في سلسلة ندوات «خزانة» للتراث: العمارة الإسلامية من منظور أيقونة سوهاج
التصميم الفريد لـ«مسجد باصونة» في إحدى قرى صعيد مصر بمحافظة سوهاج، أصبح نموذجا ملهما للعمارة الإسلامية حول العالم، لينضم إلى أفضل 27 تصميم مسجد حول العالم. وفي المحاضرة الرابعة من سلسلة محاضرات «خزانة» للتراث بعنوان «التراث مدخل إلى مستقبل العمارة» يكشف المعماري المصري وليد عرفة، مؤسس دار عرفة للعمارة، والحاصل على جائزة «ستون أووردز» كواليس العمل على المسجد لتحقيق العلاقة بين العمارة والتراث.
التراث ومستقبل العمارة
بدأ المعماري المصري حديثه بتعريف التراث باعتباره عاملا في استكشافاته. ورغم تعدد تعريفاته فإن التعريف المتعلق بالعمارة في رأيه أن التراث هو الماضي وتجاربه التراكمية التي بها وصلنا للحاضر. سواءا بضماننا استمرارية واتصال تجاربه الإيجابية، والتعلم من تجاربه السلبية. أو بانقطاعنا غير المقصود عنه، وربما قطيعتنا معه مع سبق الإصرار والترصد.
وبحسب التعريف، ليس بالضرورة أن يكون التراث كله إيجابي أو سلبي وكليهما بوابات أو وسائل للاستفاد من التراكم المعرفي. كذلك المستقبل هو المحطة المقبلة دائما على خط الزمن. ويضيف: “التراث نتاج للرؤى المعرفية المنتصرة وتفاعلاتها مع الرؤى الأخرى والتطبيقات المؤسسة على كل ذلك في اللحظات المتفلتة من الإنسان بشكل دائم والتي نعبر عنها بالحاضر”.
كذلك تتعدد تعريفات العمارة ولكن في القضية التي ناقشها. فالعمارة مجال لبحث وتجسيد رؤى معرفية متعلقة بالضرورة بإجابات الأسئلة العشرة الكبرى للفلسفة. ولا يصح اختزالها في معارك فرعية بين مذاهب التشكيل المتناحرة أو مدارس التصميم المختلفة وفق أدواتها من برمجيات وغيرها.
سياق الممارسة والبحث عند دار عرفة للعمارة. تعد الممارسات المعمارية هي محاولات أولية لاستكشاف قراءة مختلفة للتراث خارج الأطر والمناهج والقراءات المسيطرة على علم فلسفة ونظريات العمارة. خصوصا فيما يتعلق بالمصطلح المشكل “العمارة الإسلامية”. ويقول: “تقدم كل رؤية طرق الاستدلال الخاصة بها وهذا ما نقوله ضمنيا عن كيفية النظر للتراث واستخراج مفاهيم منه لها تطبيقات حالية”.
معايير العمارة الإسلامية
وتطرق إلى أسباب عجز القراءات الحالية للعمارة الإسلامية. ومن بينها الماضوية التاريخانية، الأسلمة، المفارقة الجزئية أو الكلية تحت دعوى التجديد. وعن إعادة وصل حاضر ومستقبل الممارسة والتنظير للمعماريين بالتراكم المعرفي المعماري الإسلامي. أو ما يعرف بالإسناد المتصل في علوم العمارة. كشف أنه يرجع إلى أن تلك القراءات نابعة بالأساس من نظريات معرفية وأطر تفسيرية للوجود غير متسقة في أحسن الأحوال.
ويوضح: “المخالفة بل المضادة في أحوال أخرى في أصولها وبالتالي في فروعها لأصول ومقاصد الإسلام. وما أطبق عليه المسلمون فهما وتطبيقا على مدى 14 قرنا من الزمان. وخصوصا ما أجمع عليه المسلمون فيما يخص التمييز بين المطلق الثابت من جهة والنسبي المتغير من جهة اخرى”.
وعن المعايير التي يصدق بها ويصح وصف عمارة ما، ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا، بوصف الإسلامية. فتنقسم إلى جزئين أولا التميز بين المطلق والنسبي والمناهج والمسائل. ومطلقات مثل التوحيد والتعريفات المطلقة للحسن والقبيح والعبودية والاستخلاف وعارية الكون. وفهم ومراعاة الخصائص والسياقات الزمكانية، ونسبيات مثل جميع المشخصات من زمان ومكان وأحوال وأشخاص.
ثانيا، واجب الوقت. ومنه أولويات العمارة التي بدونها لن يكون هناك مستقبلا أصلا، فضلا عن التعرف على ماهيتها، مثل الحياة والبيئة وما يهددها. والعدالة الاقتصادية والاجتماعية. وتحقيق وإيجاد بدائل فكرية وفلسفية لكسر الاحتكار والجمود الفكري الذي يعولم الأرض لحساب رؤية مركزية أوروبية الحداثة وما بعدها وما بعد بعدها.
عمارة المساجد
وزعم أن العمارة التي لا تراعي النسبيات فهي عمارة تقصر عن تحقيق مبدأ العمارة الإسلامية. إذ تعد عمارة المساجد فرصة لنشر الوعي العام لعامة الناس بهذه الأفكار. وهي منابر بصرية تشكيلية وظيفية لإحداث التغير الإيجابي في عالمنا، بشرط كونها تمثيلا حيا، أو على الأقل محاولات صادقة، لما فيه خير الإنسانية فيما عرفه المسلمون بمصطلح الهداية العامة.
ومن الأمثلة محاولة مسجد باصونة، الذي يقع في باصونة وهي قرية صغيرة تنبئ عمارتها ما قبل المائة عام الماضية عن أصالة وصدق وفهم أهلها لميراثهم المعرفي وواقعهم بكل أبعاده. مما أنتج عمارة تتضح بالإتقان والكفاءة والاطمئنان والثقة المعرفية والبساطة والحسن بلا تكلف ولا اعتساف.
ويروي عرفة تفاصيل عمارة القرية القديمة. فعلى النقيض فإن غالب عمارتها خلال المائة عاما الماضية ولدت من رحم انعدام الثقة والاتزان. كأجنة مبتسرة، قبيحة، شحيحة البر بوالديها. فلا من الحر والبرد وقت. ولا أموال منشئها ومشغليها حفظت. ولا أطلت بجميل المفاتن على المار بظواهرها. وعدم المراعاة كان موجودا من قبل. فالمسجد إماما للمباني والعمارة والعمران. مضيفا أنه تعتبر النسخة الثانية من المسجد هي بداية نزول الفهم للناس عن العمارة الجيدة لأنه مكان الصلاة وبالتالي عند استخدامه 5 مرات يوميا سيجعلهم يبنوا مبانيهم بنفس الفكرة.
مسجد باصونة
واستكمل: “وكل يوم يمر بالقرية، ينهك التوجه الأخير بالهدم. فجاءت فرصة تهدم جامع القرية، الذي أرخت نسخته الأخيرة ذات السبعين خريفا لبداية الانحطاط عما سبقها من جمال وجلال. وأوضحت فرصة الوصال بما سبق ومقاومة ما لحق سانحة”. متسائلا: “ولكن بأية كيفية؟ هل نساوي بين المناهج وبين ما نتج عنها مطلقا. فتقع فريسة للتقليد الأعمى والتاريخانية المتجمدة؟ أم نميز بين المناهج الموضوعية المطلقة من جهة وبين العمارة التي تولدت عن تزاوج ذلك المطلق بنسبيا ما في إطار مشخصات بعينها”.
هذا كان وضع المسجد قبل ذلك، بكل المشاكل التي مر بها، مع انهيار السقف والمبنى بطريقة غير سليمة. مما أدى إلى شرخ وأصبح الأمر غير آمنا. ويوضح أنه في تقديره ومعاينته للمسجد فإنه حال مقارنته بالعمارة التي سبقته فهو يفتقر لأي معايير ملموسة أو غير ملموسة، والبحث عن المطلقات، بحث مستمر دؤوب من خلال مصاحبة العلماء سواءا من أهل العلوم الشرعية المؤطرة للحركة والفعل أو العلماء من أهل العلوم التطبيقية مثل ما يقدمه الفنان أحمد مصطفى. فالمعماري يجب أن يكون على صلة بباحثين في مجالات أخرى. مضيفا: “وما نقدمه من ترجمة الحركة الفكرية الموجودة والاشتباك معها نقدمه في المنتج المعماري”.
وفي هذه الحالة، تحدث عن نظرية الخط المنسب لابن مقلة ود. أحمد مصطفى الفنان المصري العالمي. الذي قضى 40 عاما لشرحها ويزداد توضيحا لمعاني وقيم جمالية وهندسية ليقدم ما نسميه نظرية الجمال في الإسلام. ويقول: “مصاحبتي له لمدة 10 سنوات حتى وقت المشروع ملئ وجداني وعقلي بأفكار معينة بمفهوم الهندسة والكون. وهذا ما خرج في تصميم مسجد باصونة”.
وأشار إلى أنه اعتمد على تصميم المسجد من تفصيلة تراثية في منزل مجاور. وفي نفس الوقت ليس تقليدا للعمل الحالي. والتنظيم الفراغي لمسجد باصونة نتج عن تفاعل الآتي، مطلقات شرعية كتوجيه القبلة ومطلقات كونية كالمحددات البيئية من مسار الشمس واتجاهات الرياح، والسياق العمراني والاجتماع البشري. لأنه موقع محدد يضم بجواره مقابر وطريق أثر على اتجاه المداخل واتجاهاته، والطريق العام ونوع الحركة واستخدام الدواب والأصوات والروائح”.
البرنامج المعماري
وعن التشكيل البصري لمسجد باصونة، فهو نتج عن تفاعل التراث العمراني والمعماري للصعيد ومصر ككل. السياق الأوسع للمشروع وتأثيره على فكر الشخص المصمم، ومصادر معرفية مثل تفسير أحمد مصطفى لنظرية الخط المنسوب، والمحددات البيئية النسبية كالاحتياج إلى التعامل مع الضوضاء والحرارة والإضاءة الطبيعية والأتربة والروائح الكريهة. ومحددات هندسية مثل خامات ونظم الإنشاء المناسبة ومحددات خطوات التنفيذ. إذ يعتمد التفكير في التخطيط من البداية لعدم استخدام معدات ضخمة أو أوناش نظرا لضيق الشارع المقابل للجامع.
ويتمثل البرنامج المعماري لمسجد باصونة، في إعادة المسجد إلى دوره التوحيدي الجامع للوظائف الشعائرية والتعليمية والمجتمعية والخدمية بشكل يسترجع الاستعمال المستدام على مدار اليوم. بالإضافة إلى توسيع دائرة المستعملين لتشمل فئات النساء. إذ لم يوجد مصلى النساء بمسجد الباصونة من قبل. مع إيجاد فراغ متعدد الأغراض يصلح لاستيعاب الزيادات الموسمية للمصلين في الجمع ورمضان ويستغل بقية العام لاستقبال الأنشطة التعليمية والطبية والخدمية للمسلمين وغيرهم.
ويتلخص موقف عرفه من التراث على مستوى العناصر المعمارية إلى استعمال عناصر تراثية سابقة لاستمرار صلاحيتها حتى الآن وتم تحقيقها في مسجد باصونة. من خلال قبة المدخل، والأبواب والمشربية الخشبية “المعقلي”. ومن المعروف أن حرارة الصيف تجعل الأخشاب تتمدد وقد تفقد وظيفتها. وبالنظر إلى العمارة المملوكية فإنها ما زالت باقية وهذا ما لجأ إلى تنفيذه في مسجد باصونة في إنشاء قبة المدخل والأبواب والمشربية الخشبية.
بالإضافة إلى استعمال عناصر ثقافية سابقة بتوظيف جديد، مثل المثلثات الكروية التي تم استعمالها كعناصر تغطية مستقلة ذات دلالات فلسفية ومميزات وظيفية كملافف هواء ومصادر إضاءة طبيعية. وهو عنصر موجود في كل المساجد القديمة، وتم إعادة توظيفه في مسجد باصونة.
قبة الحمد و«المعقلي»
والموقف الثالث هو التجديد في القبة المركزية. إذ تعد تفصيلة قبة الحمد في جامع باصونة هي ملخص بحثي لما وصل إليه بحث المعماري المصرية عن أجوبة لتلك التساؤلات. والقبة في حد ذاتها هي عنصر معماري قديم، ولذا فإن اختيارها لإعمال النظر في كيفية التجديد فيها وبها في حاضرنا، يؤسس لمستقبل قائم على التساؤل والبحث الواعي فالفعل المتحرر من صدمات المعرفة وردود الأفعال.
وجاء الإلهام من تفصيلة يربو عمرها على الثلاثة قرون في ركن بيت على ناصية مسارين متعامدين بحيث لا يصطدم السائر في أي من المسارين بالآخر. ويتجلى في تفصيلة أخرى أولويات ودوافع وطموحات المصمم والمستعمل المحليين، ولا يتعارض الصدق الشديد في مراعاتها الاحتياجات، وتأقلمها مع محددات وإمكانات المكان والزمان من اقتصاد وخامة وصنعة، مع قدرة هذه التفصيلة على توجيه كوني يفهمه ويتذوقه كل إنسان بغض النظر عن زمانه ومكانه وثقافته.
وحاول خلال تنفيذ قبة الحمد أن تحو نحو هذه التفصيلة العتيقة في البروز والتدرج في الربط بين الأرضي والسماوي، ومغازلة الشمس وتوليد الظلال. ويستطيع الإنسان البسيط التحقق من الظواهر الكونية شديدة التعقيد عبرها. ربما لا تسمح له ظروف الكد اليومي بالقراءة عنها في الكتب ولكن في المسجد يراها بفطرته، وكذلك في اعتمادها على وحدات بناء مصنوعة من رمال الصحراء والجير.
ويضيف: “ولأن تشكيل هذه القبة يتطلب من البناء أكثر مما تفره له خبراته السابقة. فقد كان لزاما علينا أن نضع حلولا تمكننا من عبور الفجوة بينمعرفة البناء وبين ما نطمح إليه”. بالإضافة إلى ابتكار فرجارا معدنيا يمكنهم من وضع كل وحدة بنائية من جملة 2240 وحدة في إحداثياتها الفراغية الدقيقة. بعد أن يتم تقطيعها من المقاسات الأصلية التي ينتجها المصنع، إلى مقاسات مخصصة حسب موضع كل منها. ثم تثقيبها بشكل منتظم لضمان تخلل المادة الرابطة للوحدات بشكل موازي لقطاع القبة الرأسي لزيادة التماسك وضمان عدم انزلاق أية وحدة من مكانها لحين وصول المادة الرابطة إلى كامل قوتها.
ويستكمل: “بالإضافة إلى تقويم التراث. فالحاضر للوصول إلى مستقبل أفضل لا يصح أن ينحصر في الممارسة المعمارية بل يجب أن يشمل التوعية المجتمعية، والتعليم المعماري والتأهيل الفني. فالممارسة المعمارية ثم النقد والنشر هي عملية تتم على مستويات ثلاثة: العلم، ثم الفكر، ثم الثقافة العامة”.
اقرأ أيضا
المهندس وليد عرفة: مسجد «باصونة» مجرد بداية.. و«أمحوتب» من أساتذتي