في دراما رمضان: تمثيل الشارع وتمثيل ورق الحائط!

نظرة سريعة على مسلسلات رمضان يمكن أن تظهر لنا العلاقة بين اختيار مكان التصوير وأداء الممثلين. في الأعمال التي تعتمد على الديكورات، خاصة حين تكون ديكورات صاخبة، فجة، وبادية الاصطناع، يأتي التمثيل صاخبا، فجا، وبادي الافتعال. يمكنك أن تراجع أعمالا مثل “حكيم باشا”، “سيد الناس” و”شباب امرأة”. وعلى العكس عندما ينزل الممثلون إلى الشارع، ليؤدوا على بعد خطوات من الناس العاديين، يأتي أدائهم طبيعيا، واقعيا، دون جهد أو حزق يذكر. يمكن أن تراجع “ظلم المصطبة”، “80 باكو” أو “ولاد الشمس”.
صناعة البيئة
ليس معنى ذلك أن التصوير في الاستوديوهات خطأ، أو أن التصوير في الشارع يؤدي بالضرورة إلى تمثيل جيد، لإن الأمر، في الأول والآخر، يتوقف على موهبة وامكانيات المخرج ووجهة نظره بشكل عام، وكل عمل يقوم بإخراجه على حدة. ما أقصده أن الممثل يتأثر ويتشكل عادة وفقا للبيئة المحيطة به، والتي تتكون من المكان والديكور والملابس والاضاءة وتوجيهات المخرج وبقية زملاءه، وقبل ذلك السيناريو الذي يفترض أنه البذرة التي تحمل داخلها نوع وجينات وصفات النبتة التي ستتحول إلى فيلم أو مسلسل أو مسرحية. هذا افتراض نظري بالطبع لإننا نعلم أن هناك سيناريوهات ليس بها أي بذرة، وأن البذرة الصالحة إذا وقعت في يد بستاني جاهل أو أحمق قد تموت أو تفسد. الفن أكثر تركيبا وتعقيدا. قد يكون السيناريو ركيكا أو متواضعا، ولكن المخرج “يخلّق” منه عملا جيدا. وكلمة “يخلّق” هنا بديل عن كلمة conceive الانجليزية التي تعني يتصور أو يحبل، لذلك نعتبر المخرج هو صانع العمل الرئيسي.
***
خذ عندك مثلا مسلسل “قلبي ومفتاحه”. على الورق يبدو هشا للغاية. مجرد فكرة غامضة. ولكن المخرج تامر محسن بث فيه الحياة من خلال عنصرين: اختيار أماكن التصوير والممثلين. معظم الأماكن في قلب القاهرة الشعبية والأداء التمثيلي طبيعي بقدر الإمكان. أما العناصر الخيالية “الميلودرامية” في النص (فكرة “المحلل” المستقاة من الأفلام القديمة، قصة الحب العجيبة التي تربط البطلين، ويوازيها قصة حب بائع الفول لوالدة رجل العصابات، والمصادفات المتتالية التي تقود الدراما)، فقد تعامل تامر محسن مع هذه العناصر باعتبارها جزءًا “واقعيًا” بالفعل من حياتنا، صنعته الأفلام وتأثيرها في الناس.
ولذلك حملت كل حلقة اسم فيلم أو أغنية من كلاسيكيات السينما المصرية، وفوق ذلك نثر في كل ركن من أركان المسلسل مقطعا من أغنية أو موسيقى أغنية من هذه الكلاسيكيات، وعلى رأسها “قلبي ومفتاحه”. هذه الرومانتيكية الكامنة داخل الواقع، وداخل حياة الناس القاسية، هي موضوع المسلسل الحقيقي، ولذلك مس حتى الذين يتهكمون على عناصره غير الواقعية. المكان والأداء التمثيلي المرتبط بالمكان هما مفتاح قلب المسلسل، ولولاهما لانهار مثل بيت من ورق.
