في«تونا الجبل».. وقائع قصة عشق بين العميد و«إيزادورا»
تقع في منطقة تونا الجبل الأثرية بمحافظة المنيا.. جبانة لا تنضب نتابع اكتشافاتها المتواصلة سنويا منذ ما يقرب من مائة عام.
في هذه الجبانة اكتشف عالم الآثار الشهير سامي جبرة عام 1931 قبر «إيزيدور»، وهي فتاة عاشت منذ ما يقرب من ألفي عام في هذه المنطقة الثرية وشاء حظها العاثر أن تغرق في النيل وكان المصريون وقتها يؤلهون من يموت غريقا.
قام والدها ببناء مقبرة لها تتكون من درج يقود لغرفتين، الأولى خصصت لاستقبال الزائرين والثانية تقبع بها موميائها الممددة على سرير في هيئة مصرية قديمة، وعلي مدخل القبر كتب والدها أشعارا باليونانية، تعتبر من أروع نصوص الرثاء والوداع، ذكر فيها أن إله النيل ذاته هو الذي اختار مكان قبرها، وقامت بناته وأبنائه ببناء القبر، ويضيف والدها بأن ابنته إيزيدورا لم تعد في حاجة للصلاة أو القرابين، فقد صارت بعد غرقها إلهة تحمل اسم «زنبقة النيل».
هنا وفي هذه الحجرة اعتاد عميد الأدب العربي أن يحرق البخور لفتاته إيزيدورا، بل وطلب من صديقه باريز مهندس الآثار المصرية أن يبنى له بيتا عرف باسم «السرايا» ويظهر طه حسين وسامي جبره وهما جالسان أمام المنزل ويظهر دوما أمامهما «كتاب لوفيفر» العالم الفرنسي عن نصوص ومقبرة كاهن جحوتى بتوزيريس، والذي تعد نصوص حكمته ونصائحه الأخلاقية التي حوتها مقبرته من أهم النصوص الأدبية والدينية في مصر القديمة.
رب الحكمة
تلك النصوص هي التي شكلت لدى طه حسين وسامي جبرة ولعا بالنصوص الهرمسية القديمة، وما تحمله من حكمة، وقد ترجمت هذه النصوص إلى اليونانية ومازالت حتى يومنا هذا مصدرا أساسيا لمن يتبعون فكر هرميس وهو تحوت رب الحكمة في مصر القديمة، بل يمكننا القول بأن تونا الجبل شهدت تكتلا لعلماء المصريات المهتمين بالروحانيات المصرية القديمة. وقد ضم هذا التكتل أو المجموعة عددا آخر من علماء المصريات أمثال ألكسندر فاريل وشفالير دى لوبيش.
كانت علاقة طه حسين بصديقه عالم الآثار سامي جبرة علاقة قوية دفعت بعض الكتاب أن يتصوروا أن زوجة سامي جبرة الفرنسية كانت أختا لسوزان زوجة العميد، وهو أمر غير حقيقي بالمرة وكان السبب في هذا الاعتقاد هو الصداقة القوية التي ربطت بين الأديب ورجل الآثار.. وقد كان طه حسين خلال عمادته لكلية الآداب مشرفا أيضا على حفائر الجامعة في «تونا الجبل» وفي الأشمونين تحت قيادة محرم كمال وفي منطقة الأهرامات تحت قيادة عالمنا المصري الدكتور سليم حسن.. وألحق طه حسين تلميذه الوفي والأثري الشهير أحمد بدوي بحفائر تونا الجبل وهو الذي صار بعد سنوات رئيسا لجامعة القاهرة.
إنقاذ نفرتاري
شهدت مصلحة الآثار اهتماما غير عاديا حين تولى طه حسين وزارة التعليم والمعارف، فكثرت البعثات الأثرية التي يقودها مصريون وضاعف من عدد العاملين والمفتشين المصريين الذين تولوا رئاسة المناطق الأثرية والتي كانت من قبل حكرا على الأجانب بل ويمكننا أن نقول إن أعظم علماء المصريات دفع بهم طه حسين وشجعهم ودافع عنهم ونذكر منهم على سبيل المثال العلماء أحمد بدوي وأحمد فخري ولبيب حبشي وهنري رياض وقد ذكر لي مرارا الدكتور هنري رياض بأن طه حسين كعميد لكلية الآداب وكوزير للمعارف هو المصر الحقيقي لعلم الآثار وقد سار على دربه ضباط ثورة 23 يوليو ليمصروها بالكامل بعد عام 1952.
خلال تولى طه حسين لوزارة المعارف عام 1949 كتب له مرمم الآثار ستولير يشكو حال مقبرة نفرتاري زوجة رمسيس الثاني بوادي الملكات والتي تعتبر درة المقابر المصرية.. فقام طه حسين على الفور بتخصيص مبلغا كبيرا لإنقاذها ويمكننا القول بأن أعمال الترميم والتقوية التي تمت وقتها كانت السبب الرئيسي في الحفاظ عليها حتى اكتملت عملية ترميمها عام 1990.
لقد عشق عميد الأدب العربي إيزيدورا ولم يتردد لحظة في إنقاذ مقبرة نفرتاري جميلة الجميلات.. لقد منعه بصره من رؤية جمال أثار مصر ولكنه أدرك ببصيرته أهمية الحفاظ عليه.
*مؤرخ وباحث في الآثار
اقرأ أيضا
تعليق واحد