قاهرة حسنين مكاوي: المدينة وأمراضها المزمنة

وثيقة «باشمهندس بلدية ميت غمر» عن الحياة في مدينة بلا حدائق

شهدت مدينة القاهرة نهضة عمرانية في النصف الأول من القرن العشرين، عنوانها الدخول في قلب الحداثة. فقد أصبح التوسع العمراني القاعدة لمدينة تنمو بسرعة هائلة. فلأول مرة خلال هذه الفترة، تعبر المدينة النيل وتتوسع غربا بصورة كبيرة، كما تتجاوز حاجز المقطم وتتوسع شرقا وشمالا. لكن هذا التمدد جر مشاكل تفاقمت مع الوقت. لذا يبدو استعادة ما تم توجيهه من انتقادات وقتذاك وثيق الصلة بزمننا. وقد وفر لنا كتاب «التقدم العمراني لمدينة القاهرة والمدن المصرية الأخرى» وثيقة شاهد عيان يرصد بعين الخبير مشاكل المدينة، ويقدم أفكاره لحلها.

محمد حسنين مكاوي، مؤلف الكتاب، هو شخصية شبه مجهولة. يعرف نفسه، بـ”باشمهندس بلدية ميت غمر“، ويكتب لنا على غلاف الكتاب مؤهلاته التي يقدمها كمسوغ لتأليف الكتاب. فهو خريج معهد البلديات بجامعة باريس، وحاصل على دبلوم الهندسة الصحية والرياضية والمعمارية من مدرسة التخصص في العمارة بباريس.

وقد دفعه إلى تأليف الكتاب اندهاشه من الانشغال بالمسائل السياسية عن الحديث في المسائل العمرانية. لذا رأى أن يدلو بدلوه لأنه “كفرد من أفراد الشعب الذين يشعرون بواجبهم لأمتهم. وقد تخصصت في علوم تنظيم المدن وتخطيطها بمعهد البلديات بجامعة باريس. أبسط وجهة نظري في ما يتعلق بهذه المدينة، التي ولدت ونشأت فيها، وأساهم بما يمليه علي ضميري من الشعور بالواجب لوطني، ونحو الحكومة التي بعثتني للتعليم في إحدى بعثاتها بباريس“.

***

طُبع الكتاب وخرج للنور في سنة 1938، أي بعد وفاة الملك فؤاد بنحو سنتين وولاية ابنه فاروق عرش البلاد. كما جاء بعد توقيع معاهدة 1936 بين مصر والاحتلال البريطاني، التي تعزز فيها استقلال مصر النسبي وانسحب الوجود البريطاني من المدن المصرية باستثناء منطقة القناة. لذا، جاءت شهادة حسنين مكاوي بمثابة تقييم شامل لما جرى من تحديث في القاهرة على مدار أربعة عقود منذ بداية القرن العشرين وحتى تاريخ صدور الكتاب.

وقد تميز الكتاب بكونه شهادة من متخصص لتطور عمران المدينة، وكيف نظر لهذا التطور، وما تقييمه له، وما نتج عنه من مشكلات، لا تزال قائمة حتى يومنا هذا في بعض جوانبها. ومن هنا تكمن أهمية الكتاب/ الشهادة، لأنه يرصد بداية أزمات في عمران المدينة لا تزال مستمرة بسبب غياب التخطيط في حالات كثيرة.

اهتمام مكاوي بالقاهرة كان قديما، إذ قدم مشروع “امتداد القاهرة وتعديلها لمدة خمسين سنة“، لمسابقة حول تجديد وتخطيط المدن التي أعلنت بين خريجي جامعة باريس سنة 1928. وقد حاز المشروع على جائزة المسابقة. ركز مكاوي حديثه في هذا العمل على ضرورة إنشاء مجلس بلدي لمدينة القاهرة للإشراف على عمليات التوسع العمراني فيها. وأصر على ضرورة تأسيس مجلس البلدية ومنحه صلاحيات واسعة للإشراف على توسع المدينة. وقد تأخر إنشاء مجلس بلدي لمدينة القاهرة حتى العام 1949.

