في وداع رجائي ونيس: رحلة بدأت بالكاريكاتير وانتهت بالعلاج بالفن
غيب الموت – الخميس الماضي- الفنان التشكيلي رجائي ونيس، أحد أفراد الجيل الذهبي في مدرسة روزاليوسف.
العلاج بالفن
الفنان رجائي ونيس كان من الرواد المؤسسين لمجلة “صباح الخير” التي صدرت أول أعدادها عام 1956، ورسم العديد من اللوحات التي احتفظ بها أصحابها إلى الآن، وبالرغم من تحقيقه نجاحا كبيرا في مصر إلا أنه هاجر إلى أستراليا في منتصف الستينات.
وهناك اتجه ونيس إلى مجال آخر غير الكاريكاتير وهو العلاج بالفن وبرع فيه أيضا، حيث قدم تجربة فنية فريدة لعلاج الاضطرابات النفسية باستخدام الرسومات الفنية، خاصة لنزلاء مستشفيات الصحة النفسية.
صداقة لم يغيرها السفر
عاصر الفنان رجائي ونيس عدد كبير من رسامي الكاريكاتير في فترة الخمسينات، لكن خطوطه وحدها في الرسم كانت مميزة وواضحة. يقول عنه الفنان التشكيلي ياسر جعيصة: “لو لم يهاجر الفنان رجائي ونيس لكان واحدا من أعظم فنانين الكاريكاتير في مصر”.
وتابع: تميز الفنان الراحل بسبب وجوده وسط مجموعة لن تتكرر، وهم صلاح جاهين، جورج البهجوري، بهجت عثمان وحجازي، ولكن رجائي ظهر بمدرسة متفردة، رسمه بالفرشاة وخطوطه وحدها تميزه بدون مجهود. بالإضافة إلى تميزه في إظهار الكوميديا في الكاريكاتير الاجتماعي، حتى هجر مصر فجأة وسافر إلى أستراليا للعمل بالفن، ويضيف: “رجائي فنان تقيل وعبقري وعنده وعي سياسي كبير”.
كشف جعيصة تفاصيل العلاقة بين الفنان جورج البهجوري والفنان رجائي ونيس، مسترجعا ذكرياته. إذ يقول: “في عام 1997 كنت في واحدة من زياراتي لمرسم الفنان جورج البهجوري، الذي جاب العالم وجمع الكثير من البورتريهات الشخصية التي رسمها له العديد من الفنانين.
وأراد البهجوري حينها جمعها في كتاب يضم البورتريهات التي رُسمت له، وبعدها قال لي: “ارسمني”، فرسمته، وأراد البهجوري أن يكون غلاف كتابه من رسم رجائي ونيس”.
وتابع: كانت المراسلات مستمرة بين فناني الكاريكاتير، البهجوري في مصر، ورجائي في أستراليا، ورأيت أحد هذه الخطابات، الذي كان عبارة عن بورتريه رسمه الراحل رجائي لجورج البهجوري، ولكن بطريقة مبتكرة، الكلمات باللونين الأحمر لملامح الوجه، والأزرق لون الشعر والذقن.
واستطرد جعيصة: “كان رجائي واعيا بالمنطقة العربية، وهو فنان من العيار الثقيل، ومواقع التواصل الاجتماعي ظلمته، اعتقد لو كان استمر في مصر لكان واحدا من أعظم الفنانين، حُرمنا من خطوطه، فهو رسام ماهر وواعي ليس في الكاريكاتير فقط لكن في الرسم بشكل عام”.
رحلة رجائي مع فن الكاريكاتير
قال الفنان الراحل رجائي ونيس – في حوار قديم أعيد نشره بعد رحيله- إن سبب دخوله المجال عندما شاهد مجلة “روز اليوسف” عام 1949، تفتحت عيناه على شيء اسمه كاريكاتير سياسي أو رسوم سياسية ساخرة، وكان الفنان الأشهر وقتها اسمه عبدالسميع، حيث كانت الرسوم في عهد الملكية والأحزاب السياسية متميزة، وبدأ يقلد تلك الرسوم في سن مبكرة جدا، ويرسمها على السبورة في المدرسة، ما سبب له بعض المتاعب.
وإلى نص الحوار القديم:
«برعت في رسم شخصيات مثل النحاس باشا وفؤاد سراج الدين باشا، ثم انتقلت إلى رسم الأصدقاء بهذا الأسلوب وكانت سببًا في مشاجرات، وفى تلك الأثناء كان لجورج البهجورى دور كبير في هذه النقلة لتطوير الشكل في الكاريكاتير، كان جورج يكبرني بخمسه أعوام وعلى وشك التخرج في كلية الفنون الجميلة. بينما كنت أنا في أول سنة بالكلية، وبدأت في رؤية رسومه على غلاف مجلة روزاليوسف، وكان لأسلوبه أثر على الكثيرين من فناني الكاريكاتير الناشئين.
وكنت كذلك معجبًا بكاريكاتير حسن حاكم في مجلة الاثنين والدنيا. وقد قابلت كل هؤلاء في كلية الفنون الجميلة، وكان البعض يسبقني بعامين أو ثلاثة من الدراسة مثل مصطفى حسين وإيهاب شاكر، كانت تلك هي سنوات الحماس والبحث والمحاكاة للتعلم ممن سبقوني في هذا الميدان من الفنانين المصريين، ولكن بعد تفتحي على الكاريكاتير الإنجليزي والفرنسي والإيطالي بعد ذلك بسنوات أعادت لي هذه الأعمال الأيام الذهبية للكاريكاتير المصري، وبدأت أتحسر على خسارة المضمون..
