قاهرة يوليو (11): خلافة سكنية
تناولت الحلقة العاشرة من سلسلة قاهرة يوليو الإجراءات التي اتخذها النظام الناصري ضد وجود الأجانب وكيف أن أغلب هؤلاء غادروا البلاد في رحلة “ذهاب بغير عودة”. كان لخروج الأجانب الأثر الكبير في تغيير مورفولجيا المجتمع المصري، خصوصًا المجتمع القاهري، فضلًا عن التغيرات الاقتصادية.
كل ذلك ألقى بدوره ظلالًا على الحالة العمرانية والمعمارية، كما سيتقدم. لكن تجدر الإشارة إلى أن المؤسسات التي أممتها الدولة لم تكن جميعها مملوكة لأجانب، لكن بعضها قد أسستها النخبة ما قبل 1952 – الطبقة الأرستقراطية – ومن ثم كانت عمليات التأميم ثأرًا للعهد الجديد من العهد البائد. تم تأميم المؤسسات والشركات المملوكة للأجانب، ومعظمها كان يقع في وسط القاهرة، وتغيرت أسماؤها إلى أخرى مستمدة من شعارات المرحلة الناصرية: فشركة “عدس” تحولت إلى شركة “الأزياء الحديثة” منذ عام 1960. شمل ذلك أيضًا شركتي “شيكوريل” و”بنزايون”. أما “عمر أفندي” فقد جرى تأميمه قبل ثلاث سنوات في عام 1957، لكنه احتفظ لحسن الحظ باسمه.
شملت التأميمات بالطبع البنوك الأجنبية، فبنك ناصر الاجتماعي، مثلًا، هو نفسه مصرف “دي روما” بعد التأميم. أما المدارس الأجنبية فقد أخذت نصيبها من حركة التأميمات مثل “مدرسة الليسيه الفرنسية” بباب اللوق، التي تم تعميدها باسم “ليسيه الحرية”.
***
على نفس النحو، طالت موجات التأميم كبرى الشركات صاحبة امتياز بناء بعض أحياء القاهرة منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين: فخلال ستينيات القرن الماضي، تم تأميم شركات “هيليوبوليس” و”المعادي”، وكل منهما قد أسس ضاحية مستقلة باسميهما في الجزء الشرقي والجنوبي من العاصمة. لكن تأميم الشركتين لم يؤثر بشكل ظاهر على مستوى الضاحيتين، فظلا يحتفظان بمستواهما الراقي زمنًا طويلًا. بالنسبة لشركة “هيليوبوليس”، فقد تحولت إلى شركة “مصر الجديدة للإسكان والتعمير”، وزادت أهميتها بعد أن أصبح مقر الحكم – قصر الاتحادية- ضمن نطاقها، ومن ثم أصبحت ضاحية مصر الجديدة هي المكان المفضل لسكنى الضباط وموظفي الحكومة من أبناء الطبقة الوسطى أو من البرجوازية الصغيرة.
تُعتبر العمارة الكبيرة المعروفة باسم “الإيموبيليا” في وسط القاهرة، والتي بناها الاقتصادي المصري أحمد عبود باشا، من أشهر مباني القاهرة في أواخر الأربعينيات، حيث سكنها شخصيات سياسية وفكرية وفنية بارزة. تم تأميم الشركة المؤسسة لعمارة “الإيموبيليا” في عام 1961، واستبدال مجلس إدارتها، الذي كان يضم نخبة من الشخصيات المصرية ومن الأجانب، بمجلس وطني قوامه الموظفون المدنيون والعسكريون، فحملت الشركة الجديدة اسم شركة “الشمس للإسكان والتعمير”.
***
يمكن النظر إلى رحيل الأجانب على أنه تم خلال موجات متتالية بدأت بالحرب العالمية الثانية ثم تأسيس دولة إسرائيل، وانتهت بحركة التأميمات الكبرى وحرب يونيو 1967. أثرت هذه الموجات بشكل كبير على الوضع الاقتصادي للبلاد، فوفقًا للمؤرخ أندريه ريموند، فإن رحيل عدد كبير من الخبراء والفنيين الأجانب قد أدى لـ”إفقار مصر”. لا يسعنا إلا أن نشارك ريموند الرأي، خصوصًا أن الدولة الناصرية اتخذت إجراءات الترحيل دونما خطة لتدريب كوادر جديدة تحل محل الخبراء والفنيين الأجانب الذين غادروا.
