قاهرة نجيب باشا محفوظ: مدينة تسعى لإثبات نفسها

في العقود الأولى من القرن العشرين كان اسم نجيب محفوظ معروفا بشكل واسع، لكن الاسم لم يكن علما على الأديب العالمي الحاصل على جائزة نوبل للآداب، بل أن الاسم لمع في دينا الطب. إذ كان الطبيب المصري الشهير محل الأسماع والأبصار في تخصص طب النساء والولادة. وهو الرجل الذي عمل ضمن غيره من الأطباء المصريين على إعطاء سمعة طيبة للطب المصري في زمن هيمنة الأجانب. لذا ترك في سيرته الذاتية معلومات طريفة عن مجتمع القاهرة في خضم تجربته الطبية الواسعة التي عكست سعي محفوظ مع غيره من مجايليه لإثبات جدارة الأطباء الوطنيين في زمن كان المصريون يتعرضون للتهميش في زمن استعماري.

***

ولد محفوظ (1882- 1974م)، في مدينة المنصورة حيث تلقى تعليمه الأولي. وتعرضت أسرته لنكبة بعد وفاة الوالد ثم وفاة الوالدة بعده بثلاث سنوات. فعاش مع بقية إخوته في ظل ظروف أقرب إلى الكفاف، خصوصا بعدما توجه مع شقيقه إلى القاهرة لاستكمال دراستهما. يقول: “استقر بي المقام في القاهرة، واستأجرت مع شقيقي منزلا في شارع شرم الفجالة. وعشنا في ضنك شديد، كان من جرائه أن أصابني التهاب رئوي أوشك أن يقضي على حياتي“. وسرعان ما التحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية. ومنها التحق بمدرسة الطب سنة 1898م، ليبدأ فصلا جديدا في حياته.

كان وجود نجيب محفوظ في مدرسة الطب ومستشفى قصر العيني فرصة ذهبية لمعرفة الأحوال الطبية في أكبر معهد طبي في مصر مطلع القرن العشرين. وأول ما استوقفه هو هيمنة الأجانب على مختلف التخصصات. لكن هذا لم يمنعه من التعلم منهم، وهو يرفض بعض المظاهر غير الأخلاقية المتعلقة بعلاقة الطلبة بالممرضات. لذا يقدم نصائحه بإخلاص وورع شديدين إلى جميع الأطباء من الأجيال الأصغر بضرورة التمسك بـ”السلوك الأخلاقي الحميد”.

وحصل الانعطاف الأساسي في حياة نجيب محفوظ في سنة 1902، عندما كان في السنة النهائية في مدرسة الطب. إذ ضرب وباء الكوليرا البلاد، وإزاء نقص عدد الأطباء قررت الحكومة تجنيد من قطعوا شوطا بعيدا في الدراسة من طلبة مدرسة الطب. وكان من ضمنهم محفوظ الذي قرر عدم البقاء في القاهرة والذهاب إلى قرية موشا بمحافظة أسيوط، التي بدأ منها انتشار الوباء. وبعد أن أدى مهمته على أكمل وجه في مدن الصعيد، عاد إلى القاهرة. حيث تم إرساله إلى حلوان لمعاونة مفتش الصحة هناك. وكان ذلك بمثابة إجازة للطبيب الشاب مكافأة له على ما أنجزه في مكافحة الكوليرا.

***

في حلوان، رصد نجيب محفوظ معالم الحياة الاجتماعية في الضاحية الجنوبية للقاهرة في مطلع القرن العشرين. إذ يقول: “في حلوان تعرفت بكثير من السياح، معظمهم من الألمان. جاؤوا للاستشفاء بجو الضاحية البديع، وحماماتها المعدنية المفيدة. وكانت حلوان لذلك العهد مسكنا للأثرياء من الطبقة الأرستقراطية. وهم أبناء الأسر التركية والشركسية ومن إليهم من سلالة المماليك الذين حكموا مصر حقبة مديدة. وكان بالضاحية فنادق رفيعة، ومنتدى كبير (كازينو). وفي فندق جراند أوتيل وفندق الحياة كانت الجوقات الموسيقية تعزف ألحانها كل يوم“.

تغيرت حلوان على مدار مئة عام، فوصف نجيب محفوظ يبدو الآن أقرب إلى جو الأساطير. فحلوان الآن تكاد تكون مدينة قائمة بذاتها، مزدحمة السكان. وهو أمر حدث مع محيطها أيضا فمحفوظ يشير إلى المعصرة وطرة باعتبارهما قرى صغيرة ذات نمط ريفي. وهو يذكر التبين باسم عزبة التبانة، والتي لم يكن يربطها طريق بري بحلوان. فاضطر لكي يتأكد من عدم وجود الكوليرا في العزبة أن ينتقل إليها “في قارب على النيل“.

يرصد نجيب محفوظ بعض المشاهد الاجتماعية في القاهرة على غاية من الندرة. فكونه طبيب سمحت له مهنته بالتعمق  في جوانب مجتمع القاهرة المظلمة. وهو يحكيها بمزاج متأفف لالتزامه الأخلاقي الذي جعله يرفض المظاهر المنحرفة، لذا خرجت المفارقة الكوميدية بشكل تلقائي عندما كلف بالعمل في مكتب الصحة بقسم باب الشعرية لمدة شهر في العقد الأول من القرن العشرين. وهناك التقى الجوانب المظلمة في المدينة. إذ اتبع هذا الحي وقتها المنطقة الخاصة بالدعارة المقننة، لذا يقر بأنه صادف الكثير من الغرائب خلال فترة عمله في مكتب صحة باب الشعرية رغم قصرها.

***
د.نجيب محفوظ مع زوجته وابنه سامي
د.نجيب محفوظ مع زوجته وابنه سامي

ويحكي محفوظ واقعة تكشف بعض أسرار المدينة وطبيعة الحياة الاجتماعية في بعض جوانبها، عندما تلقى أمرا بمعاينة محل “بوظة”. وهو المشروب المنتشر في تلك الفترة في الكثير من أحياء القاهرة. وكان في بعض الأحيان يصنع بطريقة تجعله من الخمور الرخيصة التي يقبل عليها أولاد البلد. المشكلة أن محل البوظة كان يقع في “حي الواسعة، وهو المقر المعين للمومسات. فشعرت بأشد الاشمئزاز لاضطراري أن أجوز بذلك الحي الفاسد المهين“. يقول الطبيب الشهير بلهجة غاضبة. لكنه لم يجد مفرا من تنفيذ الأمر، فذهب وقد تملكه “الشعور بأننا نطأ أرضًا نجسة، فزررت سترتي، وجلست على طرف المعقد، وأنا عابس الوجه مقطب الجبين“.

ثم يعطي وصفا لما شاهده قائلا: “ولم نكد نشارف الواسعة، حتى لمحت على جانبي الشارع بعض النسوة اللواتي يحترفن البغاء، وقد أفرطن في التبرج، وأسرفن في تلطيخ وجوههن بالأحمر والأبيض، وكحلن أعينهن على نحو ظاهر. ولبسن من الثياب ما لا يكاد يستر من أجسادهن إلا القليل. ومنهن من يفترشن عتبات المنازل أو يجلسن على كراسي في الطريق“. وقد أثار وصول نجيب محفوظ إلى هذا الحي بمظهره الرسمي وملامح وجهه الجادة سخرية بائعات الهوى، فقالت إحدهن: “عيني يا عيني يا رسمي“، بينما قالت أخرى وقد لاحظت تقطيب وجهه: “كدا كدا يا مكشر؟“. كان الأمر أشبه بزفة بلدي للطبيب في حي الهوى.

***

بعدها وصل محفوظ إلى البيت الذي سيقام فيه محل البوظة، اكتشف أن صاحبة الترخيص هي السيدة “العايقة”، والتي يعرفها بأنها “السيدة التي تتولى رياسة العمل لجماعة من المومسات“. ولم يكن اللقاء حارا بطبيعة الحال، خصوصا أن الطبيب الشاب أراد ممارسة عمله بدقة، الأمر الذي اصطدم بالفساد المستشري، لكن نزاهته جعلته لا يستمع لنصائح كاتب مكتب الصحة، فكتب تقريره ذاكرًا أوجه النقص، لكن القرار صدر بالترخيص لمحل البوظة، فقال كاتب الصحة معاتبًا: “ألم نكن نحن أولى بالجنيهات العشرة التي أعطاها أصحاب المحل لإدارة التراخيص، لكي يظفروا بموافقتها، مهما تكن حال المواصفات؟“. خرج نجيب محفوظ من التجربة وهو يعرف كيف تسير الأمور في مصلحة الصحة “وأي فساد كان يتفشى وقتئذ“.

بعد هذه التجربة المثيرة عاد نجيب محفوظ إلى مستشفى قصر العيني، إذ سرعان ما افتتح عيادة لطب النساء والولادة، وهو أمر غير مسبوق في نجاحه، ويسرد هنا كيف جاهد مع غيره من الأطباء لبناء سمعة الطبيب المصري في مجتمع لم يعترف له بأي مكانة أو قدرة علمية، يقول: “ففي العهد الذي تخرجنا فيه، لم يكن المصري يثق بأخيه المصري، أو يؤمن بكفايته في العمل، وكان الطبيب الأجنبي موثوقًا به، مرموقًا بعين الاحترام، مهما تكن درجته من الكفاية، ما دامت جنسيته غير مصرية“.

***

ويقدم الطبيب المصري وصفا لوضع مجتمع القاهرة الطبقي في مطلع القرن العشرين، أي قبل ثورة 1919 التي غيرت الكثير من الأوضاع وأعطت المصري ثقة في نفسه: “والبيئة الراقية كانت يومئذ تتألف من طوائف ثلاث: طائفة الجاليات من البلاد الغربية، وطائفة المتمصرين الذين نزحوا من البلاد الشرقية؛ وبخاصة لبنان، وقد احتل هؤلاء معظم المناصب الكبيرة في المصالح الحكومية، وطائفة الأثرياء من أصحاب الضياع، وأغلبهم من سلالة الأتراك والجركس والأكراد والمماليك الذين حكموا مصر زمنا مديدا، وأذقوا أهلها الويل، واستولوا على خيراتها ومرافقها… وهذه الطوائف الثلاث كانت تنظر إلى المصريين نظرة ازدراء، ولا تراهم أهلا لغير التافه من الأعمال“.

اضطر نجيب محفوظ إلى فتح عيادة في حي وطني، وهو باب البحر، إذ كان يطلق على الأحياء الشعبية وقتذاك مسمى الأحياء الوطنية، لأن سكانيها من أهالي البلد أي المصريين، ولم يكتف بذلك بل عمل على سد العجز في المستشفيات الأهلية في القاهرة، التي لم يكن بها مطلع القرن العشرين إلا مستشفيات تخدم أبناء الجاليات الأجنبية، فتم الاتصال برئيس الجمعية الخيرية القبطية، جرجس باشا أنطون، وتم الاتفاق على إنشاء مستشفى وطني، فكان المستشفى القبطي الشهير بحي الأزبكية، “وقد حمد الناس للجمعية أن جعلت لهذا المستشفى صفة قومية، لا تفرقة فيها بين فقير وفقير، فعالجت المرضى على اختلاف نحلهم وتعدد أجناسهم ومللهم“.

***

حقق نجيب محفوظ العديد من النجاحات وأصبح اسمه من أكبر الأسماء في مصر، محققا الكثير من الإنجازات الطبية وحاصدا التكريم في العصرين الملكي والجمهوري، لكن الرجل الذي تنقل بين أحياء القاهرة لنشر الوعي الطبي في مجال طب النساء والولادة، وحقق الإنجازات الطبية في طول المدينة وعرضها، ترك أثره في تاريخ المدينة بصورة لم يتوقعها هو أي شخص آخر، فيقال إنه أنقذ أم من ولادة متعثرة، لذا اعترافا بالامتنان أطلقت اسمه على ابنها الوليد، وحقق الأخير الذي خرج من رحم القاهرة القديمة شهرة عالمية، ذلك هو الأديب صاحب نوبل، الذي خلد اسم نجيب محفوظ في ذاكرة المصريين إلى الأبد.

اقرأ أيضا:

قاهرة عبد الله عنان: مرثية انحطاط المدينة!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر