في «لام شمسية»: هل أنت منزعج؟ حسنا هذا هو المطلوب!

حقيقي بقدر ما هو ثقيل، ومؤثر بقدر ما هو صادم، وصادق بقدر ما يثير الإنكار، والميل إلى التهوين والتهكم. «لام شمسية» واحد من أهم مسلسلات الدراما المصرية هذا العام وكل الأعوام. وهو يفتح قضية لم يجرؤ مسلسل أو فيلم مصري على فتحها من قبل (وإن كانت بعض الأعمال الأدبية القليلة فعلت ذلك).

الإزعاج ضرورة فنية

متفهم لردود الفعل المنزعجة، وأعرف أنه ينكأ جراحا، ويقلب أوجاعا، ويثير مخاوف لا يستطيع البعض، أو لا يرغبون في، تحملها. لكن “الإزعاج” هو أحد وظائف الفن الأساسية، التي يحاول الكثيرون إنكارها عليه، ومنعه من أداءها. ذلك أن الفن يمكنه، أكثر من أي وسيط آخر، أن يدفع الناس إلى رؤية ما لا يستطيعون، أو يرغبون في، مشاهدته. وهذا بالضبط ما يفعله “لام شمسية”.

موضوع الاعتداء الجنسي على الأطفال الذكور سبق تناوله في أعمال أجنبية، لعل القارئ شاهد بعضها، مثل “النهر الغامض” Mystic River (إخراج كلينت إيستوود، 2003)، “الشك” Doubt (جون باتريك شانلي، 2008) و”ضوء كاشف”  Spotlight (توم ماكارثي، 2015)، وفي السينما العربية هناك الفيلم التونسي “ريح السد” (نوري بو زيد، 1986). ورغم أن هناك القليل جدا من الأعمال المصرية التي تعرضت للاعتداء على البنات، من طرف زوج الأم أو العم أو الأب، وغالبا بشكل إيحائي، إلا أنها لم تتطرق للاعتداء على الصبية، ولا للتداعيات النفسية المعقدة على الضحايا، الذين كثيرا ما يقبلون بالأمر، وكثيرا ما يتحولون بدورهم إلى معتدين، ولا للتداعيات النفسية الأكثر تعقيدا على الأهالي، الذين كثيرا ما ينكرون الأمر أو يتجاهلوه.

داخل النفق المظلم

في الفيلم البديع “أن تكون جون مالكوفيتش” Being John Malkovich (سبايك جونز، 1999)، يعثر بطل الفيلم على نفق سري مظلم يؤدي إلى عقل الممثل جون مالكوفيتش، وفي مرحلة من الفيلم يقوم بتأجير النفق للراغبين في الدخول إلى عقل النجم المشهور. يمكن فهم الفيلم كمجاز لما يفعله الفن الحقيقي حين يضع المتلقي داخل رؤوس الشخصيات وداخل العالم المتخيل للقصة.

ما يفعله “لام شمسية”، بقصد أو دون قصد، هو أنه يضع المشاهد داخل عقول شخصياته، أو بالأحرى يضع الشخصيات داخل عقل المشاهد، وهو مثل كل عمل فني جيد، ليس مجرد “إخبار” بالمشكلة، ولكنه يجعل من مشاهديه طرفا فاعلا وشريكا في المشكلة!

منذ الحلقة الأولى التي تنتهي بمفاجأة وشجار يكاد يفضي إلى قتل، تنتاب المشاهد المشاعر نفسها التي تمر بها الشخصيات: الفزع، ثم الشك، والميل إلى عدم التصديق، وتمني لو أن الأمر لم يكن حقيقيا، ولو أن الحياة تعود إلى سابق عهدها. تلعب أمينة خليل بملامحها المنحوتة العصبية شخصية الزوجة والأم التي تكتشف الأمر، وكأنها على حافة الهيستيريا. وحين يبدي المحيطون بها الشك في صحة اتهامها، تشك في نفسها، وترضى بالاعتذار وسحب البلاغ الذي قدمته ضد صديق زوجها. ومحمد شاهين، المتهم بارتكاب الفعل، يثبت أنه ممثل من طراز نادر، قادر على التعبير عن الشيء ونقيضه في اللحظة نفسها. فأمام عذوبته تتمنى لو كان بريئا حقا، وأمام سطوته تشعر بالرعب من سيطرته.

هذا، في تصوري، أفضل أداء لنمط “الذئب في ثياب الجدة” شهدته الدراما والسينما العربية. يضع المسلسل مشاهده في مقعد صديق الجاني (والد الطفل)، أو في مقعد أمه، وكلاهما لا يصدقان الاتهام ويلقيان باللوم على الزوجة. وفي مرحلة أسوأ يضع المسلسل المشاهد في موقع زوجة الجاني التي انسحقت نفسيا، أو الطفل الذي وقع في حبائله. نحن لا نعرف ما حدث، ويخدعنا المسلسل قليلا، بتركه الباب مفتوحا أمام التأويلات المختلفة. نميل إلى جانب أو آخر، ونتشكك في استنتاجنا، وتتصارع كل الاحتمالات في أذهاننا.

صدمات متتالية

بعد الصدمة الأولى، يأتي الإنكار، وعلى مدار حلقتين أو ثلاثة يبدو وكأن الحياة عادت إلى مجراها، وأن ما حدث لم يكن سوى زوبعة في مخيلة الزوجة. ولكن سرعان ما تثار الشكوك مجددا لسبب شديد الغرابة والإزعاج: الطفل الذي تعرض للاعتداء مرتبك، وعصبي، يشعر بالخجل والعزلة، يدافع عن الجاني معتقدا أنه يحبه، ويغار من اهتمامه بطفل آخر. وفي محاولة لاستعادة التجربة وللتخلص من وطأتها في الوقت نفسه، يقوم بدور الجاني مع أخيه الأصغر. تركيبة نفسية شديدة التعقيد، لم يسبق أن وصلت إليها الدراما العربية من قبل، وأداء الطفل علي البيلي لم يسبق أن قدم مثله طفل في الدراما العربية.

لأكثر من نصف المسلسل، يبقى المشاهد في مرحلة الشك في نفسه والرفض والتمني وعدم اليقين، ولذلك، عندما تبدأ الحقائق في التكشف واحدة وراء الأخرى، أخيرا، يكون المشاهد قد وصل إلى مرحلة التورط الكامل داخل الموقف والشخصيات.

نص واعٍ.. وإخراج متمكن

يحسب لمريم نعوم وفريق كتابة السيناريو هذا العمق الناتج عن بحث وعلم بالموضوع، وعن تمكن ودراية بأصول الكتابة، ويحسب للمخرج كريم الشناوي اتقانه وقدرته على بث الحياة في كل تفصيلة صغيرة، سواء كانت عضلة وجه ممثل في لقطة مقربة، أو مجموعة من الممثلين في حفل عائلي أو طابور المدرسة. ببساطة: هذا هو التمثيل، وهذا هو الإخراج.. فكأن الشخصيات، وليس الممثلين، هي التي تتحرك أمامك بالفعل، وكأنك لا تتفرج على قصة، بل تعيشها. بإمكان الفن الحقيقي أن ينقلك فعليا إلى حياة أخرى.

يعتمد “لام شمسية” على عنصر التمثيل باعتباره الأهم في هذا النوع من الدراما النفسية. وكل الممثلين هنا في أفضل أحوالهم، رغم أنهم نفس الممثلين الذين نراهم في أعمال أخرى يتخبطون أو يجتهدون بحثا عن الشخصية والأداء المناسب: يسرا اللوزي، صفاء الطوخي، أحمد صلاح السعدني، ثراء جبيل، يارا جبران، ياسمينا العبد، علي قاسم، أسيل عمران.. حتى الذين يظهرون في مشهد واحد عابر: شاهد مثلا مشهد زيارة الزوج وعشيقته إلى أهلها في القرية.. حتى مشادات الأطفال تبدو حقيقية. إدارة الممثلين هي واحدة من أهم أدوات المخرج، وحين نشاهد “عك التمثيل” في مسلسلات أخرى، يمكن أن نتخيل قدر الجهد المبذول في إدارة الممثلين في “لام شمسية”.

لكن إدارة الممثلين مجرد أداة من أدوات أخرى: المكان والتصوير والاضاءة وزاوية الكاميرا وحجم اللقطة والمونتاج الذي يبرز الأفضل ويستبعد غير الضروري ويحدث التفاعل بين اللقطات والممثلين. يضاف إلى ذلك شريط الصوت: نوع الأداء ودرجة الصوت والصمت والموسيقى التصويرية. يقال في علم الموسيقى أن الصمت، لا الصوت، هو الذي يصنع الموسيقى. وفي التمثيل أيضا ينطبق هذا القول تماما. لحظات صمت الممثلين وصمت الموسيقى في “لام شمسية” هما اللذان يحدثان التأثير الأقوى. وحين يأتي صوت الممثل، أو الموسيقى أخيرا، من تحت وطأة الألم المسكوت عنه، والكابوس الذي لا مخرج منه، يكون تأثيره مدويا.

الفرق بين الدراما والتنمية البشرية

مع ذلك، لدي ملحوظة واحدة على المسلسل هي كثرة الاعتماد على الجلسات النفسية. هناك أربعة أخصائيين نفسيين يظهرون في العمل: طبيب يسرا اللوزي، وطبيبة أمينة خليل، واستشارية المدرسة، وطبيب الطفل. من ناحية تجر هذه الجلسات المسلسل إلى منطقة التوعية التربوية المباشرة والولع السائد لدى البورجوازيات المصريات بمعلمي التنمية البشرية الذي يتردد كثيرا في أعمال مريم نعوم، كما رأينا مثلا في “سقوط حر” و”خلي بالك من زيزي” و”ليه لأ” بأجزائه. ومن ناحية ثانية يبدو ضعفا دراميا، وكأنه نوع من التهرب من مشقة البحث عن معادلات درامية تقوم بتوصيل المعلومات المطلوبة.

بالتأكيد يحتاج “لام شمسية” إلى أخصائيين نفسيين لتفسير الكثير من السلوكيات الغريبة، ولتقديم مقترحات العلاج الملائمة، ولكن الأمر يزيد عن الحد قليلا، وربما كان من الممكن الاكتفاء بطبيب الطفل وإيجاد حلول أخرى لتوصيل المعلومات الخاصة بالشخصيات الأخرى. لنتخيل مثلا أن الحادث محور المسلسل يدور في بيئة لا تعرف أو لا تملك توفير، أو لا تؤمن بدور، الأخصائيين النفسيين، وهو الأمر الغالب في مصر.

على أية حال، لا يقلل هذا العيب من أهمية وتميز المسلسل. وعلى أية حال لم يزل في “لام شمسية” المزيد من الحلقات التي يجب أن ننتظرها لنرى الصورة كاملة، قبل أن نصدر “تحليلا نهائيا” (بلغة الطب النفسي!) أو تقييما نقديا نهائيا. نحن متورطون الآن وحتى نهاية الأسبوع داخل الدراما الأكثر جذبا وإزعاجا وتأثيرا في هذا الموسم.

اقرأ أيضا:

مذكرات «النٌص» التي ضيعتها الوطنية!

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر
إغلاق

Please disable Ad blocker temporarily

Please disable Ad blocker temporarily. منفضل اوقف مانع الاعلانات مؤقتا.