***

ويتحدث مكاوي صراحة عن أثر تأخر تأسيس مجلس بلدي للقاهرة، إذ أدى ذلك إلى “عدم تمشيها مع النظم الحديثة والتطور المدني العصري“. ورغم إشادته ببعض أعمال مصلحة التنظيم القائمة في عصره، إلا أنه يعيب عليها أنها أعمال اقتصرت “على رصف الشوارع، وغرس الأشجار، وزيادة بعض الإضاءة، وفتح بعض الأزقة والشوارع، وأغلب هذه الأعمال كان نتيجة وقوعها أمام الأمر الواقع. والناظر إلى هذه السياسة الإنشائية يجدها عبارة عن عدة قطع من المشروعات المنفصلة التي لا صلة للواحد منها بالآخر. وذلك على عكس المتبع في النظم الحديثة الفنية في تجديد المدن“. لذا، طالب بخطة عامة تمتد لفترة طويلة تنفذ مرحليا، لكن يبدو أن طلبه ذهب أدراج الرياح لعقود طويلة!

يعطينا مؤلف “التقدم العمراني” صورة واضحة المعالم لتقسيم العاصمة في العشرينيات والثلاثينيات. إذ قسمت القاهرة إلى أحياء مخصوصة، هي: حي الأعمال، الذي يقع في قسم الأزبكية وجزء من حي عابدين. والحي الحكومي، الذي يقع في قسم السيدة زينب وقسم عابدين. وحي الجامعة والمدارس، الذي يقع جزء منه في الحي الحكومي والآخر في حي السكن المجاور في الجهة اليسرى للنيل. بينما يقع سكن الطلبة في حي عابدين والسيدة زينب وباقي أحياء السكن. أما الحي التجاري فيقع في وسط المدينة تقريبا ويشغل أقسام الموسكي وعابدين والأزبكية.

***

ثم يتابع مكاوي تقسيمه لأحياء المدينة، بالحديث عن الحي الصناعي، الذي يرى غير مركز في منطقة واحدة، وإن كان بعضه يقع في حي بولاق، وجزء آخر في العباسية، والباقي مبعثر في أحياء مختلفة. ثم يتحدث عن أرض الألعاب والحدائق والمعرض الزراعي الصناعي، وهي تكون حي النزهة والرياضة على وصفه. وهو يقصد بذلك جزيرة الزمالك بقسميها السكني والجنوبي، الذي تتمركز فيه النوادي وأرض المعارض (مقر الأوبرا المصرية حاليًا). ويشير إلى أحياء للسكن على حدود المدنية، والتي ستتطور مع الوقت لتصبح الأحياء الشعبية. أما الأحياء الجنوبية فيصفها بأنها “أحياء قديمة فقيرة تحوي مساكن أغلب صغار الموظفين والعمال والطلبة وصغار التجار، وهي السيدة زينب ومصر القديمة والخليفة“.

يقدم مكاوي في كتابه رصدا مهما لحالة مدينة القاهرة. واللافت هنا أن الكثير مما يأخذه على القاهرة لا يزال حاضرا بقوة في وقتنا هذا. ومن هنا تأتي طرافة نقد مكاوي الذي يقدم لنا بعض المشكلات المزمنة في المدينة، التي لا تزال حاضرة في مشهد المدينة في يوم الناس هذا.

يقول إن القاهرة “لا توجد بها حدائق، إذا قارنا المساحة الموجودة منها بالمساحة التي أقرها المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس سنة 1928 لامتداد تعديل المدن. وهذه النسبة هي عشر مساحة المدينة“. ويعدد فوائد زيادة المساحة الخضراء في المدينة، بما في ذلك جعلها نقطة جذب سياحي “ولا يخفي ما يعود على المدينة من هذه الزيارات التي تزيد من الحركة التجارية والمالية“.

***
غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

كما يشدد مكاوي على ضرورة توسيع شوارع القاهرة لتناسب حجم الحركة فيها، ويأخذ على القائمين على أعمال المدينة عدم اهتمامهم بعرض الشوارع التي يمر بها الترام،.ويضرب المثل بشارع عماد الدين، الذي “يشوهه المترو، ويقضي على جماله، خصوصا وأنه واقع في حي السينما والملاهي. ولا يخفي أمر الازدحام الذي ينجم عن خروج جميع المشاهدين من هذه الدور في وقت واحد“.

كما يشير إلى وضع شارع الخليج المصري، قائلا: “فيه أجزاء يكاد لا يكون بين المنازل والترام من المسافة ما يكفي لمرور شخص واحد. حتى إنه لو مد أحد ركاب الترام يده لاصطدمت بالحائط مباشرة، وكذلك الحال في بعض مواقع أخرى مثل الظاهر والسكاكيني“. وينتقد خلو أحياء القاهرة من التخطيط الصحيح، لكنه يستثني من حكمه ضاحية هليوبوليس (مصر الجديدة). التي “وضع مسقطها بواسطة شركة بلجيكية، ودرست درسا وافيا، وهي أهم ضاحية في المدينة“. كذلك أشاد بحي جاردن سيتي، إلا أنه أشار إلى عيب رئيس فيه و”هو أنه من السهل أن يضل به الإنسان“.

وكذلك أشاد بتخطيط شركة أراضي الدقي، في المقابل شن هجوما لاذعا على ميادين وسط المدينة. يقول: “فها هو ذا ميدان العتبة الخضراء كأنه أنشئ لتستفيد منه شركة الترام فقط. وميدان السيدة زينب وميدان المحطة كأنها البحر المتلاطم يفر المار منه كأنما يفر من الموت. كل هذه الميادين لا يطلق عليه اسم ميدان إلا من باب المجاز. لأنها غير منظمة وليس لها أي شكل هندسي أو أي غرض فني“.

***

ويتعجب مكاوي من شق الشوارع الجديدة دون نظر إلى ما يترتب عليها من ضرورة مراعاة تناسق واجهة المباني المطلة عليها بعد إزالة ما توجب إزالته من المباني لشق الشارع. ويعود هنا ليضرب المثل بفتح شارع الخليج المصري وتوسيعه “الذي كلف خزينة الدولة الملايين من الجنيهات، وياليته أثمر نتيجة مرضية“. ويرفض المناظر التي نتجت عن فتح الشارع  “إذ يرى المار في هذا الشارع منزلا جديدا وعشرة متداعية. والآخر عدة طبقات… والذي يليه مكونا من دور واحد، وغيره مشيدا على الطراز الحديث والآخر على الطراز العربي. وثالثا على الطراز الغربي، والذي يليه ليس له طراز، ولا يزال أغلب هذه المنازل على حالتها القديمة“. ونقد مكاوي هنا يمكن أن نكرره بكل بساطة عند الحديث عن واجهات المنازل المطلة على الطريق الدائري بالقاهرة الكبرى حاليا.

يعرج حسنين مكاوي إلى بعض المظاهر الاجتماعية التي تنعكس على عمران المدينة، فالقاهرة كثيرة الأزقة “التي لا تتسع لمرور أكثر من شخص أو شخصين، ويمكن السكان أن يقفزوا من نافذة منزل إلى نافذة المنزل المقابل في سهولة، مما يهدد الأمن”. كما ينتقد الأحياء العشوائية التي بدأت تظهر على أطراف المدينة بل وفي قلبها أيضا، فالمنازل فيها تبنى من “بالغاب، والبراميل الصاج، وكسر الأخشاب، والصفائح القديمة، ومكسوة بالطين. ويأوي هذه المساكن الطبقة الفقيرة من العمال والباعة. وإن من نكد عيش هذه الطائفة أن ينام الأب والأم والأولاد في حجرة واحدة… فها هي ذي عشش الترجمان وتل زينهم وعرب اليسار ماثلة أمامنا“.

***

ويشتكي مكاوي من تدني أعمال النظافة في المدينة، ويرصد هنا تفرقة عنصرية، فأعمال النظافة لا “تؤدى تماما إلا في الأحياء الأجنبية. أما الأحياء الوطنية التي تعيش فيها طبقات الشعب الفقيرة، فإنها لا تنال حظها من العناية مع أنها أولى بالنظافة نظرا لضيق شوارعها ومساكنها وكثرة ازدحام السكان فيها، مثل حي بولاق والسيدة زينب ومصر القديمة، وداخل حي شبرا وغيرها“.

ويشتكي من أمر لا نزال نشتكي منه في كل شتاء، إذ يقول: “إن أقل كمية من المطر بدون رقابة عمال التنظيم تعوق المرور من تراكم المياه والأوحال“. ومن الغريب أن مسألة نظافة الشوارع لا تزال حاضرة في شوارع القاهرة رغم مرور نحو 90 عاما على شكوى مكاوي! ومن هنا تأتي صلاحية استعادة كلامه مجددا لمعرفة ما جرى وتحقق على الأرض. وما تم التفريط فيه، وما هي أسباب وجذور مشكلات مدينة القاهرة المزمنة.

لكن عين مكاوي لا تتوقف عند الجانب السيئ من المدينة. فيرصد أيضا الجانب الإيجابي في مدينة بحجم القاهرة، ويشيد بحجم المعاهد العلمية بها خصوصا جامعة الأزهر والجامعة المصرية (جامعة القاهرة في ما بعد). لذا يطالب بتحسين شروط سكن الطلبة. ففيما يتعلق بطلبة الأزهر، ينتقد تكدسهم في الحي الملاصق بالجامع. واضطرار الطلبة “للمعيشة خمسة أو ستة أشخاص في حجرة واحدة بدون سبيل للراحة، وهذا طبعا غير صحي“.

كما يعيب على موقع الجامعة المصرية أنه يقع في حي “لا توجد فيه مطلقا مساكن تصلح للطبلة ومن هم في مستواهم“. وهذا بطبيعة الحال حديث عصره، لأن حي الجيزة والدقي كان يغلب عليه الطابع الزراعي في ثلاثينيات القرن العشرين. لذا كان طبيعيًا أن يطالب مكاوي بتوفير مساكن للطلبة بالقرب من الجامعة باعتبارها شبه معزولة عن بقية عمران المدينة في البر الشرقي.

***

اللافت أن حديث محمد حسنين مكاوي يتطرق إلى ملفات لا تزال مفتوحة حتى يومنا هذا، أي بعد تأليفه الكتاب بـ86 سنة. إذ يتحدث عن إمكانيات القاهرة السياحية غير المستغلة. خاصة أن الكثير من البلدان دخلت السباق وعملت على جذب أنظار السياح. ويطالب بالتركيز في هذا الملف لأن صناعة السياحة “تعتبر الآن من الموارد المالية الأساسية في بعض المدن، ويعيش منها بلاد كثيرة“. ويرى أيضا أن تحسين البلاد لجلب السياح، سيعمل على تحسين مرافق القاهرة من إنشاء المتنزهات وإصلاح الطرق، وإنشاء الفنادق والحدائق ودور السينما والتمثيل. والغريب أنه يشير إلى أن السياحة تركز على الأغنياء من السياح، ولا يستفيد منها متوسطو الحال منهم.

يقترح مكاوي خطة لتحسين القاهرة لتليق باسمها كعاصمة للديار المصرية وما لها من تاريخ عريق. ويتحدث هنا من نفس وطني حار، فيقول: “من الواجب أن تكون هذه العاصمة تحفة فنية بين العواصم. بالنسبة لما ذكر من مميزاتها التي تنفرد بها عن جميع بلاد القطر، بل جميع بلاد العالم“. لذا يطالب بنصب بعض الآثار المصرية في ميدان فسيح في العاصمة “حتى يشعر الإنسان بعظمة الماضي وعظمة الحاضر مجتمعين في صعيد واحد“. ومن عجب أن طلب مكاوي لم يتحقق إلا منذ سنوات قليلة وبعد أكثر من 80 سنة. عندما تم نصب مسلة مصرية قديمة في ميدان التحرير 2020.

***

إن ما يقدمه محمد حسنين مكاوي في كتابه “التقدم العمراني” صورة مبتكرة للقاهرة في العشرينيات والثلاثينيات، لا تتوقف عند الوصف العمراني. بل تتعمق في رصد مشاكل المدينة والتي عاشتها في لحظة نمو عمراني. وكيف أن العشوائية بدأت تضرب بجذورها في أحياء المدينة بسبب الافتقاد للتخطيط الشامل للنمو العمراني في القاهرة. وهو الأمر الذي حذر منه مكاوي منذ الثلاثينيات. لكن يبدو أن ملاحظاته وكتاباته واقتراحاته ضاعت وسط صخب نمو المدينة التي بلغت مرحلة الانفجار العمراني في النصف الثاني من القرن العشرين، لتتحقق كل مخاوف مكاوي من تحول القاهرة إلى مدينة عشوائية.

اقرأ أيضا:

قاهرة نجيب باشا محفوظ: مدينة تسعى لإثبات نفسها

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر