في ذكرى رحيله.. القاهرة في عيون المقريزي
“كانت مصر هي مسقط رأسي وملعب أترابي ومجمع ناسي ومغنى عشرتي وحاميتي وموطن خاصتي وعامتي، وجوي الذي ربي جناحي في وكره وعش مأربي”، هكذا تحدث المقريزي عن القاهرة، فكتب عنها ولها، وأحيى معالمها، وجدد مآثرها وترجم أعيانها.
تحل علينا الذكرى الـ656 لرحيل المقريزي شيخ المؤرخين.. “باب مصر” يفتح صفحات القاهرة في تاريخه.
المقريزي
شيخًنا الجليل جابت سمعته في بلاد الشام وشبة الجزيرة، وعشق مصر ودون بها وعنها أعظم ما كتبت يداه، فلا يوجد وصف في مدرسة أو مسجد أو حمام بقاهرة المعز، إلا وكتبت كلمة أو وصف المقريزي، ولا يوجد باحث يبحث عن القاهرة الفاطمية أو المملوكية إلا ووجد ما يريد في مؤلفاته.
عرف المقريزي فن كتابة الخطط وهو نوع من الجغرافيا التاريخية الإقليمية، وكان هو ثمره لعاطفته تجاه مصر، وأوحت إليه بعد مثابرة وجلد وعناية، إلى توثيق تاريخ القاهرة والذي يبدو أنه قضي أعوامًا طويلة في البحث والدرس وجمع المذكرات والأخبار قبل أن تستقر في ذهنه تدوينها فهو يشير إلى ذلك بقوله.
فقيدت بخطي في الأعوام الكثيرة وجمعت من ذلك فوائد قل ما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها أهاب، إلا أنها ليست مرتبة على مثال ولا مهذبة بطريقة ما نسج على منوال، فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر
القاهرة وناسها
ولد ﺗﻘﻲ اﻟدﻳن أﺣﻣد بن ﻋﻠﻲ بن ﻋﺑداﻟﻘﺎدر بن ﻣﺣﻣد بن إﺑراﻫﻳم بن ﻣﺣﻣد المعروف باسم “تقي الدين المقريزي”، في حارة البرجوان بالقاهرة عام 1364م، بقسم الجمالية الحالي، وكان يعتز بانتسابه إلى حارته كثيرًا، فيقول: “وما برحنا ونحن شباب نفاخر بحارة برجوان سكان جميع حارات القاهرة”، لينشئ فيها ويخرج منها على ضواحي القاهرة، فعاش فيها صبيا ورصد تفاصيلها شابًا وأدخلها التاريخ كاهلا.
حصل المقريزي على مناصب كبيرة في الدولة المصرية منها، الحسبة والخطابة والإمامة، بالإضافة إلى إلقاء الدروس الدينية في جامع عمرو بن العاص، ليستفيد من احتكاكه بمختلف الطبقات في هذه الوظائف، بالإضافة إلى علمه بالتاريخ والأدب والفكر، فضلًا عن تلمذته على يد ابن خلدون، للتاريخ الاجتماعي، وعلاقة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالتاريخ، ليكون هو بعد ذلك التلميذ الذي تفوق على معلمه وقدم تطبيق لهذه النظرية في دراسات مختلفة.
وبعد سن الـ50 قرر المقريزي أن يهجر جميع المناصب ويتفرغ للبحث والكتابة، فهو لم يكتب بسبب طلب أمير أو سلطان، بل من وحي غرامه وعشقه لمصر، ليصبح قبلة الباحثين في مصر سواء عن آثارها أو ناسها.
كالشريط السينمائي المترابط أحداثة، جاء كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار”، المعروف بـ”الخطط المقريزية”، أول وأعظم ما كتبه عن مصر، فقد سبق به كل من حاول أن يصف مصر بعده وبات مرجعا لكل من يفعلها.
