في ذكرى مولده.. “العرافة وعروس البحر” أسرار في حياة نجيب الريحاني
فنان من الطراز الأول يحمل داخله وجهي المسرح “الضاحك الباكي” من أعمدة المسرح في مصر في أوائل القرن العشرين، صاحب شخصية “كشكش بيه” التي كانت كما يذكر في مذكراته “وش السعد عليه” والتي كان يخرج منها ويعود إليها. له رصيد مسرحي كبير وكان له دور في المقاومة فترة الاحتلال الإنجليزي بمسرحياته التي كانت تحتوي على نقد سياسي ساخر في ذلك الوقت. إنه الفنان نجيب الريحاني الذي تحل ذكرى مولد ال١٢٨ اليوم.
أسس الريحاني فرقة تحمل اسمه، نجح من خلالها في فرض مدرسة وأسلوب في الأداء يطلق عليه السهل الممتنع، ولقب بأنه “زعيم الكوميديا” في عصره، ورغم أن رصيده السينمائي ليس كبيرا، لكن جميع أفلامه تعتبر من روائع الأعمال السينمائية في القرن الماضي منها “لعبة الست”، و”سي عمر”، و”سلامة في خير، و”غزل البنات” ولا زال يعيش هذا المبدع بيننا بفنه لتتأثر وتتعلم منه أجيال وأجيال.
ولد الفنان نجيب إلياس ريحانه، الشهير ب“نجيب الريحاني” في 21 يناير 1889 في حي باب الشعرية لأب عراقي وأم مصرية، وتزوج من الفنانة (بديعة مصابني) التي كانت تملك كازينو بديعة بميدان الأوبرا.
وكان يجيد الحديث باللغة الفرنسية، ومن أشهر مسرحياته: (30يوم في السجن) و(الدلوعة) و(الدنيا على كف عفريت) و(إلا خمسة)، ونافس بمسرحه كل من علي الكسار وفوزي الجزايرلي وأيضًا يوسف وهبي، وتوفي في 8 يونيو 1949 إثر إصابته بمرض التيفويد قبل تصوير المشهد الأخير من أخر أفلامه (غزل البنات).
في مذكرات الريحاني- الصادرة من مؤسسة هنداوي للطبع والنشر عام 2012والتي صدرت سابقاً من دار الهلال بعد وفاة الريحاني، التي كتبها بيده وكتب مقدمتها الفنان بديع خيري، الذي ذكر فيها كيف كان الريحاني يعشق فنه للدرجة جعلته يهجر وظيفته.
وفي عام 1942 يذكر خيري في المقدمة أن الريحاني نصحه الأطباء بأن يبتعد عن المسرح من أجل صحته لكنه قال “خيراً لي أن أقضي نحبي فوق المسرح من أن أموت على فراشي”.
أما الريحاني في مذكراته فكان أسلوبه البسيط الممتع، وكأنك تشاهده يتحدث أمامك في أحد أفلامه الكوميديه أو مسرحياته، فيذكر فيها كيف كانت بدايته وكيف لم تكون الطرق أمامه ممهدة فكان بين الصعود والهبوط وكيف أنه عمل موظفا في البنك الزراعي وتركه، ثم موظف في شركة “للسكر” وأيضاً تركها وذلك بسبب حبه للمسرح رغم علمه أن الطريق طويل حتى تعود عليه هذه الهواية بالأموال وتنقل بين الفرق المسرحية من فرقة جورج أبيض إلى فرقة عزيز عيد ثم أنشأ بعد ذلك فرقته الخاصة.
وذكر خلال المذكرات مجموعة من الأسرار التي قد لا يعرفها الكثيرين عن الريحاني منها حكاية العرافة، السيارة التي لم يركبها، و“كشكش بيه” وعلاقته بسيد درويش والإسكندرية.
حكاية “العرافة الفرنسية
من خلال المذكرات التي كتبها الريحاني بخط يده، يذكر أنه أثناء عمله عام 1913م كموظف بسيط في شركة السكر في نجع حمادي، كان لا يتقضى أكثر من 14 جنيها، ووصل إلى المدينة رجل أجنبي “يقوم بالتنويم المغناطيسي ” وزوجته الفرنسية المتخصصه والضليعة في علم قراءت الكف وهنا تمنى الريحاني أن تقرأ له السيدة الفرنسية طالعه، لكن لم يكن معه الثمن المطلوب.
ويقول الريحاني إنه ذهب مع “شلة” من الأصدقاء على حد تعبيره لحضور حفلة لهذا المنوم “وهنا أعلن المنوم أنه في نهاية الحفل سيوزع تذاكر “لوترية” ثمن الواحدة عشرون مليما، بينها تذكرة واحدة فائزة، والجائزة هي أن تقرأ زوجته الفرنسية في اليوم التالي الكف للفائز، هنا تذكر الريحاني أنه تمنى أن يحالفه الحظ بالتذكرة الفائزة.
