في وداع قطار أبوقير
كان أحد مدرسي اللغة العربية يُدرس لنا البلاغة، وكان يشبه الاستعارة المكنية بسكك حديد مصر؛ يقول: استعارة مكنية (س م)، وسكك حديد مصر (س ح م). ربما رأيت تلك الحروف الكبيرة الملتوية مكتوبة بالخط الأحمر على القطارات وسألت عن معناها.
تمتلك الهيئة القومية للسكك الحديدية أو سكك حديد مصر مجازا غريبا. ربما تقصد إلغاء قطار أبوقير بشكل كامل يوم 29 فبراير الماضي. ستمر سنوات وأعوام لا يوجد فيها هذا اليوم ليصبح النسيان مضاعفا.
***
قطار أبوقير أو قطار الضواحي يربط بين أبوقير في أقصى شرق مدينة الإسكندرية إلى محطة مصر؛ المحطة المركزية في الإسكندرية. يصل القطار إلى مناطق أبعد لا يصل إليها الترام. فخط الترام ينتهي في فيكتوريا، لكن قطار أبوقير كان يصل إلى الضواحي البعيدة: المنتزه والمعمورة وأبوقير، وعلى الرغم من الربط القوي الذي كان يصنعه قطار أبوقير بين مركز المدينة القديم وأطرافها البعيدة الشرقية، وخدمته لطبقة أقل ربما من الطبقة التي يخدمها الترام، إلا أنه أصبح هو نفسه علامة على تقسيم للمدينة إلى جزء قبلي ربما شعبي أكثر وجزء بحري. فالأجزاء جنوب خط القطار يطلق عليها قبلي السكة، والمقصود بالسكة سكة قطار أبوقير، والأجزاء التي تقع شماله يطلق عليها بحري السكة.
السؤال الذي تطرحه إزالة قطار أبوقير هل سيغير هذا في شكل المدينة؟ هل سيتبع إزالته تغيير في شكل وطبيعة المدينة؟ هل ستختفي كلمة قبلي السكة وبحري السكة؟ الترام مثلا لم يصنع هذا الحد الفاصل الذي صنعه القطار. يبدو الترام وقد أقام حوله حياة جميلة بينما صنع أبوقير حياة صعبة.
في قصص وروايات الكاتب إبراهيم عبدالمجيد إشارات للأجزاء الجنوبية من المدينة، أو قبلي قطار أبوقير: مر قطار أبوقير بتعديلات قبل أن يتم إلغاؤه؛ فتغير لونه البرتقالي المميز والذي يتشابه مع ألوان وسائل المواصلات في الإسكندرية كلون التاكسي وألوان الترام في غرب الإسكندرية. ذلك اللون البرتقالي تم تغييره لسبب مجهول باللونين الأحمر والأبيض. وجرى تعديل كراسي القطار بدلا من أن تتراص كرسيين على كل جانب خلف بعضها ليتم الاكتفاء بدكك متقابلة ملتصقة بجدران القطار. منح هذا مساحة وفراغا أكثر للقطار لمواجهة الزحام الشديد. وكان محطاته الرخامية تميزها يافطة بيضاء مكتوب عليها بخط أزرق جميل أسماء المحطات كالظاهرية وغبريال وباكوس. كان قطار أبوقير لا يحمل اسمين لكل محطة كمحطات الترام التي لها اسم رسمي واسم آخر متداول، لكنه لم يكن يملك ذلك الترف والغنى في الأسماء فيكتفي باسم واحد للمحطة”.
***
لم تعد الإسكندرية مجرد شريط محصور بين بحر وبحيرة كما في الماضي. فالخريطة الحديثة للمدينة تظهر أن ذلك الشريط الضيق بين البحر والبحيرة من غرب الإسكندرية إلى مركزها ربما أصبح جزءا صغيرا من الخريطة الكبيرة. وتمتد المدينة أكثر إلى الجنوب في منطقتها الشرقية. رغم ذلك ظلت المواصلات والشوارع وطبيعة ربطها بين أجزاء المدينة محصورة بتلك الفكرة القديمة عن الإسكندرية الشريط الضيق. فلا توجد شوارع كبرى تربط أطراف المدينة سوى شارع أبوقير الذي يمتد بعرض المدينة موازيا لطريق الكورنيش وطريق الترام. ثلاثة طرق كبرى تربط المدينة من شرقها إلى غربها، أما قطار أبوقير فليس شارعا ولا طريقا، ولكن مجرد سكة حديد لا توجد شوارع بجواره كما الترام.
