قاهرة جلال أمين: ماذا جرى للمدينة؟

عاش جلال أمين (1935- 2018) فترة تغيرات عاصفة، فأبصر نور الحياة في أتون الثورة المصرية التي أنتجت معاهدة 1936، ليعيش أيام الطفولة والمراهقة الأولى في عصر الملكية، وتحديدا فترة حكم الملك فاروق. ثم تابع ميلاد الجمهورية على يد ضباط يوليو، مرورا بالعديد من التحولات داخل النظام، وصولا إلى ثورتي 25 يناير و30 يونيو.

لذا كانت عين جلال أمين قادرة على رصد تحولات القاهرة التي مثلت النافذة الأكبر لرصد تحولات مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تلك الفترة الثرية.

كذلك تربى جلال أمين في بيت واحد من كبار المثقفين المصريين وهو أحمد أمين. الذي ترك سيرة ذاتية تحدث في بعض فصولها عن تحولات القاهرة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وهو نفس ما فعله أمين الابن الذي قدم سيرته الذاتية في كتابين، هما: “ماذا علمتني الحياة؟”، و”رحيق العمر”. وفيهما وفي غيرهما من كتبه، الكثير من الإشارات حول تحولات القاهرة. خصوصا أنه ناقد مهم لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبناها السادات ومن بعده مبارك. وهي سياسة أنتجت أنماطا اجتماعية ذات بعد استهلاكي أثر في عمران ومعمار مدينة القاهرة. فنصوصه يبدو وكأنها تسعى للإجابة عن سؤال: ماذا جرى للقاهرة؟ وهو هنا لا يتوقف عند العمران إلا كمظهر للتجليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

***

تفتحت عينا أمين في حي مصر الجديدة، والذي يعد معقلا من معاقل الطبقة الوسطى. يتذكر في “ماذا علمتني الحياة؟”، السينما القريبة من منزل الأسرة، والتي حملت اسم سان ستيفانو “ثم تغير اسمها إلى فريال، بعد أن رزق الملك فاروق بابنته الأولى فريال، وأنا في الثامنة أو التاسعة. ثم تغير اسمها إلى سينما التحرير بعد ذلك بسنوات، عندما قامت ثورة يوليو“. ويقدم جلال أمين هنا تحولات القاهرة من خلال تفاصيل كثيرة تمزج بين التحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فيعطي صورة تنبض بالحياة لمصر والمصريين، وربما من هنا تأتي أهمية سيرته الذاتية، التي يمكن موضعتها كنص يلقي الأضواء على الكثير من التحولات في القاهرة باعتبارها عاصمة البلاد وقاهرة العباد.

يقدم جلال أمين بعض اللمحات في كتبه المختلفة لتحول مراكز الثقل في المدينة. فيقول عن تحولات وسط البلد في كتابه “ماذا حدث للمصريين”: “كان الشارعان الأكثر رخاء في القاهرة في طفولتي وصباي، هما شارعي فؤاد وعماد الدين. أما في الخمسينات والستينات فقد أصابهما الهرم والتدهور الواضح. ولم تعد محلات شيكوريل وشملا وأوركو هي ملتقى الطبقات الراقية. بل حلت محلها محلات أخرى أكثر بكثير في شارعي قصر النيل وسليمان باشا. كذلك تدهورت أحوال دور السينما مثل سينما ستوديو مصر وكوزمو بشارع عماد الدين. وحلت محلها سينما حديثة أضخم وأفخم مثل ريفولي وراديو“.

***

يقدم أمين الابن لمحات عن تحولات القاهرة من خلال انتقال أسرته من مصر الجديدة في القاهرة، إلى سكنى حي الدقي بالجيزة. فهو هنا يكشف عن سبب انتقال أسرته سنة 1947. إذ يرجعه لرغبة الوالد في السكنى بأسرته بجوار جامعة فؤاد الأول (القاهرة في ما بعد). حيث يدرس معظم أفراد الأسرة، فالجامعة تحولت إلى نقطة جذب للسكنى حولها. وهو أمر سيزيد مع الوقت، وإن كانت عملية التعمير مضت ببطء. فبحسب صاحب “رحيق العمق”: “بقيت الدقي والعجوزة وذلك الجزء من الجيزة المحيط بالجامعة، تتكون أساسًا من الحقول والحدائق والمشاتل. بما في ذلك حديقة الحيوان البديعة، وحديقة الأورمان الملاصقة لها والتي لم تكن تقل عنها جمالًا. وحديقة المتحف الزراعي بأشجاره ونباتاته النادرة. كان حي الدقي في ذلك الوقت يتكون أساسًا من فيلات أنيقة، وبعض المستشفيات الأنيقة أيضًا. وكازينوهات قليلة أنشئت في الأصل للترفيه عن الجنود الإنجليز (ككازينو بديعة مصابني على ضفاف النيل)”.

