قاهرة سيد عويس: دراسة حالة لأعماق مدينة

«كان قسم الخليفة في ذلك الحين المكان الوحيد الذي أعرف كل شوارعه وحاراته وأزقته، بل كل شبر فيه. فقد كان المكان الذي مارست فيه تجاربي؛ الحلوة منها والمرة على السواء. طوال هذه الفترة من حياتي». هكذا شكلت هذه النقطة السحرية في القاهرة المسرح الذي انطلق منه الدكتور سيد عويس (1913- 1988م)، لمعرفة المدينة وناسها عبر دراسات اجتماعية حفرت عميقا في المجتمع القاهري. ولم يأت هذا التعمق اعتباطا، بل على خلفية حياة عويس لتفاصيل حياته الأولى في الأحياء القديمة بالمدينة. ومن هنا انطلق في سيرته الذاتية «التاريخ الذي أحمله على ظهري»، ليخلد تفاصيل حياة القاهريين في عصر التحولات.

تجربة عويس ممتدة على مدار القرن العشرين كله تقريبا، فالميلاد في العصر الخديوي مرورا بحدث الثورة المصرية المفصلي. ثم العصر الملكي فالجمهوري بنسخه الثلاث الناصرية والساداتية والمباركية في عشريتها الأولى. وفي كل هذا يرصد عويس بأدوات الباحث الاجتماعي المنغمس في المجتمع المصري تحولات القاهرة وناسها. ومن خلال تفاعله مع محيطه المجتمعي وأفراده في المدى الزمني. هي إذن نظرة معمقة ومختلفة للمدينة في القرن العشرين، تعطي لنا روحا وفهما جديدين للقاهرة.

يفضل رائد علم الاجتماع المصري الكبير أن يطلق على سيرته الذاتية توصيف “دراسة حالة” أي “دراسة ثقافية اجتماعية عن أحد أعضاء المجتمع المصري الذي ولد في أحد الأحياء الشعبية في مدينة القاهرة، وعاش فيه حتى بلغ سن السابعة والعشرين. ثم انتقل إلى حي شعبي آخر حتى بلغ سن السابعة والأربعين، ويعيش الآن في حي ثالث في نفس المدينة”. لذا يتأمل في سيرته الذاتية بعض معالم المجتمع المصري وتحولاته وتفاصيل الحياة اليومية.

***

ينتمي سيد عويس إلى أسرة ميسورة من تجار القاهرة، فجده لأبيه صاحب دكان عطارة في حي السيدة عائشة. ثم أصبح وكيلا لشركة شل لبيع البترول والبنزين، ووالده لديه تجارته الخاصة في بقالة الجملة والقطاعي. ويطلق على مقره الوكالة التي تقع في شارع الزرايب، وهو الشارع “الذي يسكن فيه العديد من أفراد طائفة المعمار، ومن البنائين والنقاشين والمبلطين والنجارين والحجارين”. وهو يعطي لمحة عن شبكة والده التجارية، فالأخير يحصّل الأموال من عملائه في أحياء الخليفة وعرب يسار والخريطة القديمة والخريطة الجديدة والأباجية يوم الخميس. بينما يحمل الأموال نظير البضاعة التي يشتريها من تجار حيي بين الصورين وبولاق إليهم يوم الجمعة.

اكتشف عويس بعض أسرار القاهرة وهو في الخامسة والعشرين من عمره أي في خريف 1938، عندما تجلت أمامه ظاهرة سكنى المقابر. وهو الذي ظن أن هذه الظاهرة مقتصرة على امرأة فقدت ابنها الوحيد فجلست تؤنس وحدته ووحدتها. “لكن أن تعيش أسرة -زوج وزوجة وأطفال- في حوش قرافة تتخذه مسكنًا لها في خريف عام 1938 لم يكن في الحسبان. وبقدر ما فوجئت فإنني فجعت، فهأنذا أواجه الحياة التي يعيشها بعض أبناء وطني وجها لوجه“. هكذا تحدث عن اكتشافه لواقع الحياة في ترب التونسي، عندما قرر دراسة حالة حدث يعيش بين جنبات جبانة القاهرة، وهي تجربة مختلفة عن تجربته وهو طفل عندما كان يصطحب أصدقائه للعب كرة القدم في القرافة.

