قاهرة يوليو (10): خروج بدون عودة
في صبيحة 23 يوليو 1952، انتهى البيان الذي أذاعه السادات باسم اللواء محمد نجيب برسالة مطمئنة للأجانب: «وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم، ويعتبر الجيش نفسه مسؤولاً عنهم». تُظهر الرسالة بوضوح رؤية الضباط الأحرار للأجانب الذين يعيشون في البلاد: فهم «إخوة» يمثلون هوية مستقلة لأن لهم ممتلكاتهم ومصالحهم المنفصلة عن بقية المصريين الذين خاطبهم البيان.
على الرغم من ذلك، بدت سياسات دولة يوليو في التعامل مع الأجانب على غير ما جاء في البيان. كان غالبية السكان الأجانب في ذلك الوقت يسكنون ما بين القاهرة والإسكندرية ومدن القناة. وهم منتمون إلى جنسيات مختلفة: اليونانية، والإيطالية، والفرنسية، علاوة على الانجليز. بدأ رحيل الأجانب من مصر خلال الحرب العالمية الثانية، لكن تزايد بعد قيام حركة يوليو وإعلان الجمهورية. بعد توقيع اتفاقية الجلاء، بدا أن الخطاب السياسي في الدولة ضد الأجانب، ففي خطاب التأميم الشهير، 26 يوليو 1956، هاجم جمال عبد الناصر الوجود الأجنبي في مصر وشن هجومًا على رموزه مثل اللورد كرومر وفرديناند دي ليسبس.
كما هاجم شركة قناة السويس، معتبرا إياها «صرحا من صروح الاستبداد، وصرحا من صروح الاغتصاب، وصرحا من صروح الذل». وفي سياق آخر، وصفها بأنها «دولة داخل الدولة». وبالمثل، فإن خطاب الرئيس ألمح لعملية التمصير وأكد الرغبة الأكيدة في بناء السد العالي، وتناول العقبات التي وضعتها قوى الاستعمار للحيلولة دون بناءه على التصور القومي البحت الذي بدا أنه يرفض الوجود الأجنبي:
«حينما نبني السد العالي، نبني أيضا سد العزة والحرية والكرامة، ونقضي على سدود الذل والهوان. ونعلن مصر كلها جبهة واحدة. كتلة وطنية.. متكاتفة.. متحدة.. سنعتمد على سواعدنا، وعلى دمائنا، وعلى أجسامنا، سنبني مصر القوية، وسنبني مصر العزيزة».
***
وردا على تأميم قناة السويس، هاجم التحالف الثلاثي (فرنسا وإنجلترا وإسرائيل) سيناء ومنطقة القناة في 29 أكتوبر 1956 في عملية عسكرية معروفة في المراجع الأجنبية باسم عملية الفارس Mousquetaire Opération – استلهامًا من رواية الفرسان الثلاثة!- أو العملية 700. بعد هذا التدخل، لم يعد الرعايا الأجانب المنتمون للدول الثلاثة محل ترحيب في مصر، ففي أول نوفمبر 1956، وضعت جمهورية مصر يدها على رؤوس أموال وممتلكات الإنجليز والفرنسيين المقيمين في مصر، الأمر الذي أدخل لخزانة الحكومة حوالي 30 مليون جنيه. فيما بعد، توجب على الإنجليز والفرنسيين تسجيل أسماءهم في مقر الحكومة المصرية، وهناك تلقى معظمهم نصيحة مغادرة البلاد، وهو ما اعتبرته كارين بنفلة «تعبيرًا ملطفًا عن الرغبة في طردهم» نهائيا.