لكن دوام الحال من المحال، في مدينة تنمو بسرعة مثل القاهرة. فبعد 1952 شهدت المدينة نموًا عمرانيًا كبيرًا، وهو ما يسرده أمين في تبدل مصير حي الدقي: “فلما تركت هذا البيت بعد عشرة أعوام مسافرًا في بعثتي إلى إنجلترا. كان حي الدقي قد زحفت عليه حشود جديدة من الطبقة الوسطى التي خلقتها ثورة 1952. فاختفت الحقول والمشاتل وبدأت تحل محلها العمارات. وبدأت الحدائق الجميلة في التدهور مع زيادة عدد مرتاديها… عندما عدت من البعثة بعد ست سنوات (في 1964) لم يكن من السهل علي أن أتبين معالم الحي الجميل القديم. وكان علي أن أبحث عن مكان آخر أسكن فيه“.

***

انتقل جلال أمين بأسرته إلى حي المعادي العام 1964، والذي كان لا يزال بعيدًا عن القاهرة يفصله عنها الحقول الزراعية. إذ سكن في ثكنات المعادي والذي “يقع بين ذلك الحي الأرستقراطي البديع المسمى بسرايات المعادي. وذلك الحي الشعبي الفقير؛ طرة“. وهو يمدح وضع حي المعادي وقتذاك إذ رأى فيه استمرارا لروح حي الدقي والعجوزة في العام 1947. فهو لم يكن أكثر من “مجموعة من الفيلات التي تحيط بكل منها حديقة وتسكنها عائلة صغيرة. ولضآلة حجم سكان المعادي وانخفاض كثافتهم ظلت المحلات التجارية قليلة بدورها. وتكاد أن تكون محصورة في شارع واحد… بل اقتصرت المحلات في ذلك الشارع التجاري الوحيد (شارع 9)“.

يرصد جلال أمين بعض مظاهر الحياة في الحي الهادي في فترة الستينيات من استخدام الدراجات في التنقل دخل الحي، وقلة السيارات المارة. وعدم استخدام مكبرات الصوت في المساجد. واستخدام القطار الذي يصل حلوان والمعادي بقلب القاهرة. ورغم أنه أشار إلى هذا القطار الذي تحول إلى الخط الأول لمترو القاهرة في ما بعد، في كتابه “رحيق العمر”. إلا أنه أفرده بمقالة ذات حس كوميدي نقدي، نشره في كتابه “وصف مصر في نهاية القرن العشرين”. وفيه يقدم لمحات عن أزمة النقل والمواصلات في مصر. وهو يحكي عن حالة الازدحام الشديد الذي يلحق بالقطار عند محطة دار السلام “الشهيرة لدى الركاب المنتظمين باسم الصين الشعبية“.

يؤكد صاحب “ماذا حدث للمصريين؟”، أن حي المعادي لم يتغير كثيرا خلال الفترة الناصرية وامتدادها في السنوات الأولى من السبعينيات. ويكشف في “رحيق العمر” أنه “حدث الانقلاب الكبير مع بداية عصر الانفتاح في 1974“. كما يشير بوضوح إلى حالة الركود الاقتصادي التي ضربت مصر في الفترة من 1964 إلى 1974. بسبب حرب اليمن ثم هزيمة يونيو، وانقطاع المعونات الخارجية ونضوب موارد الدولة الداخلية. لذا عندما تدفقت الأموال على شرائح واسعة من المصريين، وبالتأكيد أثرت هذه الحالة سلبا على تمدد القاهرة العمراني.

***

يحلل جلال أمين التغيرات التي حصلت في القاهرة باستخدام نموذج المعادي، بربطها بتحولات الطبقة الوسطى في ثلاث فترات تاريخية: “تغيرت أحوال المعادي، مثلما تغيرت أشياء كثيرة أخرى في مصر. ظهرت على السطح طبقة وسطى جديدة تختلف بشدة عن تلك التي ظهرت في مصر فيما بين الحربين العالميتين. والتي أدت إلى النمو السريع في مصر الجديدة. وكان صعودها بسبب انتشار التعليم وما أحرزته الصناعة المصرية… ثم جاءت طبقة وسطى جديدة في الخمسينات والستينات. وهي التي أدت إلى النمو السريع في أحياء مثل الدقي والعجوزة، وهي طبقة تدين أساسًا في صعودها إلى ما فعلته حكومة الثورة، خلال هذين العقدين، في نشر التعليم والتصنيع. فزاد حجم البيروقراطية المصرية زيادة كبيرة. أما في السبعينات والثمانينات، فكان نكو الطبقة الوسطى راجعًا إما إلى ازدهار أعمال الوساطة المرتبطة بالانفتاح. وإما إلى الهجرة إلى دول الخليج“.

يحكي أمين الابن الهجمة الاستهلاكية العشوائية التي ضربت المعادي كنموذج لما جرى في مختلف أنحاء القاهرة. “بدت المعادي والصحراء الملاصقة لها في الشرق، والحقول التي تفصل بينها وبين القاهرة شمالًا، وحلوان جنوبًا، مكانًا جذابًا لهذه الطبقة الوسطى الجديدة. فلم تقف في وجوههم عقبة بل كسروا كل القواعد. وخرجوا على كل الشروط القديمة التي كانت تحمي المعادي من التدهور لعشرات السنين. فوجئ سكان المعادي القدامى بالعمارات الشاهقة تبنى بين الفيلات، أو حتى مكان الفيلات التي جرى هدمها أو تعليتها. والمحلات التجارية والمطاعم تزحف على الشوارع التي كان من الممنوع من قبل اقتراب المحلات منها“. لقد سلمت هذه التحولات العنيفة المعادي إلى مرحلة ظهور أعراض الشيخوخة.

***

يرصد جلال أمين في “رحيق العمر” من نافذة المدرسة تحولات القاهرة الاجتماعية والسياسية. فهو يحكي تجربته في عدد من المدارس، يخص منها بالذكر المدرسة النموذجية بالأورمان. التي قدمت أسلوبا رفيعا في التعليم والتربية والانفتاح الثقافي. حتى أنه يقول عن الكتب المقررة في المطالعة باللغة العربية إنها كانت “كتبا متحضرة للغاية، سواء في لغتها، أو في القيم الأخلاقية التي تعبر عنها. وكانت هالة من الاحترام تحيط بأسماء مثل امرئ القيس والنابغة الذبياني والمتنبي. ولكن كان من يتم الدراسة الثانوية قد استقر في نفسه في نقس الوقت. بوعي أو من دون وعي، احترام أسماء مثل فولتير وروسو“.

ولكي يوضح جلال أمين فكرته يقارن بين الوضع عندما كان تلميذا في المدرسة العام 1947. وبين وضع ابنته في مدرسة النصر بالمعادي في العام 1979. وهو يتابع تراجع مستويات التعليم في القاهرة كعرض عام في مصر، ومن خلو المدرسة التي كانت تعد من ضمن أرقى المدارس من أي أنشطة فنية من تمثيل أو عزف على الآلات الموسيقية. كما يشير بوضوح إلى تزايد الحساسية الدينية. عندما عنف مدرس الدين الفتاة الصغيرة لأنها ترتدي “بنطلونا قصيرا للاشتراك في مباراة رياضية بالمدرسة“.

***

ويتتبع جلال أمين أثر سياسات السادات الاقتصادية على النواحي الاجتماعية، وهو ناقد بارز لسياسة الانفتاح. ويتذكر موقفا جرت تفاصيله في القاهرة ليكشف عن أثر هذه التحولات. يقول في “رحيق العمر”: “أذكر أن صديقًا أمريكيًا لي، كان وقت ذهابي إلى الكويت رئيسًا لقسم الاقتصاد بالجامعة الأمريكية. وكان أيضًا ماركسي الميول ساخطًا على المجتمع الاستهلاكي. كتب لي خطابًا في بداية عهدي بالكويت يقول فيه: إن بنك تشيس مانهاتن قد فتح له فرعًا في القاهرة. ومادام تشيس مانهاتن قد جاء إلى مصر. فلابد أن يكون هذا الوقت الذي يجب فيه أن أرحل عنها. وفعلا حزم أمتعته واستقال وهاجر إلى أستراليا“.

يقدم دليلا آخر على التحول الذي أصاب المدينة هذه المرة في كتابه الأشهر “ماذا حدث للمصريين؟”، ومن خلال استعراض تطور وسائل النقل. يكتب: “إن من رأى شوارع القاهرة في الأربعينات والخمسينات، حينما كانت وسائل المواصلات العامة من ترام ومترو وأوتوبيسات عامة. هي الطريقة الشائعة للانتقال من مكان لآخر. ثم يراها اليوم وقد اكتسحتها السيارات الخاصة وكادت تتوارى إلى جوانبها“. معتبرا هذا التحول الذي جرى في عصري السادات ومبارك نوعا من الحماقة التي جاء بها الانفتاح وطوفان الاستهلاكية والتغريب وتحول السيارة إلى رمز الصعود الاجتماعي.

***

إن النصوص التي يقدمها جلال أمين، الأكاديمي الاقتصادي الشهير، عن القاهرة، مهمة جدا في كونها تقدم شهادة شاهد عيان على الأحداث والتحولات من ناحية. وكونها قائمة على التحليل والاشتباك لكشف اللثام عن الأسباب التي أدت إلى هذه التحولات في القاهرة ومصر كلها. لذا تبدو نصوصه تنبض بالحياة خاصة أنه يستشهد في كتبه العلمية بأحداث من حياته اليومية. كما تصلح سيرة جلال أمين الذاتية، مع السيرة الذاتية لوالده أحمد أمين، كتاريخ لأسرة واحدة يمكن من خلالها سرد تاريخ القاهرة في نحو قرن من الزمان باستخدام هذه النافذة الأسرية.

اقرأ أيضا:

قاهرة أحمد أمين: مدينة تخلع العمامة!

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر