في زمن الثورة
فصول من كتاب عبلة الرويني الجديد «لا سمع ولا طاعة» (4)
على امتداد مشواري الصحفي الطويل، كانت «أخبار الأدب» جملة مضيئة ومنتصرة، مساحة من البراح والحرية. كتابة في أفق مفتوح، دون معوقات، دون ضغوط ولا صراعات.. ودون رقابة.
لم تكن «أخبار الأدب» منذ تأسيسها ١٩٩٣ مجرد جريدة أو مطبوعة ثقافية.. لكن مشروع ثقافي وطني تقدمي.. رؤية مستنيرة واضحة، تنحاز للإبداع الحقيقي، رؤية وعقل جمال الغيطاني مؤسس «أخبار الأدب» ورئيس تحريرها على مدى ١٧ عاما منذ إطلاقها (٢٠١١/١٩٩٣) وتلك أيضا مرونته في ضبط المسافة بين الثقافة والسلطة. رؤية تقدمية مستنيرة وواضحة، رغم صدورها عن مؤسسة «أخبار اليوم» اليمينية…لكن «أخبار اليوم» أيضا، وعلى امتداد تاريخها انحازت للفكر الحر المستنير، وقيم الثقافة والفن والإبداع.
** **
منذ الأعداد الأولى للجريدة، كنت المسئولة عن صفحات الثقافة العربية (من المحيط الى الخليج).. عنوان القسم الذي قمت بتحريره، وأحد ملامح ورؤية وهوية الجريدة، منذ بدايتها الى اليوم: التأكيد على البعد القومي والانفتاح والتواصل مع الثقافة العربية
** **
فاجئني حضورهم جميعا. كل محرري «أخبار الأدب» داخل مكتبي الصغير الضيق بالطابق الثامن بالمبني الصحفي لجريدة «الأخبار» اليومية.. جاءوا جميعا، لتأكيد قرارهم باختياري رئيسا لتحرير “أخبار الأدب” والتوقيع عليه.. كانوا جميعا يبتسمون.. فرحون بقوتهم على صياغة القرار، وقدرتهم على إحداث التغيير.. هي جملة مضيئة أخرى ومنتصرة، في لحظة تاريخية فارقة في مسيرة الجريدة. ومسيرة مصر كلها (زمن الثورة)..
كان اختياري رئيسا لتحرير أخبار الأدب (فبراير٢٠١١/ اغسطس٢٠١٢) تجسيدا رمزيا ساطعا لمعركة غير مسبوقة في تاريخ الصحافة المصرية خاضها محررو الجريدة، تعبيرا عن إرادتهم في صياغة جريدتهم كما يريدون، والمشاركة في وضع سياستها وتحديد رؤاها، معركة غير مسبوقة، جسدت اختلاف المناخ وتطور الوعي وقدرة الفعل على إحداث التغيير.. لتكون «أخبار الأدب» أول مطبوعة مصرية على امتداد تاريخ الصحافة، ينجح محرروها في عزل رئيس التحرير، والمجيء برئيس تحرير جديد من اختيارهم … هكذا وجدتني صباح ذات يوم، في جملة منتصرة.
ولأول مرة يأتي رئيس تحرير جريدة مصرية، دون المرور بداية على مكتب الأمن. دون تناول فنجان القهوة مع المسئول الأمني!!
لم يحدث أن رن الهاتف يوما أو تلقيت مكالمة واحدة من مسئول أمني، ولا أي جهة سيادية (كما كان يحدث سابقا).. لم يكن هناك ربما جهاز أمن الدولة، بعد أن تم اقتحامه وتمزيق الشرائط والتسجيلات المحتفظ بها، وتسريب بعضها في مشهد اختلط فيه الإخواني برجال الأمن، دون معرفة دقيقة لحقيقة الواقعة!
ومن حقي أن اتباهى أن فنجان القهوة الذي تناولته في أخبار الأدب، كان بيني وبين الزملاء محرري الجريدة.. حرصوا جميعا على استقبالي بالمزيد من العمل والمشاركة بحيوية واجتهاد، حرصا على إنجاح التجربة. تجربة فرض صوتهم وإرادتهم وإحداث التغيير.
** **
الكتابة في زمن الثورة. الكتابة من داخل ثورة، تعبر عنها، وتعبر بها.. أحد أوضح ملامح «أخبار الأدب» خلال ثورة يناير ٢٠١١. طريقة التفكير، الأسلوب، اللغة، حيوية الكتابة، إطلاق أقصى مساحة للخيال. الكثير من الثقة، والكثير من الطموح والحرية.
منحازون بوضوح منذ البداية، وليس بإمكاننا إلا أن نكون منحازين.. لا نتجاوز الواقع، ولا نغادر اللحظة. لم نقع في جريمة التحدث عن الزهور، بينما هناك بشر يقتلون.
تقدم (السياسي) بالتأكيد، دون أن يتأخر (الثقافي).. اكتسب مفهوم الثقافة والأدب معرفة أعمق، وارتباطا أشد بالواقع واللحظة وطموح التغيير.
«التغيير» عبارة ليست إنشائية.. لكن «فعل» و«موقف» بدا واضحا في تأثيرات متنوعة على سياسة الجريدة ورؤيتها… وكما كشفت الثورة تنوعا في فنون الأداء، واتساع مساحات الخيال، والانفتاح على ثقافات وفنون مختلفة.. اتسعت الرؤية الثقافية في الجريدة وتنوعت.. اتسعت الرؤى البصرية (بإضافات مبدعة لمحمد جمعة) وتضاعف الاهتمام بالصورة الفوتوغرافية والتجارب الإبداعية الجديدة، خارج الصور النمطية الثابتة والسائدة.
الحشود التي تحركت في الميدان، أعادت الاعتبار للفنون البصرية والأدائية والفنون الشفاهية. أعادت الاعتبار (للجمهور) حضوره وفاعليته..في مواجهة العزلة وفقدان الهمة و(القارئ) الوحيد، المشغول بذاته، حبيس الجدران المنعزلة..
اتسعت الرؤية الثقافية بالجريدة وتنوعت بالانفتاح على ثقافات مختلفة وفنون.. رؤي بصرية متمردة وجديدة: الجرافيتي، الكوميكس والفرق الغنائية الجماعية، أغاني المهرجانات والموسيقي الإليكترونية.. اهتمام خاص بالفوتوغرافيا وفن صناعة الغلاف.. اجتماع أسبوعي لصياغة شكل جديد وغلاف مبتكر باجتهادات الشاب أحمد سعيد. لدرجة أن غلاف الجريدة كان ينوه به أسبوعيا، عبر برامج «التوك شو» التليفزيونية.
نداءات الرحيل وهتافات وأغاني الميدان، حكم الجرافيتي والكتابة على الجدران.. يمحوها الأمن في المساء، ليعاود شباب الثورة في الصباح، كتابتها من جديد. أساليب لغوية جديدة فاعلة وإيجابية. فهم مختلف للكلمات والمعاني، يهز اللغة السلطوية السائدة، ويتحرر من إعادة إنتاج الكلام القديم.. عبر عنه أحمد وائل خلال ملف صادم وكاشف (لغة خارج أرض الوصاية)..
** **
«أخبار الأدب» جملة مضيئة بالفعل، في مناخ قادر على إطلاق الخيال والثقة والحرية. نقول ما نريد دون خوف ولا تردد.. مناخ قادر على البناء، فتح النوافذ وتجديد الهواء. قادر على الحوار وقبول الاختلاف..
ستون عاما على ثورة يوليو (٢٣ يوليو ٢٠١٢) تاريخا صالحا للاحتفال به داخل «أخبار الأدب». لكن عاصفة من الأسئلة القلقة والجدل الدائر وحروب الارتباكات.. أعادت صياغة صورة الحفل. صياغة الحوار وإعادة النظر والوعي بثقافة الاختلاف، والعمل في أفق مفتوح ومغاير.
ستون عاما على ثورة يوليو، وسط حالة من العداء والتربص والجفاء، والرغبة في إسقاط شرعيتها. الإخوان المسلمون يتصدرون الحكم وعداء علني لثورة يوليو!!..ثوار يناير يبحثون عن تأسيس شرعية تحتكر المشهد لحسابهم، في تقليد فرعوني قديم، يمحو الفرعون، كل فرعون سابق عليه..يمحو إنجازه وآثاره أو يسطو عليه.
ما كدت أبادر باقتراح (عدد خاص) عن ثورة يوليو حتى أعلن المحررون بالجريدة رفضهم.. البعض بالغ في الاستنكار، والبعض رفض المشاركة.. لم يكن عمرهم الصغير يعرف سنوات يوليو (هم المولودون جميعا في عصر مبارك) !!ومن هم أكبر كثيرا من أعمارهم أبدوا أيضا الدهشة لاحتفال الجريدة بيوليو.
في احتفالية مؤسسة نصر ابو زيد للدراسات الإسلامية.. أبدي د. جابر عصفور دهشته من تقديم عدد خاص عن يوليو، وتساءل ضاحكا (أي يوليو؟)!! بينما جاهر القاص سعيد الكفراوي ساخرا (ستكونين الصوت الوحيد بالجريدة المشغول بيوليو)!!
اعترض محمد شعير على عنوان (ثورتنا المصرية).. مؤكدا (يناير هي ثورتنا)!!
كان الحوار ممتدا ومتصاعدا بين شرعية يوليو وشرعية يناير. بين رؤيتين. ثورتين..وكان تمرد شباب المحررين على السائد والسابق، حتى لو كانت تاريخا وثورة.. وكنت أدافع عن استئناف الثورات وتطورها. لا تسقط ثورة ثورة أخرى.. ولا يسقط مبدأ مبدأ آخر..وأدافع بالتأكيد عن قيمة وقيم ثورة يوليو..
كان العدد الخاص (يوليو..الحلم مستمر) نموذجا ساطعا، لحرية وثراء الحوار وثقافة الاختلاف وعمق القيمة والمكانة والشرعية الراسخة لثورة يوليو.
** **
ضحك نائل الطوخي حين اقترح البعض في مجلس التحرير، ملفا عن الشعر الصيني!!…. لم يكمل عبارته (ما أبعد المسافة..) حتى كان اقتراح أحمد وائل ملف «الشعب خط أحمر» يحدد رؤية العدد القادم…١٤ فنانا فوتوغرافيا يرصدون ويوثقون الحكاية البصرية للثورة..
** **
بعد زيارة وزير الثقافة الفلسطيني الكاتب “يحيى يخلف” والوفد الثقافي المصاحب له لأخبار الأدب في (أغسطس ٢٠١١) .. كتب د. فيصل دراج ملاحظة أساسية حول اللقاء، مبديا دهشته، وربما تحفظه (أنهم جميعا يتكلمون في السياسة. السياسة محور تفكيرهم. أسئلتهم.. هاجسهم الأول.. حتى ضحكاتهم ممزوجة بالسياسة)!
وكان محقا بالتأكيد، فلم يكن بإمكان «أخبار الأدب» أن تكون معزولة داخل (نوعيتها) ولا محبوسة داخل(خصوصيتها).. هي المشروطة بواقعها ولحظتها التاريخية. حيث السؤال الثقافي مشتبك وفاعل ومؤثر… ولم يكن بإمكان «أخبار الأدب» أن تتحدث عن الزهور الجميلة، بينما هناك بشر يقتلون. رؤية تطابقت مع عبارة بريخت، ليشتبك الجمالي والثقافي بالسياسي. لا فارق بين الكاتب وواقعه، لا فارق بين محرري الجريدة وثوار الميدان..
حين سئل المخرج الفرنسي جان ماري سبيرو من هو الشاعر؟
قال: الشاعر هو من يشبه كاسترو.
اقرأ أيضا:
مغادرة البيت
الفئران المذعورة!
عشوائيات رقابية!