ولكنى اكتسبت خبرات كثيرة من الأسلوب وطرق التفكير، وبالتأكيد كان لظهور صلاح جاهين وبهجت عثمان ثم حجازي والليثي بعد ذلك دورا في تطوير مدرسة أخرى، وكان لهؤلاء خط مباشر مع الجمهور لتناولهم قضايا اجتماعية بشكل ساخر بشكل يصل لقلب القارئ، وقد حاولت التوفيق بين الشكل والمضمون في مرحلة النضج».
من روز اليوسف إلى أستراليا
على مدار سنوات طويلة، احتفظ الفنان والصحفي محمد بغدادي بأرشيف الفنان الراحل رجائي ونيس، ومن بينها لوحات نادرة. ويقول بغدادي: “رجائي ونيس واحدا من مؤسسي مدرسة الكاريكاتير المصرية الحديثة، فهو واحد من أهم كتيبة الفن المشاغب أبناء دار روزاليوسف (الأولى) التي أشرف بالانتماء إليها، وهو من الرواد المؤسسين لمجلة “صباح الخير”.
ويضيف: “منذ العدد الأول الذي صدر في 12 يناير 1956. قدم رجائي رؤية جديدة في الخط واللون والفكرة والموضوع. سافر في بداية الستينيات مع مفيد فوزي لليابان لتقديم عدة تحقيقات صحفية على صفحات مجلة “صباح الخير”. ثم عاد بمفرده ليقضى بعض الوقت في اليابان ليزداد خبرة وممارسة فنية وإنسانية. ثم هاجر نهائيا في منتصف الستينيات لأستراليا ليمارس دورا جديدا لمعالجة الاضطرابات النفسية لنزلاء مستشفيات الصحة النفسية بالرسومات الفنية. وقدم للعالم تجربة فريدة في العلاج النفسي بالفنون التشكيلية”.
الحديث الأخير بين بغداد وونيس، كان قبل رحيله بأقل من شهر، ويقول عنه: “الحوار كان بيننا موصولا حول كل شيء، وفي العدد 2000 من أعداد مجلة “صباح الخير”، الذي صدر عام 1994، قدمت ملفا كاملا عن فرسان الكاريكاتير المشاغبين”. واحتفلت برجائي في هذا الملف على وجه الخصوص بشكل يليق بتجربته. فأرسلت له “فاكس”، طوله متر و20 سم يتضمن رسومات كاريكاتورية وكلمات شكر”.
وتابع: واحدة من اللوحات التي رسمها للأديب الراحل إحسان عبدالقدوس، مازالت موجودة في منزل ابنه الكاتب والصحفي محمد عبدالقدوس. وأنا احتفظ بصورة منها في أرشيفي، أما عن اللوحة فنلاحظ فيها البساطة المتناهية والتلخيص والتمكن. ليضفي على البورتريه من روح إحسان عبدالقدوس مصداقية رؤية الفنان الذي يرسم بقلبه وبصيرته. هذه اللوحة من مقتنيات آل إحسان الآن.
الرسم في الجامع
جمعت بين الدكتور مصطفى محمود والفنان رجائي ونيس صداقة قوية. روى كواليسها الدكتور مصطفى للصحفية سهام ذهني. إذ تقول لـ”باب مصر”: “حكا لي د.مصطفى منذ سنوات عن علاقته بالراحل بمجلة صباح الخير زمان”.
حيث قال: “كنا متلازمين ولا ننفصل إلا عند النوم، كان يجد فيّ إنسانا يستطيع أن يتبادل معه الكلام في موضوعات لا يمكن أن يكلم شخص آخر فيها. والأسئلة التي يسألها لا يستطيع أن يجيب عليها أحد إلا أنا، فقد كانت بيننا صلة روحية..
هو مسيحي، لكن لم نكن ننشغل بمسلم أو مسيحي.كنا إخوان بيننا مودة حقيقية. وقبل أن يهاجر إلى أستراليا حينما أراد مكانا لكي يرسم فيه أعطيته حجرة في الجامع، كانت حجرة فوق سطوح المسجد بها سكن. فقد تعرض لظروف خاصة، وكان يريد أن ينعزل ويرسم، فدعوته للجامع فرحب بشدة”.
وعندما عبر د.مصطفى عن إعجابه بالبورتريه الذي رسمه له الفنان رجائي ونيس. والذي يتصدر الصالة في منزله علق لـ”ذهني” قائلا: “إن الفنان الكبير رجائي ونيس كان قد رسمها لي في الفترة التي كان هو يكتب كتابه الشهير: “السر الأعظم”. ثم أضاف أنه يشعر جدا بتلك اللوحة ويحبها. بل ويعتبرها لوحة عالمية لأن اللوحات الأخرى التي تم رسمها له كانت ترصد ملامحه الظاهرية. أما ريشة رجائي ونيس فقد انتقلت من رسم الظاهر إلى رسم الباطن.
واستكمل في وصف اللوحة: “اللوحة تصورني غارقا في داخلي ومغمض عيني عن الدنيا وما فيها. وأن هذا العزوف عن الدنيا قد نتج عنه هدوء كبير واضح على وجهي. وقد أطلقت على هذه اللوحة اسم “الصورة الجوانية” باعتبار الريشة فيها لا تصور ملامح خارجية. بل ترسم انعكاسات ما يجري داخل إنسان يعيش مع الله في العالم النفسي الرحب الداخلي الذي لا آخر له. كما أنها اللوحة الوحيدة التي رسمت حقيقته. حيث تسللت إلى داخله وأخرجت الحالة العميقة الهادئة”.
اقرأ أيضا:
من جديد.. فنان روسي يتهم مصممة جرافيك مصرية بسرقة لوحة فنية| انفراد