في مثل هذا اليوم من عام 1942.. محاصرة الدبابات البريطانية لسرايا عابدين
شهدت مصر فترة عصيبة في فبراير 1942، فالحرب العالمية على أشدها وروميل دخل إلى العلمين مواصلًا طريقه إلى الإسكندرية، والمظاهرات في شوارع القاهرة تنادي: “إلى الأمام يا روميل”، في الوقت الذي كانت فيه حكومة سري باشا تواجه انقسامات داخلية، وبدأت أحزاب الأقليات تنقلب على حكومة الائتلاف وتثير المشاكل، بحسب الكاتب جلال الدين الحمامصي، في كتابه “معركة نزاهة الحكم”.
لفت الحمامصي في كتابه إلى أن كل ذلك جعل حكومة التاج البريطاني تشعر بالقلق الشديد الذي وصل إلى حد الذعر من أن تفشل حكومة سري باشا في السيطرة على الأوضاع الداخلية، ما قد يهدد الوجود البريطاني في مصر أمام الألمان، وكان الحل يتمثل من وجهة نظر الإنجليز في أن تتولى حكومة ذات قبول شعبي مقاليد الأمور؛ لتضمن بريطانيا هدوء الجبهة الداخلية، وفي نفس الوقت تضمن تنفيذ معاهدة 36 في اشتراك مصر في قتال دول المحور، ويقع الاختيار على النحاس باشا، زعيم حزب الوفد، والذي وقع معاهدة 36 وصاحب الشعبية الجارفة بين الجماهير العريضة، ولكن ومع اعتراض الملك فاروق على شخصية النحاس وحزب الوفد، صعدت بريطانيا من لهجتها لتتحول من لغة النصح إلى لغة التهديد وحين أصر الملك على موقفه، لجأت إلى الحل العسكري، لتحاصر الدبابات قصر عابدين في مساء يوم 4 فبراير 1942.
زيارة سرية
يورد الكاتب جلال الدين الحمامصي في كتابه “معركة نزاهة الحكم”، تفاصيل يوم 3 فبراير، مشيرا إلى أنه توجه في مساء ذلك اليوم قاصدا منزل رئيس الوزراء حسين سري عامر، وعند وصوله قرب المنزل وجد موكب اللورد كيلرن السفير الإنجليزي، والذي اتجه مباشرة إلى داخل المنزل ليتضح له أن سري كان في انتظاره وبمجرد دخوله المنزل اختفت السيارة والموكب.
يتابع الحمامصي، نظرت إلى ساعتي فوجدتها التاسعة مساء، ثم عدت ونظرت إليها بعد أن غادر السفير الإنجليزي لأجدها اقتربت من العاشرة، وتابعت سير موكب السفير فإذا به يعود إلى السفارة، فعدت إلى مكتبي وطلبت رئيس الديوان الملكي أحمد حسنين، وبمجرد أن التقط سماعة التليفون تساءل: قصر عابدين؟، فسألته ولماذا تطلب قصر عابدين في هذه الساعة المتأخرة؟ فلم يجب وبدا غير منشرح الصدر كعادته وطلب مني الاتصال بعد لحظة لحاجته الاتصال بسراي عابدين، فقلت له لعلك تريد أن تعرف الأخبار التي عندي قبل أن تتصل بسراي عابدين؟ فسألني وما هي؟ فأخبرته أن السفير البريطاني اجتمع سرا مع رئيس الوزراء في منزله واستغرقت الزيارة ساعة، فأجاب مستغربا: ولكن كيرلن ليس في القاهرة، لقد ذهب في الصباح إلى الصيد، فقلت ولكنه عاد في المساء وتوجه إلى دار سري عامر واجتمع به طويلا.
الإنذار البريطاني
ويتابع الحمامصي أنه صباح يوم 4 فبراير نشرت صحيفة المصري اليوم خبرا بأن السفير البريطاني قطع رحلة الصيد واجتمع مع رئيس الوزراء سرا في منزله، جاءت الأنباء بأن سري باشا استقال من منصبه وبدى واضحا أن الاستقالة جاءت بعد اللقاء الذي جمعه مع السفير كيلرن، حاول الملك جمع الأحزاب من حوله لتشكيل حكومة وفاق وطني، ودعا جميع قيادات الأحزاب للاجتماع في قصر عابدين، وفي ذلك الوقت كان النحاس في قنا فدعى إلى الحضور فورا إلى القاهرة، ووصلت الأنباء إلى السفارة الإنجليزية وأدرك كيلرن أن الملك سوف يعصف بمخططاتهم لتنصيب النحاس رئيسا للحكومة، فبعث السفير الإنجليزي إنذارا للملك نصه: “إذا لم أعلم قبل الساعة السادسة من مساء اليوم أن مصطفى النحاس قد دعى لتأليف الوزارة، فإن جلالة الملك فاروق سيتحمل تبعة ما يحدث”.
يكمل الحمامصي: وحاول الملك أن يتجاهل الإنذار البريطاني ويمضي قدما في تشكيل الحكومة القومية، ولكن النحاس رفض وبشدة، ما جعل الآخرين يعتقدون أن النحاس كان على علم بالمؤامرة، وأخيرا اتفق جميع الحضور على رفض الإنذار البريطاني ووقع الجميع على وثيقة الرفض وكان النحاس آخر الموقعين، معلنا أنه لن يتحمل مسؤولية ما سيترتب على ذلك من نتائج، محملًا حسنين باشا وثيقة الرفض إلى مقر السفارة البريطانية، واندهش اللورد كيرلن من وجود توقيع النحاس باشا، ليسأل حسنين في دهشة: هل أنت متأكد من أن هذا هو توقيع النحاس؟ ويلمح الحمامصي أن دهشة السفير البريطاني أكدت أن النحاس كان على علم بالمؤامرة.
الدبابات حول القصر
يكمل الحمامصي شهادته قائلا: أنه في التاسعة مساء أحاطت الدبابات البريطانية قصر عابدين، واقتحم كيرلن مكتب الملك وسلمه وثيقتين الأولى تنص على تكليف النحاس باشا بتشكيل الحكومة، أما الثانية وفي حالة إصرار الملك على الرفض فهي وثيقة تنازل عن العرش، ويلفت الحمامصي أنه توجه بسيارته إلى ميدان عابدين، وشاهد الدبابات البريطانية وهي حول القصر الملكي، ويرضخ الملك للإنذار البريطاني ويدعو النحاس باشا لتشكيل الحكومة، وفي صباح اليوم التالي 5 فبراير، توجه النحاس إلى مكتبه وذهب إليه السفير البريطاني مهنئا، ليقف النحاس وكيرلن في شرفة مكتب رئيس الوزراء لتهتف لهما الجماهير المحتشدة.
هوامش
معركة نزاهة الحكم – جلال الدين الحمامصي – الناشر: وديع سعيد 1957.
2 تعليقات