بين العتاولة والمصطبة
لنضرب مثلا آخر من مسلسلي “العتاولة” و”ظلم المصطبة”. على الورق يتشابه العالمان. في الحقيقة شخصيات “ظلم المصطبة” يتقافزون في معظم المسلسلات، خاصة في “العتاولة”: مجرمون محليون، بينهما شقيقان، يتصارعون على الغنائم والنساء، واحد في الأسكندرية والثاني في دمنهور، وعلى بعد حوالي 700 كم جنوبا، في الصعيد، تدور قصة مشابهة في “حكيم باشا”. مع منتج “تجاري” ومخرج “ميلودراماتيكي” مثل محمد سامي، كان يمكن لـ”ظلم المصطبة” أن يكون نسخة باهتة من فاجعتي “العتاولة” و”حكيم باشا” أو حتى فاجعتي “سيد الناس” و”فهد البطل”. ربما يبدو غريبا إذا قلت أن الفارق الأساسي هو اختيار الأماكن وأداء الممثلين.
إن قرار ترك ستوديوهات “مدينة السينما” و”النحاس” المتهالكة، وستوديوهات “مدينة الانتاج” المبتذلة، والسفر بالفعل إلى دمنهور لمعايشة أهل المدينة الريفية والاستماع إلى لهجتهم ومشاهدة بيوتهم وملابسهم وسياراتهم وتفاصيل حياتهم ترك أثره على الممثلين وأدائهم. وكون البذرة موجودة بالفعل في القصة الأصلية التي كتبها أحمد فوزي صالح كان يمكن أن تفسد تماما مع منتج آخر ومخرج آخر. وأتصور أن هذا الصراع بين وجهتي النظر (الواقعية ضد الميلودراما) هو سبب الخلافات التي أدت إلى تعاقب كتاب السيناريو، وانسحاب المخرج هاني خليفة ليحل محله محمد علي.
هذه الخلافات انعكست على العمل فلم يأت كله “مياه واحدة” كما يقولون. هناك حلقات ضعيفة تحمل آثار المسلسلات المشابهة: مطاردات ومعارك ونصاب متلون الوجوه وابن بلد طيب يضرب البطل ثم يحبه عندما يرفض الابلاغ عنه، وأحداث غير منطقية مثل عدم معرفة البطلين بأن غريمهما حي، رغم أنهما يتواصلان مع أهليهما طوال الوقت. ما يرفع العمل، ويجعلنا نتغاضى عن أخطاءه الكثيرة، هو المصداقية الناجمة عن تفاصيل المكان وأداء الممثلين.
***
بالمناسبة لست ضد “العتاولة”. هو عمل “شعبي” بامتياز. ومصطلح “شعبي” هنا بمعنى “النوع” أو “الجنس الفني”. النوع الشعبي يختلف تماما عن الواقعي. عنترة وأبو زيد وأبطال ألف ليلة ليسوا واقعيين. النوع الشعبي يعج بالمبالغات في رسم الشخصيات والسرد غير المنطقي والأحداث الخارقة والكلام المسجوع الموشى بالحكم الساذجة والشتائم والألفاظ “النابية”. ويتسم “العتاولة”، مثل الأعمال الشعبية، بالارتجال والخروج على النص وكسر الايهام وعدم الخجل من كل ما سبق!
في هذه الأعمال يستحيل أن تجد أداءً تمثيليا واقعيا. الـ”أفورة” والصراخ ولوي الشفاه وترقيص الحواجب وقصع الخصور و”الردح” (ردح ردحا أي بسط وفرد، وردّاحة يعني ضخمة الردفين والوركين).. راجع مقاييس نساء “العتاولة” و”فهد البطل” و”شباب امرأة”! في هذه الأعمال أيضا يستحيل أن تجد أماكن أو ديكورات واقعية. يصور “العتاولة” بحر الأسكندرية، بالقرب من ديكور موقع التصوير المبني بالكامل، وبعض لقطات الـ”درون” العلوية، ولكنه لا يجرؤ على الذهاب بالكاميرا إلى قلب ميادين وأحياء الأسكندرية الشعبية. من شأن هذا أن يربك الممثلين ويلخبط أداءهم ويعكر ماكياج وجوههم.