من أخلاق أهل مصر الإعراض عن النظر في العواقب، فلا تجدهم يدخرون عندهم زادًا كما هى عادة غيرهم من البلدان، بل بتناولون أغذية كل يوم من الأسواق بكرة وعشيًا، ومن أخلاقهم الإنهماك فى الشهوات والإمعان وكثرة الاستهتار واللامبالاة
“ذكر أخلاق أهل مصر والأسواق والميادين والمساجد والمدن والكنائس والآثار والمستشفيات وغيرها”، هي عناصر الخطط المقريزية عن مصر بشكل يرصد تطور مدينة القاهرة ووصفها بكل دقة بداية من شوارعها وحواريها ومعالمها وأخبارها ليعد بمثابة موسوعة تاريخية اجتماعية عن القاهرة، وشملت مؤلفاته تاريخ مصر السياسي والحضاري منذ عهد الفتح الإسلامي إلى عصر دولة المماليك البحرية والمماليك البرجية.
يوضح المقريزي غرضه من تأليف كتاب الخطط، ويقول عنه: “جمع ماتفرق من أخبار أرض مصر وأحوال سكانها”، فهو تناول جغرافية وتاريخ المدن والآثار المصرية بوصفا دقيقًا، وأخبار القاهرة وطرق المعيشة بأرجائها الواسعة، وتخلل الكتاب معلومات عن النظم السياسية والإدارية في مصر، مع تراجم موجزة لبعض الأعلام.
الطريقة الحولية
يعتبر شيخ مشايخ العصور الوسطي أهم مؤرخ في مصر الإسلامية، الذي كان يكتب بالطريقة الحولية أي تدوين ما يمر به من أحداث بشكل يومي، كما من يدون مذكراته، على الورق أو جلود بعض الحيوانات، ويتم جمع هذه المادة في النهاية داخل مخطوطات، التي تعني تلك المكتوبة بخط اليد، هكذا يحدثنا سامح الزهار، باحث في التراث الإسلامي والآثار القبطية والمصرية.
وتابع: للمقريزي أسلوب أدبي في الكتابة سواء عن الأماكن أو المباني، فعلى سبيل المثال تغزل في جامع السلطان حسن في ميدان القلعة، الذي يعتبر هرم العمارة الإسلامية في مصر، وقال: “لا يعرف في بلاد الإسلام معبد من بلاد المسلمين يحاكي هذا الجامع ولا قبته، والتي لم يبن في بلاد الشام أو العراق أو اليمن مثلها”.
أما عن وصفه للأشخاص يأتي في سياق اجتماعي، فيقول في إعجابه بالمنصور القلاوون في زمن المماليك البحرية، وقال: “كان جميل الصورة مهيبا، عريض المنكبين، قصير العنق، فصيحا بلغة الترك والقبجاق، قليل المعرفة بالعربية”.
يذكر خلدون خليل، في دراسة بعنوان “المقريزي ومنهجه”، أن للمقريزي روايات عديدة تخرج من الوصف إلى النقد والتحليل والوصول إلى النتائج والتصحيح، ووجه في خططه النقد للسلوكيات والسياسات الخاطئة للعباد، ونتائجها وسلبياتها على البلاد، كما ناقش الأخطاء التى وقع فيها أهل مصر في تحديد قبلة العديد من المساجد محللا أسباب هذه الأخطاء بطريقة فلكية جغرافية ويسوق من خلالها الأدلة والبراهين، ويقول في ذلك “هذا الأمر يدركه الحس ويشهد لصحته العيان”.
كما وجه نقدا مضمونة لاذعا للحال الذي وصلت إليه الصوفية وممارساتهم التى أفرغت التصوف من مضمونه، وقال في دراسة لخلدون خليل، بعنوان “المقرزي ومنهجه في الكتاب”.
قوم من المفتونين لبسوا ألبسة الصوفية لينسبوا إليهم وما هم منهم بشي، بل هم في غرور وغلط يسترون بلبسه الصوفية توقيا تارة ودعوة أخري وينتهجون مناهج أهل الإباحة ويزعمون أن ضمائرهم خلصت لله تعالي وأن هذا هو الظفر بالمراد، والارتسام بمراسم الشريعة
غمة الطاعون
عاش المقريزي في فترة حافلة بالأحداث، ودأب خلال كتابته للخطط على جعلها سجل للأحداث وليس مجرد سرد لها، مما جعله يتحدث عن المحن والكوارث والشدائد التي مرت بمصر، ومنها وباء الطاعون أو ما سماه المقريزي الموت الأسود في مصر، الذي أطاح بأرواح الآلاف من أهل مصر ومن ضمنها ابنته صاحبة الـ6 أعوام.
وذكر الدكتور عماد أبوغازي – في أحد اللقاءات التليفزيونية- أن المقريزي من شدة الحزن على ابنته ظل يومًا كاملًا يكتب ويخرج لنا رسالة “إغاثة الأمة في كشف الغمة”، وقسم في هذه الرسالة أهل مصر في عصره إلى 7 أقسام، هم: أهل الدولة من المماليك والمسيطرين على الدولة المصرية، وأهل اليسار من التجار، ومتوسطي الحال من الباعة والسوقة، وأهل الفلاحة، والفقهاء ويشملون طلاب العلم، وأرباب المصانع والمهن، وذوي الحاجة والمسكنة.
وقارن المقريزي في الرسالة بين المجاعات والأزمات الاقتصادية التي عاشتها مصر عبر القرون وبين أزمة العصر وصولا إلى أن أسباب الأزمة التي تعود إلى الفساد السياسي والإداري، ليقدم وصفة لعلاج الفساد الذي يسود المجتمع، ليكون بذلك أول تقرير لمحاربة الفساد في مصر، حسب وصف أبوغازي في مقال “تقي الدين المقريزي.. شيخ مؤرخي العصر الوسيط”.
ما أن أهل ذي القعدة عام 749 هجريًا إلا والقاهرة خالية مقفرة لا يُوجد في شوارعها مارٌّ حيثُ إنه يمر الإنسان من باب زويلة (جنوب القاهرة) إلى باب النصر (شمال القاهرة)، فلا يرى مَن يُزاحمه لكثرة الموتى، والاشتغال بهم، وعلت الأتربة على الطرقات، وتنكّرت وُجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح، لا تجدُ بيتا إلا وفيه صيحة، ولا تمر بشارع إلا وفيه عدّة أموات، وصارت النعوش لكثرتها تصطدم والأموات تختلط وبقيت الأزقة والدروب مما فيها من الدُّور المتعددة خالية
رسالة أخيرة
للمقريزي مؤلفات أخري عن مصر، منها: كتاب “درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة”، وهو معجم لتراجم الأعيان من معاصريه، وكتاب “اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الخلفاء” وهو تاريخ الدولة الفاطمية، وكتاب “الدرر المضيئة” في تاريخ الدولة الإسلامية، وكتاب “إمتاع الأسماع بما للرسول من الأنباء والأحوال والحفدة والمتاع”، وكتاب “نبذة العقود في أمور النقَود” يشتمل على تاريخ النقود العربية.
توفي المقريزي بالقاهرة في سن الـ80 من عمره، بحارة برجوان التي ولد بها، سنة 845 هـ 1442م، ودفن فى مقابر الصوفية أمام باب النصر، بعد أن أفنى عمره في العلم والتاريخ، فيقول عنه أحد المؤرخين الذين عاشوا بعده وهو شمس الدين السخاوي: “أشتغل كثيرًا وطاف على الشيوخ ولقي الكبار وجالس الأئمة فاخذ عنهم، وشارك في الفضائل وخلط بخطه الكثير، قال الشعر والنثر وأفاد وبلغت مجلداته نحو المائة”.
3 تعليقات