في ذكرى رجاء النقاش: عندما حاول العقاد تحطيم رأس الناقد الشاب
تمر اليوم الذكرى الخامسة عشر على رحيل الناقد الأدبي الكبير رجاء النقاش (1934-2008). أحد أهم صناع المجلات الثقافية في مصر والعالم العربي، ومكتشف العديد من الأصوات الأدبية الهامة مثل الطيب صالح، ومحمود درويش وأحمد عبدالمعطي حجازي. في ذكراه يستعيد «باب مصر» بعضا من معاركه الأدبية.. وربما كانت معركته مع العقاد من أشهرها.
في عام 1963 اكتشف الدكتور محمد مندور أن أنيس منصور سرق مسرحية من كاتب إنجليزي وترجمها ونسبها إلى نفسه. وكانت المسرحية هي “الأحياء المجاورة” وأنيس منصور ليس له فيها إلا الترجمة فقط. وكانت الصحف وقتها قد قامت بدعاية مفرطة للمسرحية حين قدمتها فرق مسرح التليفزيون للجمهور ممهورة بعبارة “بقلم أنيس منصور”.
وقالت الصحف إن الأستاذ أنيس منصور قد أحدث في عالم المسرح حدثا كبيرا بتأليفه لهذه المسرحية التي يقوم بعرضها ممثل واحد وممثلة واحدة، هما حمدي غيث وسناء جميل. واستهل أنيس منصور دعايته بأنه في حيرة في اختيار اسم لمولوده الجديد – المسرحية- وفي النهاية اختار لها اسم “الأحياء المجاورة” ليتضح للنقاد والمثقفين أن المسرحية ليست من تأليف أنيس منصور. وأنه لم يعان حتى مشقة ولادتها فهي مسرحية إنجليزية. وقد مثلت على الأوبرا في بلادها الأصلية. ثم تناولها السيد بدير قبل عشرين عاما وترجمها وأطلق عليها اسم جديد هو “من القاتل” في حين أن أنيس منصور الذي شغل الناس وقتها باختيار اسم لها لم يغير حتى من اسمها. فقد كان اسم المسرحية الأصلي هو أيضا “الأحياء المجاورة”.
وقد فضحه الناقد الكبير محمد مندور في مقال له بعنوان “في الصحافة وواجب الأمانة والاحترام نحو الجمهور”. وعاب مندور على الصحافة وقتها كتمان الحقيقة عن الجمهور والغريب أن سيد بدير لم يتكلم وقت عرض أنيس منصور المسرحية ونسبها إلى نفسه. وكان بدير هو المستشار الفني لمسرح التليفزيون وهو الذي ترجم المسرحية من سنوات وأعرف الناس بحقيقتها.
مسرح اللامعقول
أما فضيحة الفضائح في ذلك العام فحدثت عندما قام أحمد رجب بتأليف مسرحية ونسبها إلى المؤلف السويسري “فردريك دورينمات”. على أساس أنها من مسرح اللامعقول وتناولها بالتعليق والتحليل بعض النقاد دون أن يعرفوا أن مؤلفها الحقيقي هو أحمد رجب. ولم يكن هؤلاء النقاد سوى عبدالقادر القط، ورجاء النقاش، وعبدالفتاح البارودي وسعد أردش.
ونشرت مجلة الكواكب التفاصيل الكاملة لهذه الفضيحة في شهري مارس وإبريل 1963 وتناثرت وقائع تلك المعركة في كافة الصحف والمجلات حينئذ. وعندما أعلن أحمد رجب عن المؤامرة والتي وقع في براثنها النقاد الأربعة كتب كل منهم ردا حادا على أحمد رجب يدافعون به عن أنفسهم. إلا أن الدكتور عبدالقادر القط قد أخذ المعركة إلى سياق آخر تماما. فقد كتب مقالا في مجلة روزاليوسف بعنوان: “ليست فضيحة ولكنها محاولة للتخريب”. وأصر في المقال على أن أحمد رجب ليس هو مؤلف المسرحية. ولكنه اقتبسها من كاتب ألماني أو سويسري أو إنجليزي وتساءل لماذا نتهم النقاد بالغفلة ولا نتهم أحمد رجب بالكذب؟
وأكد القط أنه مازال عند رأيه في أن أحمد رجب لم يؤلف هذه المسرحية بل ترجمها أو ترجمت له. فما كان من رئيس تحرير مجلة الكواكب وقتها “سعد الدين توفيق” إلا إعلانه في المجلة عن جائزة قدرها عشرة آلاف جنيها لمن يأتي بأصل أجنبي لمسرحية “الهواء الأسود”. سواء كان الأصل منشورا في كتاب لأي كاتب من الكتاب الأجانب مسرحيا أو قصصيا سويسريا أو ألمانيا أو إنجليزيا أو هنديا أو صينيا. وأعلن أيضا بأنه يهيب بالدكتور عبدالقادر القط بأن يسعى بعلمه الغزير كأستاذ للأدب إلى نيل هذه الجائزة.