وبالرغم من التزام دولة يوليو بنظام تعليمي يتيح الفرصة للطبقات المتوسطة والدنيا، إلا ذلك الالتزام لم يكن ليسد فجوة غياب الخبراء الأجانب، فذلك يستغرق السنوات الطوال. نضيف إلى ذلك أن التقلبات والأزمات السياسية، التي اعتبرها أندريه ريموند «زوبعة متصاعدة» خلال الخمسينات والستينات، قد أبطأت عملية تطوير التعليم.
أتاحت هذه الأزمات السياسية، وخاصة أزمة السويس كما أسلفنا في الحلقة العاشرة، فرصة كبيرة لعبد الناصر في تعزيز أيديولوجيته المرتبطة بالفكرة القومية وبالمذهب الاشتراكي من خلال رفضه للوجود الأجنبي في البلاد. لكن مع ذلك، يظل قرار طرد الأجانب من مصر من القرارات الغاضمة التي أظهرت الحوادث فيما بعد أنه لم يكن مدروسًا أو مخططا له، شأنه شأن قرارات أخرى اتخذت بانفعال ونفذت على وجه السرعة دونما النظر إلى أية عواقب.
***
ورغم ما سبق، فإنه – ومن الناحيتين السياسية والاجتماعية- فإن خروج الأجانب قد صدر للمصريين فكرة وطنية هامة: استعادة البلاد والانتصار على الهيمنة الأجنبية بعد قرون من الاحتلال ومن التمييز العرقي. هذه الفكرة الرئيسة أفرزت واقعًا مجتمعيًا جديدًا سوف يميز حاضر المرحلة الناصرية ومستقبلها، كما سيغير من جديد وجه العاصمة ومركزها مثلما أوجز أندريه ريموند:
“كان هذا الرحيل ثقيلًا لدلالة: فقد ساعد على إعادة عاصمة المصريين إلى المصريين، فقد ساهمت سياسة عبد الناصر، مهما كانت عيوبها وإخفاقاتها، في إعادة مصر إلى سكانها، وتسببت تلك السياسة في حدوث انتقال اجتماعي واقتصادي غير بدوره وجه المدينة”.
برحيل الأجانب، فقدت وسط مدينة القاهرة خاصيتها الكوزموبوليتانية التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر. فمنذ أكثر من قرن، حظي مجتمع القاهرة بحضور أجنبي واسع سمح له بالانفتاح على ثقافات متنوعة والتعرض لمناخ تعددي عززه النظام الملكي في ظل حياة دستورية، بغض النظر عن عيوبها وارتباطها بالمحتل وبمؤامرات القصر. لكن على أية حال، أصبح مجتمع قاهرة يوليو رهين نهج أحادي المشرب فرضته إجراءات النظام الناصري.
***
بعد هذه الأمواج من طرد الأجانب، تم تحرير عدد كبير من الشقق والمساكن في وسط المدينة. حدث الأمر نفسه للمساكن التي كانت تسكنها الطبقة الأرستقراطية، فتم وضعها أولاً تحت الحراسة. لاحقا، سوف يتم توزيع هذه المساكن الشاغرة والكائنة في أحياء القاهرة الأوروبية على أفراد الطبقة الحاكمة وأقاربهم وموظفي الدولة والعاملين في شركات القطاع العام. جاء توزيع هذه المساكن مصاحبًا لنظام عقاري جديد سمح ببيع الوحدات السكنية الشاغرة بأسعار منخفضة للغاية أو إتاحتها بقروض طويلة الأجل. اعتبر الجغرافي الكبير جمال حمدان هذا الانتقال عملية “خلافة سكنية”. شرح حمدان هذا المصطلح بشكل مثالي موضحًا تجلياته على المشهد الحضري:
“في هذه الأحياء [في وسط المدينة] فضلت الأقليات الأوروبية الاستعمارية العيش، شأنها شأن العائلات الرأس مالية والصناعية المحلية. بعد تصفية الطرفين (يعني الأجانب والأرستقراط)، نمت تدريجيًا طبقة بورجوازية صغيرة، ثرية ومتعلمة. ساهمت تلك الطبقة بشكل معين في تخفيف حدة التضاريس الاجتماعية في العاصمة”.
اقرأ أيضا:
قاهرة يوليو (10): خروج بدون عودة