ويلفت عويس النظر إلى تجربة خاصة تتعلق بحقيقة أن شارع الأشراف حيث مشاهد السيدة رقية وسكينة وقبة شجر الدر، يعوم على العديد من المقابر: “كنت في أثناء إحدى سنين الدراسة كلما ذهبت إلى المدرسة. وكلما عدت منها إلى البيت، وأنا أسير في شارع الصليبة وفي شارع الركبية حتى مسجد السيدة سكينة، الذي كان يقع بجواره مسجد السيدة رقية، ومسجد شجر الدرر. كنتُ أمر على هياكل عظم إنسانية على طول الطريق حيث كان العمال يحفرون لأول مرة توصيل المجاري في هذا المكان. كانوا كلما حفروا أخرجوا هياكل عظم إنسانية. كان أصحابها الموتى مدفونين في مواضع الحفر“.

الدكتور سيد عويس
الدكتور سيد عويس
***

التفاصيل التي يقدمها سيد عويس عن عائلته التي تضم والديه وأعمامه وزوجاتهم ومختلف فروع الأسرة التي تسكن البيت الكبير في حي الخليفة. تنضح بالحياة والتفاصيل الدقيقة عن نمط حياة عائلة قاهرية في النصف الأول من القرن العشرين. بما في ذلك توقيت شراء الملابس الجديدة لأعضاء العائلة. إذ تتم هذه العملية في شهر المحرم أول السنة الهجرية، وعملية الختان التي جرت له، وزيارته مع والديه لأضرحة الأولياء. وكانوا يتحركون من شارع البقلي بحي الخليفة إلى شارع السيدة عائشة. ثم يركبون الحنطور من عند كشك الترام، لزيارة سيدنا الحسين أو سيدي المغاوري بالقرب من قلعة محمد علي، أو ستنا زينب. وهو يقول لنا إنه حصل على اسم سيد ليكون تحت حماية السيد البدوي. بعد تكرار وفاة إخوته وأخواته الذين سبقوه للحياة والموت معا.

وهو يكشف لنا عن بعض أوجه الممارسات الشعبية التي تترك أثرها في المرء بصورة أكبر مما نتصور، ممارسة شعبية مثل إلقاء الجوابات في ضريح الإمام الشافعي. ممارسة في التدين الشعبي متوارثة في الوجدان المصري على مدار أجيال. إذ مارس هذه العادة الشعبية عندما كان طفلًا. وهو ينتظر امتحان الابتدائية، إذ ذهب بناء على نصيحة أحد سكان الحي الشعبي الذي يعيش فيه لزيارة مشاهد آل البيت وأضرحة بعض الأولياء. ثم أنهى الجولة بزيارة ضريح الإمام الشافعي. وألقى بخطاب يطلب فيه من “سيدي الشافعي” مساعدته في النجاح في الامتحان. وضع عويس قصاصة ورق كتب فيها: “يا سيدي يا إمام يا شافعي، أرجوك أن تساعدني على اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية بنجاح ولك الشكر“.

ظلت الحادثة كامنة في عقل عويس الطفل الذي عبر امتحانات الابتدائية بنجاح، حتى تخصص في علم الاجتماع وأصبح أكبر دارسيه العرب. ثم خرجت الحادثة لتعلن عن نفسها في صورة دراسة علمية رائدة في بابها، “رسائل الإمام الشافعي: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي”، والذي يحلل فيها هذه الظاهرة بتمكن واقتدار.

***

يقدم عويس معلومات أنثروبولوجية غاية في النفاسة عن المجتمع القاهري في النصف الأول من القرن العشرين، وتحديدا في العقد الثالث من هذا القرن. يقول: “عندما وجدتني أعيش في أسرتي وجدتها تعيش في أحد أحياء القاهرة. أي في مجتمع محلي له كل مقومات المجتمع الإنساني سواء أكان كبيرًا أم صغيرًا… تراهم يعيشون في بيئة جغرافية واحدة. وقد ارتبط هذا الحي ولا يزال بغيره من الأحياء أو المجتمعات المحلية في مدينة القاهرة”، يتذكر هتاف فتوات حارتهم: “مين يعادينا مين؟”، يرد سيد الصبي مع غيره من الصبية: “نضرب بالسكاكين”.

يتابع وهو يرصد الحياة في الحي الشعبي: “كنت أرى أعضاءها من الأطفال، وكانوا في أزقة الحي وحاراته وشوارعه وكأنهم جحافل النمل، حفاة الأقدام ولا يلبسون إلا القمصان وما يستر عوراتهم. أما الجلاليب فكانوا يلبسونها في فصل الشتاء أو في المناسبات وهي في معظم الأحيان مناسبات الأعياد. وكان الكثير من رجال الحي وشبانه ومن نسائه وشاباته حفاة الأقدام. وأن لبسوا في أقدامهم شيئَا فقد كانوا ينتعلون في الغالب نعالًا بسيطة الصنع أو بلغًا… ولكن إذا ما خرج الرجال والشبان إلى أعمالهم أو إلى أماكن أخرى خرجوا وهم يلبسون جلاليبهم. أما إذا خرجت النساء والشابات فكن يلبسن فوق جلاليبهن الملاءات السوداء الرخيصة الثمن“.

***

ثم يستعرض بعض الأوضاع الطبقية في مدينة العصر الملكي والاستعمار البريطاني والبون الطبقي الواسع: “كان يعيش مع الأغلبية الفقيرة من أعضاء حي الخليفة أقلية ضئيلة من الأغنياء الوجهاء. وكان الأخيرون يعيشون حياة الترف والرفاهية فضلا عن حياة المجون والخلاعة. ومن هؤلاء من الترف والرفاهية. فضلا عن حياة المجون والخلاعة… وكانت الأغلبية الفقيرة تعيش مع الأقلية السعيدة في ظل مناخ ثقافي اجتماعي قوامه بعض العقائد والقيم والمبادئ والمثل العليا فضلا عن العادات والتقاليد… ولم يكونوا يتمردون على أحد غيرهم. فكان العراك بينهم والشتائم البذيئة التي تقذفها أفواههم ومنها شتم الدين، وشتم الأمهات، وحتى شتم الأموات. كانت هذه وتعاطي المخدرات والمتعة الجنسية التي يمارسونها… هي أهم المنافذ الاجتماعية التي ينفس عن طريقها أعضاء هذه الفئة المستضعفة“.

كان التعليم هاجسا عند عويس الأب، الذي عشق الزعيم الوطني مصطفى كامل فأطلق على ابنه الأكبر اسم كامل. وحقق أكبر انتصارات حياته عندما التحق ابنه سيد بمدرسة أم عباس الابتدائية. وهي المدرسة التي تعلم فيها مصطفى كامل قبل نصف قرن تقريبا. وخلال هذه الفترة المبكرة من حياة سيد عويس شارك بدافع المناخ العام في مظاهرات ثورة 1919. كان طفلا لكن مشاركته جاءت تقليدا من التلاميذ الصغار للطلاب الكبار الذين رددوا شعار “تحيا مصر.. يسقط الإنجليز”.

يستعرض سيد عويس طريقه إلى مدرسة أم عباس: “كنت أسير من البيت إلى شارع الركبية مارًا بالمشرقي ثم السيدة سكينة. وإلى شارع الصليبة حتى بداية شارع السيوفية التي تقع المدرسة فيه. وفي الرجوع في نفس الشوارع والحارات حتى بيتنا في زقاق الشراقوة بشارع البقلي”. أن الجزء الأول من سيرة سيد عويس الذاتية يشمل العديد من المعلومات فائقة الأهمية عن القاهرة وناسها. في الشق الاجتماعي الذي يكشف عن جوانب مهمة من حياة القاهرة بالتركيز على البشر لا الحجر. فالأخير يحضر في نص عويس من أجل بيان كيفية تفاعل أهل القاهرة معه. ومن هنا يكتسب النص أهميته في الكشف عن بعض جوانب الحياة اليومية المنسية في القاهرة. خصوصا في النصف الأول من القرن العشرين.

اقرأ أيضا:

قاهرة القرن العشرين في عيون أبوغازي: مدينة متنازع عليها

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر