قاهرة يوليو (1): «فلسفة الثورة» مدخلا
ليلة الأربعاء 23 يوليو 1952، احتلت وحدات من الجيش المصري تابعة لتنظيم الضباط الأحرار جميع النقاط الاستراتيجية للعاصمة. اقتحم أعضاء التنظيم اجتماع عاجل لقادة الجيش ثم اعتقلوهم في ثكناتهم العسكرية. عند شروق الشمس، شاهد المصريون الدبابات والعربات المدرعة في وسط المدينة. ثم احتلت ميدان قصر عابدين (مقر الحكم) دونما مقاومة تذكر من الحرس الملكي وفي غياب “المليك المفدى” الذي كان يقضي عطلته الصيفية في الإسكندرية. يروي توفيق الحكيم شهادته عن هذا اليوم الاستثنائي:
“وخرجت في صباح ذلك اليوم (الأربعاء 23 يوليو 1952)، واتجهت إلى ميدان سليمان باشا لأتناول فطوري المعتاد، وإذا بي أجد في ذلك الميدان دبابتين من دبابات الجيش المصري. إذن المسألة قد تكون أكبر مما توقعت. فنحن قد اعتدنا أن نرى في مثل هذه المواقف دبابات جيش الاحتلال الإنجليزي. أما دبابات جيشنا المصري، وخاصة بعد بيان يتحدى الملك، فمعناه شيء لم يكن يخطر لنا على بال. ودخلت محل «جروبي»، ووجدت هناك بعض المعارف يتحدثون في ذلك الأمر، وقد احتدم الحديث وعلت الأصوات واشترك في النقاش من نعرف ومن لا نعرف، فأدركت أن أحداثا خطيرة في الطريق إلينا”.
الذين لم يشاهدوا توفيق الحكيم وصلهم صوت أنور السادات عبر المذياع ليلقي عليهم بيانًا عن أهداف الحركة. البيان على غموضه يحمل حالة إيجابية إذ ندد “بالرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم”. مرجعًا إلى ذلك الهزيمة في حرب فلسطين، والتي تلتها فترة “تضافرت فيها عوامل الفساد”. وبحسب البيان، فإن الجيش ضج من أن يتولى أموره «جاهل أو خائن أو فاسد». لذلك، يعلن السادات، على لسان الضباط الأحرار أنهم قد قرروا “تطهير أنفسهم” من خلال إذعان الجيش لـ«لرجال نثق في قدرتهم، في خلقهم وفي وطنيتهم». ويفترض البيان أخيرًا “أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب”.
** **
في 26 يوليو 1952، أجبرت “الحركة المباركة” الملك فاروق على التنازل عن العرش لصالح ابنه الذي أصبح الملك أحمد فؤاد الثاني. على الرغم من أنه غادر مع والده إلى المنفى بإيطاليا. تكون مجلس للوصاية على الملك الرضيع. لعب المجلس كما لعبت الحكومة دورًا رمزيًا في إدارة دفة الأمور بعكس الدور الذي لعبه مجلس قيادة الثورة. الذي يضم أعضاء الهيئة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار برئاسة اللواء محمد نجيب.
في 18 يونيو 1953، اُعلنت الجمهورية بدستور مؤقت. انتهى عهد أسرة محمد علي للأبد وأصبح نجيب أول رئيس للجمهورية ورئيس وزراء. أما الرجل الثاني جمال عبدالناصر فقد أصبح نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للداخلية. أصبح مجلس قيادة الثورة يحكم البلاد فعليًا. منذ ذلك التاريخ، في رأينا، بدأ نجم عبدالناصر وأيديولوجيته الجديدة جذريًا في الصعود.
** **
هذه هي البداية التاريخية لما سوف تتناوله هذه الحلقات في سلسلة “قاهرة يوليو”، وهي بداية لازمة. إذ أنه ابتداء من فجر يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 كانت مدينة القاهرة على موعد مع تغيرات جذرية امتدت آثارها حتى وقت كتابة هذه الحلقات. والحق أن قاهرة يوليو أو تطور العاصمة المصرية خلال جمهورية يوليو. عصر الضباط الأحرار، هو موضوع تطرق إليه أغلب مؤرخي القاهرة، ولكن – في رأيي على الأقل – يظل المجال مفتوحًا لسرديات جديدة أو مختلفة. خصوصًا وأن الفترة التي تتناولها الحلقات تتعلق بجمال عبدالناصر وبرفاقه. وسواء اتفقنا أو اختلفنا – وإن كان قدرنا أن نختلف! فإن سياسة عبدالناصر – والكلام للمؤرخ أندريه ريموند – “مهما كانت عيوبها وإخفاقاتها، قد ساهمت في إعادة مصر إلى المصريين. وأثارت تحولًا اجتماعيًا واقتصاديًا قام بدوره بتغيير وجه المدينة [القاهرة]”.
حين شرعت في الكتابة عن قاهرة جمهورية يوليو تساءلت عن المدخل لفهم العلاقة بين السياسات العامة لجمهورية يوليو وتطور مدينة القاهرة. قررت أن أبحث عن مفاتيح جديدة للفهم، وجدت في الكتابات التي أرخت لهذه الفترة من حياة القاهرة الشيء الكثير جدًا من الخطوط العريضة. ومن التفاصيل لكن هذه الكتابات على غناها لم تجب على تساؤلاتي بالقدر الذي يرضي غرور الباحث. قررت اللجوء ببساطة لما كتبه رجال ثورة يوليو أنفسهم، عن الثورة نفسها. ووجدتني اطالع للمرة الثالثة ما كتبه جمال عبدالناصر كمنظر وعراب للثورة. ومن ثم حاولت استخلاص مفاتيح للفهم من بعض فقرات كتابه فلسفة الثورة (صدر عام 1954). مفترضًا أن ذلك هو المدخل الذي من خلاله قد تتضح لنا الكيفية غيرت وجه القاهرة خلال عقدين فقط من الزمان.
** **
إن دراسة التغييرات التي أجرتها الثورة على معمار وعمران القاهرة تدفعنا إلى تحليل أيديولوجية الثورة التي خطها عبدالناصر في كتابه. كتاب فلسفة الثورة وثيقة في غاية الأهمية ويكفي أن نعرف أنها تعتبر في نظر بعض المؤرخين «مصدر الإلهام» لدستور عام 1956. كما يعتبر عملا مستقلًا يضع خلاله ناصر بأسلوب أدبي خارطة لطريق مصر ولوضعها وقت قيام الثورة بين دول العالم… في مقاييس الحداثة والتقدم:
“كانت أرواحنا ما زالت تعيش في آثار القرن الثالث عشر وإن سرت في نواحيها المختلفة مظاهر القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين. وكانت عقولنا تحاول أن تلحق بقافلة البشرية المتقدمة التي تخلفنا عنها خمسة قرون أو يزيد. وكان الشوط مضنيا والسباق مروعا مخيفا” (فلسفة الثورة، ص70). ظهر «فلسفة الثورة» لأول مرة كسلسلة من مقالات نشرت بين عامي 1953 و1954 في الصحافة المصرية. تم نشر نسخة مجمعة في عام 1954 في شكل كتيب ثم في عام 1956، صدرت فلسفة الثورة على هيئة كتاب مدرسي. وهو ما اعتبرته كارين بنافلا المتخصصة في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط “سياسة تعليمية ثقافية جديدة”.
** **
ينطبق على كتاب فلسفة الثورة مقولة “الكتاب يبان من عنوانه”، لكننا ونحن بصدد الربط بين أفكار الكتاب وبين تطور عمران القاهرة تبين لنا أن “الكتاب يبان من غلافه”. فغلاف الكتاب موحي ويحمل دلالات هامة تتعلق بالأيدولوجية الناصرية وقتها كما تتصل بعمران القاهرة. الغلاف الذي نقصد هنا هو ذاته المعروف لإصداري سنة 1956. وهو مستوحى من ألوان علم هيئة التحرير والعلم الجديد للجمهورية (الأحمر والأسود والأبيض). يحمل الغلاف أيضًا رسما للنسر، وهو عنصر آخر من العلم الجديد و يعود أصله إلى العصر الأيوبي خلال القرن الثاني عشر. فهو شعار صلاح الدين (1174-1193) ويرمز نسر صلاح الدين إلى توحيد الأمة العربية. على الغلاف أيضًا، تم استخدام اللون الأحمر كخلفية بينما يتم رسم ظلًا كبيرًا لدبابة باللون الأسود. مما يعني حركة الجيش. أما أسفل الغلاف، فنلاحظ رسوم مظللة لخط سماء القاهرة. بالأحرى للمساجد القديمة الواقعة في القاهرة المعزية منها جامع ابن طولون ومحمد علي.
في رأينا، يحمل هذا الغلاف ضمنيًا على معنيين شديدي الأهمية: الأول يشير إلى الطبيعة العسكرية لحركة يوليو واستلهامها من التاريخ. ثم هواها “القومي العروبي”. أما الثاني فهو تمثيل الشعب عن طريق ظلال المساجد القديمة. وكأن سكان المدينة القديمة (قاهرة المعز) هم الشعب الحقيقي وليس سكان القاهرة الأوروبية (قاهرة الخديو). إذ غاب عن التمثيل أي مبنى يشير من قريب أو من بعيد للقاهرة الحديثة بالرغم من كونها مقر الحكم. وعلى ما يبدو فقد أراد مصمم الغلاف أن يمثل القاهرة وسكانها برسم خط سماء لمساجد القاهرة المعزية. ولم يشأ أن يرسم لنا ظلالًا أخرى عن المآثر المعمارية في مدن غيرها. فبرزت علاقة ما بين العاصمة –تمثلها المدينة القديمة – وبين سكانها من ناحية وبينها وبين “شرعية السلطة” من ناحية أخرى. ربما يساعدنا هذا التأويل لغلاف الكتاب على فهم الدور المركزي الرائد الذي لعبته القاهرة خلال سنوات عبدالناصر.
** **
في فلسفة الثورة استعرض جمال عبدالناصر لحظات تاريخية لم يعاصرها من كفاح الشعب المصري ضد الاستبداد والاحتلال. وفي بعض الأحيان يروي لنا قصصًا عاصرها هو عن الحركة الوطنية وعن كفاحه أيام كان طالبًا ثم عن قصة تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، هذه الحكايات عن شباب عبدالناصر وأفكاره دفعت رئيس الوزراء الفرنسي خلال العدوان الثلاثي جي موليه للادعاء أن فلسفة الثورة هو النسخة المصرية من كتاب كفاحي لأدولف هتلر. في سبيل الترويج لنفس الفكرة، فكرة التحذير من ظهور “هتلر على ضفاف النيل”. كانت السفارات الإسرائيلية ثاني أكبر موزع لكتاب فلسفة الثورة بعد موزعه في مصر. لكن أيديولوجية عبدالناصر التي خطها في كتابه، هي في الحقيقة مزيج من القومية العربية والإسلامية. ربما لهذا السبب يدرج بعض المؤرخين كتاب فلسفة الثورة ضمن أدبيات التيار السياسي القومي الإسلامي.
** **
أما عن دور مصر التاريخي، فقد وضعها عبدالناصر في قلب ثلاث دوائر: عربية وإفريقية وإسلامية، شرح عبدالناصر نظرية قلب الدوائر الثلاث في كتابه على النحو التالي:
“وأنا أجلس أحيانا في غرفة مكتبي وأسرح بخواطري في نفس هذا الموضوع أسائل نفسي:
— ما هو دورنا الإيجابي في هذا العالم المضطرب وأين هو المكان الذى يجب أن نقوم فيه بهذا الدور؟
واستعرض ظروفنا وأخرج بمجموعة من الدوائر لا مفر لنا من أن يدور عليها نشاطنا وأن نحاول الحركة فيها بكل طاقتنا. إن القدر لا يهزل وليست هناك أحداث من صنع الصدفة ولا وجود يصنعه الهباء. ولن نستطيع أن ننظر إلى خريطة العالم نظرة بلهاء ﻻ ندرك بها مكاننا على هذه الخريطة ودورنا بحكم هذا المكان.
- أيمكن أن تتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا. وأن هذه الدائرة منا ونحن منها امتزج تاريخنا بها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها.. حقيقة وفعلا ليس مجرد كلام.
- أيمكن أن تتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها وشاء أيضا أن يكون فيها صراع مروع حول مستقبلها. وهو صراع سوف تكون آثاره علينا سواء أردنا أو لم نرد؟
- أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشدها حقائق التاريخ.
وكما قلت مرة إن القدر لا يهزل….”
ولأن القدر لا يهزل فعلا، فقد أراد للقاهرة أن تكون العاصمة المركزية في قلب الدوائر الثلاث. فتصبح التطبيق العمراني العملي لأفكار عبدالناصر في فلسفة الثورة. ومن ثم كان على القاهرة أن تتهيأ للدور الكبير الذي سوف تلعبه في مدى سنوات قليلة قادمة وهو موضوع الحلقات القادمة.