تستطيع الحركة بسهولة في الإسكندرية بشكل عرضي، لكنك لا تستطيع التحرك بشكل طولي بنفس السهولة. يمكنك التحرك من شرق المدينة إلى غربها عن طريق الكورنيش أو طريق أبوقير أو الترام أو قطار أبوقير. لكنك لا تستطيع أن تجد مواصلات تربط جنوبها بشمالها.ربما يكون هذا قد ساعد في جعل الإسكندرية ذات مناطق طبقية أكثر في الشمال بجوار البحر يصعب على الذين يعيشون في الجنوب الوصول إليها بسهولة.
سيتم تحويل قطار أبوقير إلى مترو كهربائي بدلا من القطار الذي كان يعمل بجرَّار ديزل. ولطبيعة تربة الإسكندرية في الجزء الشرقي التي يغلب عليها الطينية أو السبخية من الصعب إقامة أنفاق تحت الأرض. سيقام مترو علوي في المسافة من شرق المدينة إلى منتصفها، وإقامة مترو سطحي في المسافة من سيدي جابر حتى محطة مصر.
***
مشروع المترو يتجاوز أحلام قطار أبوقير ليصل إلى امتداد أبعد، إلى أقصى الغرب حتى الكيلو 21، الطرف الغربي للإسكندرية بطول 41 كيلو مترا.
كان مشروع مترو أنفاق الإسكندرية من المشاريع القديمة، ربما من أيام إقامة مترو القاهرة. ويتحدث سكان الإسكندرية عن أن إقامة مترو مشابه للقاهرة حق للإسكندرية. وأشار الكاتب نائل الطوخى في روايته نساء الكارنتينا إلى إقامة مترو في الإسكندرية، وترصد الرواية تحولات المدينة بعد إقامة المترو. سيربط المترو كل أطراف المدينة لكن ربما سيصنع تقسيما جديدا.
يوم الجمعة الماضي 1 مارس كان أول يوم بعد إلغاء القطار بشكل نهائي كنت على طريق المحمودية. وهو طريق تم إنشاؤه بعد ردم ترعة المحمودية، طريق طولي أيضا موازٍ لطريق أبوقير والكورنيش. كان الزحام غريبا بعد صلاة الجمعة على الطريق، هذا من تبعات إلغاء قطار أبوقير. أعداد كبيرة من الناس تستخدم القطار ستلجأ إلى الطرق الأخرى الموازية، كانت الناس تشتكي أن توقيت إلغاء القطار غريب؛ أيام المدارس وقرب دخول شهر رمضان! يتوقع الناس ازدحاما كبيرا في الطرق والمواصلات بعد إلغاء قطار أبوقير.
يوم السبت جلست على محطة ترام صفر في انتظار الترام. جلست بجوار سيدة عجوز سألتني عن المعاشات والزيادة الجديدة. ثم جاء شاويش وجلس بجانبنا ينتظر الترام، وقال لقد لغوا قطار أبوقير. لم تكن السيدة العجوز قد عرفت بالخبر بعد. قال رجل أربعيني إنه ينتظر الترام لمدة نصف ساعة ولم يأت، وأنه كان يجب زيادة عدد الترموايات لمواجهة الزحام بسبب إلغاء قطار أبوقير. فيما قال الشاويش إنه كان كل ربع ساعة قطار، ويصل من باكوس إلى سيدي جابر في سبع دقائق. وأضاف أنه يحتاج إلى الذهاب إلى بلده في البحيرة ليصل قبل العشاء، وكان قطار أبوقير حلا سريعا للوصول إلى محطة سيدي جابر. وقالت السيدة العجوز إنها كانت تصل إلى سموحة عن طريق القطار عندما تنزل في سيدي جابر.
***
الناس حزينة لإلغاء قطار أبوقير ليس لأنها ترتبط به عاطفيا أو نوستالجيا. لكنه كان عنصرا مهما في المواصلات في الإسكندرية ويشعر الناس بالتوهان بعد إلغائه.
سألت الشاعر والمترجم خالد حجازي هل كنت تركب قطار أبوقير؟ فقال لي كنت أركب الترام أكثر، وعندما سألته لماذا لا تركبه؟ قال إن القطار ينتمي إلى طبقة أقل، ولا يوجد في محطاته بائعو جرائد أو شرائط كاسيت. يقول إن الترام للموظفين والطلبة، وقطار أبوقير للعمال والناس الغلابة. يبدو هذا تقسيما قديما لكن في الحقيقة كان قطار أبوقير للغلابة فعلا؛ فهو يخدم المناطق الجنوبية من المدينة.
نشرت بعض الصحف أن بعض ركاب القطار ركبوا في رحلة أخيرة لوداعه.. ربما هذا مشهد حزين عندما يودع الواحد إسكندرية في خياله.
اقرأ أيضا:
«كراسات بهنا».. ترجمات جماعية حول مدينة الإسكندرية وهويتها