رجاء النقاش في مواجهة العقاد
كان لرجاء النقاش (1934- 2008) في هذه الفضيحة الحصة الوافرة من التعليقات والتي استمر يعاني منها سنوات طويلة. فقد كتب الأستاذ العقاد عدة مقالات في جريدة الأخبار تناول فيها فضيحة الهواء الأسود وتناول رجاء النقاش خاصة بثلاثة مقالات كاملة.
كان النقاش في ذلك الوقت لم يبلغ الثلاثين عاما، بينما العقاد كان قد جاوز الرابعة والسبعين عاما، فنحن إذن أمام جيلين مختلفين تماما. وقد انهال العقاد على رجاء محاولا تحطيم رأس هذا الفتى الذي كان على مشارف حياته الفكرية والصحفية.
بدأ العقاد بكتابة مقال بعنوان: “محكمة لمحاسبة المزيفين اللامعقولين”، كتب في مقاله: “قد وفق الكاتب الصحفي أحمد رجب إلى حملة ناجحة على أسلوب النقد اليدوي منذ أيام، فلفق رواية خنفشارية باسم الهواء الأسود ونسبها إلى مؤلف خنفشاري في إحدى الديار الأوربية. فاهتزت لها أعطاف النقاد المحترمين إعجابا وطربا وارتفعوا بها إلى قمم العبقرية فنا وأدبا. وقارنوا بينها وبين بدائع المنثور والمنظوم التي فاضت بها قريحة المؤلف المعدوم وهنأوا العربية بهذه التحفة النادرة من السحر المفهوم وغير المفهوم. ولو أمهلهم الصحفي الماكر أسبوعا واحدا لاحتدمت بينهم المعارك ودارت بينهم الدوائر فيما هو أفضل وأجمل من تلك الفصول والمناظر”.
ثم قال العقاد إن هؤلاء النقاد المحترمين أول من ينبغي أن يساق إلى محكمة التزييف لحماية الفكر الإنساني في هذه الأمة.
العقاد ينصح النقاش
كان حديث العقاد في مقاله الأول موجها للنقاد الأربعة بوجه عام ولم يذكر اسما فيه. ولكنه عاد في مقال ثان بعد أسبوع من مقاله الأول وكتب موجها حديثه لرجاء النقاش خاصة قائلا: “نصيحتي للسيد رجاء النقاش أن يتدارك نفسه في مستهل سيرته الأدبية لأنه وإن لم يكن صغيرا بالسن التي يدعيها- لم يجاوز الثلاثين- وهي سن تؤهله لابتداء سيرة جديدة واجتناب سيرة مقضية مدبرة لا فائدة الآن من الاستمرار عليها. نصيحتي للشاب الثلاثيني أن يتدارك نفسه في أمر العمل النقدي الذي يتولاه لأنه بحاجة إلى التدارك الشديد في أهم صفات الناقد وهما الأناة والتثبت مع الأمانة في النقل والتعليق”.
الطبعة الأولى
ويعود العقاد بعد أسبوع آخر ليفجر مفاجأة وهي أن رجاء النقاش قد اقتبس فقرات كاملة في كتابه “التماثيل المكسورة” من مقالات الغير. وقد كتب العقاد عن الكتاب فور صدوره عام 1963 مقالا بعنوان “نصيحة أخرى للسيد رجاء النقاش”. وكتب في المقال أن الكتاب به فقرات كاملة من مقالات نشرت عام 1949 في مجلة “الكتاب” وهي إحدى إصدارات دار المعارف. وقد كتب فيها عمالقة الفكر والأدب في ذلك الوقت والعقاد نفسه كان من أبرز كتابها.
ونشر العقاد العبارات من المجلة وكذلك العبارات من الكتاب وانتهى مقاله بنصيحة أخرى قائلا فيها: “فلا أزيد هنا على نصيحة أخرى أسديها إلى السيد النقاش وأترك له أن يجرد نفسه لوظيفة الناقد التي تصدى لها في الزمن الأخير ليصوغ بقلم الناقد حكمه على هذا التصرف أو يحسن تفسيره ما استطاع لأنه لا يستغنى عن تفسير. نصيحة لا نزيد فيها على التنبيه، فماذا في جعبة النقد البريء من ذخيرة التطاول على الناصحين؟”. كان هذا المقال في جريدة الأخبار بتاريخ 24 إبريل 1963.
ماذا يريد العقاد
لم ينتظر رجاء النقاش طويلا، فبعد يومين فقط وتحديدا يوم 26 إبريل كانت جريدة الأخبار تحمل مقالا هو الأعنف ربما لشاب ثلاثيني تجاه العقاد. وكان المقال بعنوان “ماذا يريد العقاد؟” نشره في صفحة الأدب وهي الصفحة التي كان يشرف عليها وقتئذ الدكتور علي الراعي.
يقول رجاء النقاش: “لم يعد عندي أدنى شك في أن العقاد يحمل في قلبه شيئا ما ضد حياتنا الأدبية. وقد أصبح هذا الشيء يحرمه من راحة القلب وهدوء البال، فهو لا يستطيع أن يعيش بدون أن يكون حوله عدد من الضحايا ونسبة عالية من الدماء المسفوكة. فهذا المنظر وحده هو الذي يرضيه. وهذا المنظر وحده هو الذي يشعره بجبروته وقوته.
ولكن حملات العقاد كثيرا ما تتحول إلى حرب في الهواء مثل حروب دون كيشوت الشهيرة.. وكثيرا ما يصبح العقاد أشبه بطفل شاذ لا يستطيع أن يشعر بوجوده إلا إذا كسر شيئا أو ضرب شخصا. وإذا لم يجد شيئا يكسره أو شخصا يضربه فلا بأس من أن يضرب نفسه لكي يرضى غريزة التدمير فيه”.
ثم يتابع النقاش في مقاله وتحت عنوان فرعي “فريسة جديدة”: “ويبدو أنني أصبحت في نظر العقاد فريسة جديدة يريد أن يسفك دمها أمام الناس ويقضي عليها. والحقيقة أنني أفخر بهذا الموقف فكراهية العقاد للناس وسام يعلقه كثير من أفاضل العلماء والأدباء في بلادنا على صدورهم”.
إدعاءات العقاد
ثم بدأ رجاء النقاش في تفنيد إدعاءات العقاد عليه بالسرقة في كتابه التماثيل المكسورة. بأن النصوص التي اقتبسها من مجلة الكتاب هي ترجمة من كتاب أوسكار وايلد. وقد اعتمد على الترجمة المنشورة في المجلة. من باب اختصار الوقت وبعد أن تأكد من دقتها ومطابقتها للأصل ولكنه كي لا يثقل القارئ بالهوامش. لم ينسب الترجمة إلى المترجم العربي الذي نشرها في مجلة الكتاب.
ويعود ويتساءل النقاش “أين السرقة؟” فمن حق صاحب الترجمة بالطبع أن يطالب بنسبة ترجمته إليه. ولكنها مسألة لا تستحق هذه الضجة التي يريد العقاد أن يثيرها. ويعترف رجاء النقاش أن الخطأ في سوء تقديره لقيمة الترجمة فلم يكن يتصور أن كل من يترجم كلمة يحرص على نسبتها إليه، وأنه مخطئ في هذا التقدير.
هجوم حاد
ثم يتحدى رجاء النقاش أن يعثر العقاد على كلمة واحدة أخرى في أي من كتبه الأخرى وهم أربعة كتب ويكتشف أنه أخذها من غيره ونسبها إلى نفسه. ثم يكتمل مقال رجاء النقاش بأكبر وأعنف وصلة هجوم على العقاد. فيقول: “وهو – أي العقاد- عدو لدود لحركة التجديد في الأدب والشيء الذي لا يغفره لي ولغيري هو أنني أحد أنصار الجديد في الشعر والمسرح والقصة. وهو عدو لدود لكل من يوجد في الحياة الأدبية. ثم لا يذهب إلى بيته للحج والركوع والسجود ولست واحدا من حجاجه ولا من الراكعين الساجدين ولن أكون.
ورغم أنني لاحظت في الشهور الأخيرة أن العقاد يحاول في كل مناسبة صغيرة أو كبيرة أن يسئ إلى كاتب هذه السطور. فأنني سأظل مدى حياتي أمسك بقلمي في حب واحترام لكل ما هو جدير بالحب والاحترام في بلادنا وهو كثير والحمدلله. وحسبي أنني في نهاية الأمر لم آكل خبزي من كتب الدعاية الأمريكية ولا من كتب الدعاية الإنجليزية أيام الحرب الثانية. ولم أتاجر بالسياسة ولا بمدح الملوك في أعياد القيام وأعياد الجلوس. وأنني لم أنشر في حياتي كتابا على حساب أحد الوجهاء السعوديين.. وهذا حسبي وليفعل العقاد بعد ذلك ما يشاء وليقذف بإساءاته ومغالطاته في وجه الجميع فلن يعطل هجومه على الناس سير الحياة”.
العقاد يرد
ورد العقاد على مقال رجاء النقاش ولكنه تجاهل كل الاتهامات التي وجهها النقاش له من كتب الدعاية للإنجليز ومديح الملك. ونشر كتب على حساب وجيه سعودي، وكل ما فعله العقاد هو تكرار الاتهامات السابقة والتي ذكرها في مقالاته عن النقاش. ولم يزد سوى التلميح عن سبب إعراض رجاء النقاش عن ندوة العقاد الأسبوعية.
فيقول: “أما ندوتنا يوم الجمعة فالسيد النقاش يعلم كما يعلم زوارها أنه لم ينقطع عن ندوة لنا باختياره. وهو لو كان أهلا لشهودها لوجد فيها من يعلمه شيئا غير هذه اللجاجة وهذا المحال. ولكنه زار الندوة مرات لغرض لم يصل إليه وانتهى به الأمر إلى اليأس منه”.
وبعد أقل من عام على هذه المعركة توفى عباس العقاد في مارس 1964. وكتب رجاء النقاش مقالا على صفحة كاملة في جريدة الجمهورية يعتذر فيه على الملأ. ويقول إنه أساء إلى العقاد وعكنن عليه شيخوخته وأنه كان مندفعا ولم يكن عنده مبررا لهذا الاندفاع إلا قسوة الأستاذ العقاد.
كتابات تافهة
ظل حادث مؤامرة أحمد رجب والفخ الذي وقع فيه رجاء النقاش يلاحقه سنوات. ففي عام 1968 كتب رجاء النقاش مقالا في مجلة المصور يتساءل فيه “هل نجيب محفوظ عقبة في سبيل الرواية العربية”. وكان يكرر ويعيد للأذهان ما فعله فتحي غانم حينما كتب عام 1954 سلسلة مقالات بعنوان: “طه حسين عقبة في طريق القصة”.
اتهم رجاء النقاش نجيب محفوظ بأنه عقبة في طريق صغار الكتاب والروائيين. فتصدى له الكاتب “صالح مرسي” في مجلة صباح الخير. وكتب أن نجيب محفوظ لا يمكن أن يكون عقبة. ولكن هناك عقبات كثيرة ومنها النقاد أنفسهم ومنهم رجاء النقاش لأنهم لا يقرؤون الإنتاج الأدبي الحديث بانتظام.
وعند احتدام الجدال بينهما وصف رجاء النقاش كتابات صالح مرسي بـ”التافهة” لذلك لا يقرأها. فذّكره مرسي بما حدث له مع أحمد رجب من سنوات. وكيف أن رجاء النقاش يمكن أن يكتب فيما لا يعلم بدليل ما حدث له مع مقلب أحمد رجب.
لماذا هاجمك العقاد؟
وبعد سنوات تحدث النقاش في حوار مع مجلة الشرطة أجراه “عبدالمنعم معوض” ونشر عام 1989. وحكى عن خلافه مع العقاد، وردا على سؤال لماذا هاجمك العقاد. أجاب رجاء النقاش: أبدا كان الأستاذ العقاد يعقد ندوة كل يوم جمعة يذهب إليها كل الأدباء والصحفيين والمهتمين بصفحة الأدب. ولكنني لم أذهب إليها فاعتبرني لا أهتم به ولا أخفي عليك أن هناك أيضا من كان يملأ الأستاذ العقاد ضدي ولكنني لم أسكت على هجومه رددت بأعنف مما كتب. فأنا أعلم أنه كاتب عملاق وأنا على بداية الطريق ومقالاته هذه قد تدمرني.
ويذكر النقاش في حواره أنه قبل معركته بالعقاد كان قد زاره بصحبة سعدالدين وهبة وعاد من تلك الزيارة. وكتب مقالا بعنوان: “نصف ساعة في بيت العقاد” تحدث فيه بانبهار شديد عن العقاد. وبعد سنوات من وفاة العقاد كتب رجاء النقاش دراسة من أهم الدراسات العربية عن العقاد. وهي: “العقاد بين اليمين واليسار” كتبها بموضوعية شديدة بعيدا عن العداء السابق بينهما.