وبناءً على اتهامهم بدعم العدوان الثلاثي، وضعت الدولة رعاياها من الفرنسيين والإنجليز، وكذلك أعضاء الجالية اليهودية، تحت الإقامة القسرية في منتصف نوفمبر 1956، بحجة معلنة هي حمايتهم. ثم قررت الحكومة رفع حظر السفر عن هؤلاء حتى يتسنى لهم مغادرة البلاد. أظهر القرار إرادة الدولة الراسخة في رفض الأجانب، فغادر الكثيرون البلاد فورًا لدرجة أن القنصلية الإيطالية، على سبيل المثال «تحولت إلى مكتب للسفر»، بحسب كارين بنفلة كما صدر عدد غير مسبوق من التأشيرات لدولة كأستراليا.
***
في أواخر نوفمبر 1956، اتهمت الصحافة العالمية الدولة المصرية بتنفيذ «عمليات ترحيل جماعي واعتقالات وسجن» ضد الرعايا الأجانب لدرجة أنه تم القبض على حاخام الجالية اليهودية. نفى المتحدث باسم الوفد المصري في الأمم المتحدة هذه الاتهامات، متبعًا أسلوب الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع: اتهم الصحافة العالمية في المقابل باللجوء إلى أساليب فاشية ونازية ضد مصر «لإخفاء نوايا الفرنسيين البريطانيين والإسرائيليين في انتهاك قرارات الأمم المتحدة». وبصفة عامة، سادت المرحلة أجواء غائمة من عدم اليقين وانعدام الثقة المتبادل بين الدولة ورعاياها الأجانب.
وفيما يخص الجالية اليهودية في مصر، فقد بلغ عدد أعضائها 70000 شخص، من ضمنهم 7000 فرنسي وحوالي 6000 إنجليزي. وخلال أزمة السويس، صرحت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية أن أعضاء الجالية اليهودية أعداء للدولة ووصفتهم بالصهيونيين. فيما بعد جردت الدولة أفراد الطائفة اليهودية الحاصلين على الجنسية المصرية من جنسيتهم.
وفي 22 نوفمبر 1956، أمر عبد الناصر بطرد جميع الرعايا الفرنسيين والبريطانيين – ومعظمهم من الجالية اليهودية – من البلاد. نتيجة لذلك، غادر ما بين 25000 و40.000 أجنبي البلاد بين أواخر عام 1956 وأوائل عام 1957. سمحت الحكومة لهؤلاء بالسفر بشرط ألا يحمل المغادر مبلغ أكثر من 200 جنيه مصري ولا تزيد حمولته عن حقيبة واحدة. وصمت جوازات سفر المغادرين بجملة «بدون عودة» أو «خروج اختياري». وكان من المقرر أن يغادر مؤرخ العمارة الإسلامية الإنجليزي، السير كيبل أرشيبالد كاميرون كريسويل (1879-1974)، البلاد التي كان يعيش ويعمل أستاذا بها منذ عشرينيات القرن الماضي، لكنه اختار البقاء. قبلت الحكومة طلبه احتراما لمساهماته البحثية والتعليمية في مجال تاريخ العمارة الإسلامية في مصر.
***
استقبلت الصحافة المصرية رحيل الأجانب واليهود بارتياح كبير، ونشرت إحدى الصحف مانشيت رئيسي بعنوان «رحلة بدون رجعة؟» تحتها صورة كبيرة لرجل ملامحه أجنبية يطل برأسه من سيارة ترحيلات ومحاط بثلاثة من رجال الشرطة. تحت الصورة تعليق: “حاول بشتى الوسائل ألا يرحل عن مصر، فوضع تحت حراسة البوليس إلى أن قامت به الباخرة من الإسكندرية حتى لا يهرب ويعود مرة أخرى”. أما باقي العناوين في الصفحة فلا تحتاج إلى شرح إذ أظهرت بوضوح موقف الدولة وصحافتها من الأجانب:
- “تبرعات للأعداء، وتجميد للأموال، وتخريب اقتصاد”.
- “غادر الخطرون ممن لا جنسية لهم ميناء الإسكندرية، حملتهم باخرة إلى خارج المياه الإقليمية.. إلى بلادهم أو إلى أي مكان على الأرض يشاءون.. وكانت التأشيرة المختومة على جواز السفر كل واحد منهم تنص بالخط العريض على أنهم مسافرون في “رحلة بدون رجعة”.