احتضان الفشل
بالطبع هذه المبالغات تفقد الأعمال “الشعبية” قطاعات من الجمهور، خاصة ضمن الفئات المحافظة من البورجوازية المتعلمة المتزمتة. هؤلاء يكفيهم “جودر” ولكنهم لا يجرؤون على قراءة “ألف ليلة..” الأصلية! ولكن هذه الأعمال “الشعبية” تنجح عندما تحتضن لا واقعيتها وتفشل عندما يصدق صناعها، أو يزعمون، أنهم “واقعيون”. “حكيم باشا” و”سيد الناس” نموذجان للادعاء الذي يتجلى في الديكورات الفخمة بشكل يخاصم المنطق، والتمثيل الزاعق الحازق، الذي يأخذ نفسه على محمل الجد! وينطبق الأمر نفسه على “شباب امرأة”. ملابس مهرجين وماكياج بلياتشو في ديكورات مسرحية مبتذلة، وممثلون في النزع الأخير من التقمص، يعتقدون أنهم يمثلون، ولو أنهم فهموا الفولة وأخذوا الأمر على محمل التهريج لأراحوا أنفسهم وأراحونا.
شعرة السخرية
لنضرب مثلا أخيرا: يتشابه “80 باكو” و”إخواتي” في كونهما مسلسلان نسائيان الأول عن أربع عاملات في كوافير والثاني عن أربع أخوات. يميل “80 باكو” أكثر إلى الواقعية في رسم شخصياته وسرده وخطوطه الدرامية، ويتجلى ذلك في الأماكن الحقيقية التي تصور فيها الأحداث بين ميادين وأحياء وشقق وسط البلد، وتفاصيل العمل والحياة داخل محل الكوافير وبيوت البنات، وهو ما ينعكس بالتالي على أداء الممثلين الطبيعي. وهناك علاقة ممتدة بين المكان والأداء التمثيلي وسيناريو غادة عبد العال وإخراج كوثر يونس، وكلتاهما مهتمتان بالتعبير عن بنات جيلهما، وملاحظة الواقع. ولعل أسوأ حلقة في المسلسل هي الرابعة التي جنح فيها التمثيل إلى الكوميدي “الفارص” بما لا يتفق مع بقية العمل.
على النقيض يميل “إخواتي” إلى الخيال أكثر، بداية بحبكته التي تبدأ بقتل زوج الأخت الصغرى ووضعه في ثلاجة المطبخ، وخطوطه التي تمتلئ بقصص العصابات وتهريب الآثار وحقائب الألماس والدولارات. ويظهر ذلك بدوره في اختيار أماكن التصوير التي تضم قليلا من الأماكن الخارجية الواقعية وكثيرا من الديكورات الشبيهة بورق الحائط في مقدمة المسلسل. وهو أمر ينعكس على أداء الممثلات والممثلين الذي يجنح إلى المبالغة الكوميدية قليلا. ومثل “قلبي ومفتاحه” يعتمد المخرج محمد شاكر خضير على الموسيقى والأغاني بكثافة لخلق المزاج الفانتازي الكوميدي للعمل. هذا المزاج الذي يساعد على تقبل أكثر الأشياء غرابة.
التمثيل الطبقي!
مرة أخرى: لا يعني ذلك أن التصوير في الاستوديوهات أقل شأنا من التصوير في الشارع، ولكن يعني أن اختيار المكان عنصر بالغ الأهمية حين يفهم المخرج طبيعته وتأثيره على الممثلين. خلق الاحساس بالواقع يمكن أن يتحقق أيضا في الاستوديو مع مصمم مناظر بارع ومخرج يعرف كيف يهيئ البيئة المناسبة للممثلين ويجيد توجيههم. على أية حال أخذنا الكلام عن الفارق بين التصوير في الشوارع والتصوير في الاستوديوهات، ولم نجد وقتا للتطرق إلى التصوير في “الكومباوندات”، حيث ينخفض صوت الممثلين ويقل ماكياجهم مقارنة بالاستوديوهات، ولكن حيث تشيع تعبيرات الوجه والجسد المصطنعة والابتسامات الواسعة بلا داعٍ، ودموع الجلسرين، وثقل الدم الناتج عن برودة وطبقية المكان.
اقرا أيضا:
مذكرات «النٌص» التي ضيعتها الوطنية!
في «لام شمسية»: هل أنت منزعج؟ حسنا هذا هو المطلوب!