لكن عند إعلان النتيجة كان الحظ نصيب زميله في الشركة واسمه عبد الكريم أفندي صدقي وعبر الريحاني عن هذا الموقف قائلاً بطريقة فكاهية “وبعد أن قمت بعملية « لعن سنسفيل » أبو الدهر القاسي والحظ العاثر، لم أجد بدا من الذهاب إلى عملي في الشركة كالمعتاد. فلقيني زميلي عبد الكريم صدقي ينعى حظه الذي (مش ولابد)”.
وهنا تبدل الأمر بالنسبة للريحاني فكيف ابتسم له الحظ؟
عندما أخبره صديقه أنه يجب أن يسافر في مأمورية لا تنتهي إلا بعد أسبوع والرجل وزوجته سيغادران اليوم التالي يقول الريحاني “وما إن سمعت هذه البشرى حتى قلت لنفسي جاك الفرج يا أبو النجب!!” وبالفعل أعطاه صديقه التذكره وقابل العرافة وهنا كان الأمر مفاجأة للريحاني ويقسم على ذلك أن السيدة أخبرته بأمور مضت في حياته بشكلاً تفصيلي
وقال عن ما أخبرته العرافة “لم يكن أمامي وقتها ما يبشر بصلاح الأحوال أو تبدل الأيام، ومع ذلك فقد قالت لي إن حياتي عبارة عن ضجة صاخبة، وأن أموالا كثيرة ستتداولها يدي، وأنني سأنتقل من فقر إلى غنى ومن غنى إلى فقر، ثم يعود الغنى، ثم … وهنا خانتني الذاكرة بكل أسف, إذ لست أعي تماما ما انتهى إليه تنبؤها، وهل أوصلتني في أخرياتي إلى هضاب الفقر المدقع، أم إلى وديان الثراء الممتع؟!
وبالفعل يؤكد الريحاني أن حياته سارت بعد ذلك على هذا المنوال وتحقق كثير من نبؤات العرافة
السيارة التي لم يركبها
وعلى طريقته “الطريفة” يخبر الريحاني القارىء عن سر اختص قراء مذكراته به وأحد أهم المخاوف في حياته التي لا يعرفها غير المقربون ولم يستطع مقوماتها واضعاً إياها تحت عنوان “أخاف السيارات”.
وهنا يكشف سبب هذه “الفوبيا” قائلاً “ولعل أحدا يتساءل عن السر في عدم اقتنائي السيارة؟ السبب أن هذه العرافة المدهشة تنبأت بأن هناك تصادما سيحدث لسيارة أكون فيها, ومع أنها ذكرت لي أن ربنا إن شاء لله، حايجيب العواقب سليمة إلا أنني خشيت من ذلك اليوم، فامتنعت بتاتا عن اقتناء سيارة لنفسي.
ويتابع “كما أنني اذا دعيت للركوب احدى سيارات الغير أو حتى “تاكسي “ أتوسل إلى السائق بكل عزيز لديه أن يرحم شباب العبد لله، وأن يسير على أقل من مهله، لأني مش مستعجل أبدا..!”, ويختم “ ولذلك أفضل دائما ركوب عربات الخيل، لا رفقا بالعربجية بل حرصا على حياتي الغالية! والحنطور فوقك يا أتومبيل!”
ممثل تراجيدي
أيضاً يكشف الريحاني في مذكراته أن الكثيرين عرفوه كممثل ورائد في المسرح “الكوميدي” لكنه يفصح عن سر وهو أنه بدأ ممثل تراجيدي وأنه يحب التراجيديا وقد دفعته الظروف بعد ذلك ليدخل ملعب الكوميديا وتكون هي سر شهرته وانتشاره
“كشكش بيه” ايقونة النجاح
كان لهذه الشخصية التي ابتكرها الريحاني ما يعادل تميمة النجاح والحظ في حياة الريحاني الفنية والمسرحيةو التي أعاد عرضها في حياته عدة مرات فبعد مراحل الإخفاق يأتي “كشكش بيه” ويعيد تميمة الحظ للريحاني.
حيث قال الريحاني أنه ابتكر شخصيَّة “كشكش” من خِلال تجارُبه مع عُمد الريف، فكثيرًا ما كان يلتقي بهم في أثناء عمله بالبنك الزراعي، عندما كانوا يترددون عليه لِلحُصول على قُروض، بعد فقدهم أموالهم أو تعرُّضهم للاحتيال في المدينة، على أن تُسدد القُروض بعد عودتهم إلى قُراهم أو تُقيَّد كدينٍ يُخصم من ثمن محصول السنة التالية، فخطر بباله أن يبتكر عُمدةً عجوز شهواني، محبوبٌ لِطيبته وسذاجته ومرحه وشغفه بالحياة، يرتدي الجبَّة والقفطان والعمامة، وفد حديثًا من الريف إلى القاهرة وبجُعبته الكثير من المال، فالتفَّ حوله فريقٌ من الحِسان أضعن ماله، وتركنه مُفلسًا، فيعود إلى قريته يعضُّ بنان الندم، ويُقسم أغلظ الأيمان بأن يعود إلى رُشده، وألَّا يعود إلى ارتكاب ما فعل. فهو إنسانٌ فيه براءة الريفيين وخفَّتهم الفطريَّة، وعلى الرُغم من مكره ودهائه إلَّا أنَّهُ بريءٌ من زيف المدينة وخداعها ونفاقها.
وهنا يقص كيف كانت أول مره واجه بها الريحاني “كشكش بيه” ويصف خوفه وجلوسه أمام المرأة ليصنع مكياج الشخصية بنفسه ونجحت هذه الشخصية نجاحاً ساحقا ووصف أنها جذبت إليه الجنس اللطيف واصبح مطمح الكثير من الزميلات على حد وصفه.
وبعد ذلك انطلق بهذه الشخصية ليعرضها في باريس وامريكا الجنوبية وفي لبنان وهناك التقى ب الراقصة “ببديعة مصابني” ونشأت بعد ذلك قصة حب بينهما ليتزوجها عام 1924.
سيد درويش وعروس البحر في حياة الريحاني الفنية
كان الريحاني دائم الزيارة للعروس البحر ويلتقي بأصدقائه وكان للقاء الريحاني بفنان الشعب الفنان السكندري الشيخ سيد درويش بما يمكن أن يوصف بلقاء السحاب فقد دخل نجيب منها مرحلة المسرح الغنائي الإستعراضي وكان للريحاني أيضاً الفضل في تفجير طاقة درويش الفنية في المسرح بتعاونه معه ووضع علاقته به في مذكراته تحت عنوان “نجاح متواصل“.
فقد كان نتاج هذا اللقاء مجموعة من الأعمال الابداعية منها ,مسرحية « ولو » والتي وضع فيها درويش لحن أغنية”الساقين” التي كتبها بديع خيري ودخل بعدها الريحاني مرحلة المسرح الوطني الذي ينتقد الأوضاع في مصر في ذلك والوقت والإحتلال ويستمر تعاون درويش مع الريحاني ليبدعوامسرحية ” العشرة الطيبة” والتي تم انتاجها عام 1920 “ويمكن للمحبي الاطلاع سماعها على اليوتيوب “وأيضا مسرحية”إش”.
ويذكر الريحاني عن عروس البحر أيضاً أنهاتفق مع ادارة كازينو سان ستيفانو بمحطة الرمل بعرض روايات قصيرة في كل مساء على المصيفين والرواد الكازينو من واتفقت مع إدارة من أجل أكل العيش يقول الريحاني”كان الايرادبسيطا على كل حال لكني في هذه الأوانه استطعت ان اتعرف على كثير من الكبراء أمثال حسين رشدي باشا وحلمي عيسى باشا وغيرهم من أكابر نزلاء الكازينو”.
كان الريحاني يعلم كيف كانت الإسكندرية في ذلك الوقت هي منارة ثقافية وفنية في مصر فقد أنشأ فيها مسرح يحمل اسمه بمنطقة كامب شيزار على الكورنيش، والذي هدم من بدايات الستينيات بعد أن أهمل أصابه التدهور، وشيدت مكانه مبنى سكني أسفله مقهى الريحاني الذي أراد صاحبه عام 1965 برواية العاملين في المقهى تخليد ذكرى الريحاني في مكان مسرحه حيث نجد على جميع جدران المقهى صور لنجيب الريحاني من أفلامه بالأبيض و أسود.
في حب الريحاني
بعد وفاة الريحاني عام 1949نشر الملك فاروق نعياً في الجريدة الرسمية “حيث قال انا احزن عندما تفقد بلاد رجل ممتازاً,وقد حزنت كثيراً بفقد نجيب الريحاني
وتكريماً لهذا الفنان العبقري، قام الفنان محمد صبحي في عام بإعادة انتاج “لعبة الست” الذي كان فيلم بطولة نجيب الريحاني وتحية كاريوكا إلى مسرحية قدمها برؤية فنية معاصره عام 2000م متقمصاً فيها شخصية الريحاني وصوته ولعبة دور البطله أمامه الفنانة سيمون.
ورغم أنه مر أكثر من نصف قرن على وفاة هذا الفنان المبدع الا أنه لازال يؤثر بفنه ومدرسته المسرحية في كثير من مشاهدي وفنانين الأجيال الماضية والحالية من الشباب فقد قامت ياسمين سراج- ماجيستير فنون جميلة شعبة فنون تعبيرية جامعة الإسكندرية- برسم بورتيرية للوجه الريحاني في آخر مشهد من آخر أفلامه “غزل البنات” وهو يضع يده على خده وينظر نظره عميقة ومعبرة.
وقالت سرور، معبرة عن حبها لهذا الفنان “لقد شدني جدا وجه هذا الفنان اثناء أدائه ,فكل عضله في وجهة تعبر وقد اخترت للرسم صورته في أخر افلامه “غزل البنات” وبالتحديد المشهد الأخير فقد قمت برسمها بطريقة digital panting”.
وتتابع “ورغم اني معصرتش نجيب الريحاني لكن بحس انه فنان لديه عمق وتلقائية و”الصوره ديه من اعز الصور التي رسمتها الى قلبي”.
ولا يزال هذا الفنان نهرا إبداعياً حتى بعد رحيله يستقي منه جيل بعد جيل.
3 تعليقات