وعلى الرغم من أن رحيل الأجانب قد سمح للحكومة الناصرية بالاستيلاء على ممتلكاتهم وأموالهم مع ما يقرب من 500 شركة ومؤسسة أجنبية، إلا أن الإجراءات التي اتخذتها الدولة ضد الأجانب ظلت في حالة تصعيد: في أوائل الستينات، عصفت موجة من التأميم ببقية الأجانب المقيمين بمصر، واستهدفت هذه الإجراءات، المعروفة باسم «حركة التأميم الكبرى» أو «القرارات الاشتراكية»، بقية ممتلكات الأجانب وتلك المملوكة لطبقة الأرستقراط.
***
ومن ثم وجه النظام الناصري ضربة قاضية أخيرة للوجود الأجنبي في مصر. وقتئذ، لم يتجاوز عدد الأجانب، خاصة في عام 1960، 146000، أي حوالي 0.5٪ من السكان. لكن في العام التالي، وبعد التأميمات، أًصبح عدد اليهود في مصر 7000 فقط. ورغم هذه النسب المنخفضة، استمرت جمهورية يوليو في عملية طرد الأجانب الممنهجة حتى بعد تأميم ممتلكاتهم.
في كتابه “البكباشي والملك الطفل”، يحاول الكاتب الفرنسي جيلبرت سينوي، الذي كان يبلغ من العمر 18 عامًا عندما غادر مصر مع عائلته بعد موجة التأميم، تفسير موقف دولة ناصر العدائي من رعاياها الأجانب، فقارن إجراءات عبد الناصر بما فعلته ملكة قشتالة إيزابيلا (1451-1504) مع مسلمي ويهود الأندلس خلال القرن الثالث عشر:
“يكفي رجل واحد لجعل كل شيء رأسًا على عقب […] في إسبانيا، أصبح اليهود والمسلمون برابرة في نظر إيزابيلا المسيحية وهي نفسها نظرة الرئيس البكباشي لليهود ولمسيحيي الشام”.
***
كانت تلك مقدمة لازمة قبل عرض أثر خروج الأجانب واليهود على المشهد الحضري في قاهرة يوليو. وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية دور الأجانب في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للقاهرة، على الرغم من أن هؤلاء لم يشكلوا أكثر من 1.5٪ من السكان في عام 1937، أي ما يعادل 250.000 نسمة. ومع ذلك، الوجود الأجنبي تميز بعدد كبير من المتخصصين والخبراء رفيعي المستوى، والفنيين، والحرفيين. كما تميزت الجالية اليهودية بخبرتها الطويلة في إدارة الأعمال التجارية حتى احتكارها.
والأمثلة على ذلك متعددة: كانت المتاجر الكبرى في القاهرة وبيوت الأزياء مثل شيكوريل وصدناوي وعدس وعمر أفندي وبنزايون تنتمي جميعها إلى عائلات يهودية. بينما تمتلك عائلات أخرى شركات كبرى مثل شندلر للطباعة، وسيطرت عائلة مانشيه على صناعة المنسوجات. أما إنتاج الأجهزة الكهربائية والمنتجات البلاستيكية فكان حكرًا على عائلة شفرمان. امتد تأثير الجالية اليهودية إلى مجالات الإعلان والإعلام بنشرها لخمسين صحيفة، منها 31 ناطقة باللغة العربية بين عامي 1877 و1947. وفي مجال السينما، أسس المليونير جوزيف موصيري شركة Josy Film في عام 1915، وهي شركة رائدة في إنتاج الأفلام وتوزيعها، بينما أصبح توجو مزراحي أهم مخرج في فترة الأربعينيات.
اقرأ أيضا:
قاهرة يوليو (9): شوارع وميادين وتماثيل