرانية ومعمارية جديدة ويعبران عن عصر جديد.. ورجال جدد.

اقرأ أيضا:

قاهرة يوليو (2): قاهرتان من جديد

قاهرة يوليو (1): «فلسفة الثورة» مدخلا

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر