«فؤاد الشامي» ملك الظلام يعود من جديد
في الثالث والعشرين من مايو عام 1936، كانت الصفحات الأولى من الصحف والمجلات في مصر تتحدث عن جريمة الموسم «جريمة البوسفور الوحشية» حسبما وصفتها العناوين التى توالت: «راقصة تذبح في ملهى عام لرفضها دفع الضريبة للفتوات»، «عصابات عماد الدين تنافس عصابات شيكاجو»، «مصرع الراقصة الحسناء البريئة». ما هى تفاصيل هذه القصة المثيرة؟ ومن أطرافها؟
هذه الفترة من القرن العشرين كان لكل حي من أحياء القاهرة فتوة. ومن الأسماء المشهورة وقتها “إبراهيم عطية” فتوة الحسينية، وعبده الجباس فتوة عابدين وحارة السقايين، وكان أكثر هؤلاء يديرون مقاهي في القاهرة ويفرضون إتاوات على أهل الحي الذين يعيشون فيه.
قاهرة الفتوات
ظهر في هذه الأجواء “فؤاد الشامي” وأصبح ملك الظلام ، وإمبراطور الخطيئة، بلطجي الصالات، أنه الرجل الذي حكم القاهرة برقبة زجاجة. وكانت الراقصة امتثال فوزي في ذلك الوقت قد بلغت شهرة كبيرة وشاركت “ماري منصور” في صالتها بشارع عماد الدين، وهو كازينو البوسفور.
وقد افتتحت صالتها الجديدة في الثاني من مايو عام 1936. فذهب إليها فؤاد الشامي عارضا عليها الحماية، ولكنها رفضت وطردته هو وأعوانه من الصالة وحاولت العصابة الاعتداء عليها أكثر من مرة وأبلغت هي بدورها قسم الأزبكية عن تلك المحاولات.
مقتل امتثال فوزي
جاء يوم 22 مايو وهو اليوم الذي اعتدى عليها أحد أفراد عصابة الشامي ويسمى “حسين إبراهيم حسن ” الشهير بحسين “الزلمكة”. وكان القتل بالضرب بزجاجة مكسورة في رقبتها فسقطت وفارقت الحياة.
حوكم أفراد العصابة وحكم على فؤاد الشامي وحسين إبراهيم حسن بالأشغال الشاقة المؤبدة. وتمر الأيام والسنوات ويأتي يوم الإفراج عن إمبراطور الليل وكان ذلك في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر عام 1954. وكان خروج الشامي من السجن حدثا له صداه في الأوساط الصحفية. وهنا يجب أن نوضح ونصحح معلومة شائعة عن فؤاد الشامي وهى أن الشامي أفرج عنه عام 1957 وهذه معلومة تنفيها التحقيقات الصحفية التي أعقبت لحظة الإفراج عنه في نوفمبر 1954. إذن أمضى فؤاد الشامي ثماني عشر عاما متنقلا بين ليمان طره وليمان أبي زعبل. أمضى سنوات السجن في تحطيم الحجارة بعد أن أمضى سنوات عديدة في تحطيم المحال التجارية والملاهي الليلية والمقاهي التي كان يمتنع أصحابها عن دفع الإتاوات. وقد خرج فؤاد الشامي من الليمان رجلا آخر يختلف كل الاختلاف عن اليوم الذي دخل فيه السجن.
أنه يعترف بأنه كان شريرا قاسيا متحجر القلب لا يعرف الرأفة ولا الرحمة في سبيل المال. وكانت أول رغبة أبداها وحش الليل بعد خروجه من السجن هي أن يزور كازينو البوسفور.. المسرح الذي ارتكب فيه آخر جرائمه.
حياة مختلفة
ولأول مرة في حياة فؤاد الشامي يراه الناس يدخل كازينو من الباب كما يدخل جميع الناس. فيقف أمام عاملة الشباك ليدفع ثمن التذكرة كما يدخل جميع الناس. وتطلعت إليه عاملة الشباك وأعطته التذكرة دون أن يخطر ببالها أن هذا الرجل هو فؤاد الشامي، الذي كان يروع مدينة القاهرة كلما خيم عليه الظلام.
قدم فؤاد الشامي التذكرة لعامل الباب ونظر ببصره في أنحاء الصالة فلم يعرفه أو يلتفت إليه أحد فالزمان أصبح غير الزمان. فاختار مكانا على إحدى الموائد وجلس إليه يرقب ما يدور على المسرح وما يدور في الصالة وهو ذاهل.
كل شيء قد تغير حتى وجوه الراقصات والزبائن والجرسونات وظل ينظر ببصره مرة أخرى لعله يعثر على زميل قديم له من البلطجية. فلم يجد أحدا ولم يعرفه في الصالة سوى عازف البيانو “محمد الدبس”، الذي أسرع نحوه وأخذ يعانقه بحرارة وقد كان محمد الدبس أحد الشهود الذين شهدوا ضده أثناء محاكمته.
استعادة الذكريات
خلال فترة الاستراحة جلس الاثنان يستعيدان ذكريات الماضي وانتهت الاستراحة ونهض العازف ليواصل عمله وترك فؤاد الشامي وحده، والذي أخذ يدور بعينيه مرة أخرى في أنحاء الكباريه ويستعيد ذكرياته مع امتثال فوزي والحادث الأليم.
ويحكي بنفسه القصة لمحرر مجلة “آخر ساعة” قائلا:” إن امتثال فوزي استأجرت هذه الصالة سنة 1936 بالاشتراك مع ماري منصور وكانت قبل ذلك تعمل كراقصة في فرقة بديعة. ثم رأت أن تفتتح صالة لحسابها مع زميلتها، وعرفت أنا أن امتثال تدخر مالا فطلبت منها أن تدفع مبلغ خمسين جنيها في أول كل شهر فاعتذرت عن دفع المبلغ. وقالت إنها ستسمح لي ولأعواني بارتياد الصالة مجانا وأنها ستضيف كل طلباتي من طعام وشراب إلى حسابها الخاص، ولكني رأيت في هذا الرد جرحا لكبريائي فلم أتعود رفض رغباتي بهذه السهولة فصممت على إعطائها درسا قاسيا يكون عبرة لها ولغيرها من أصحاب الكباريهات. وتوالت بعد ذلك بلاغات محاميها شوكت التوني إلى البوليس ضدي. وقد حدث أن اعتدى عليها أحد أعواني بالضرب فاتهمتني بالتحريض ولكنها لم تستطع إثبات ذلك”.
وتابع: “قدمت بلاغات أخرى إلى النائب العام ووزير الداخلية تتهمني فيها بأنني أرأس عصابة إرهاب تهددها بالقتل، وكان هذا العمل من جانبها يكفيني لكي أحكم عليها بالإعدام، فلم يسبق لأحد، رجلا أو امرأة في هذا المحيط أن وقف أمامي بهذه الجرأة وأقسمت أمام أعواني أن انتقم منها شر انتقام. فأحدث بها إصابة تعوقها عن العمل في المسارح نهائيا. وذلك بعد أن تأكدت أن باقي الفنانات قد بدأن في شق عصا الطاعة. ففي نفس الأسبوع رفضت بديعة مصابني أن تبعث لي بالمبلغ المطلوب منها واعتذرت بسوء حالتها المالية. وكنت أعلم أن بديعة كاذبة ولكنها تجرأت على مخالفتي بعد أن رأت امتثال تهاجمني في دوائر البوليس وأنا ساكت لا أتحرك”.
تنفيذ القتل
ويستمر فؤاد الشامي في الحديث عن كيفية تدبير عملية قتل امتثال فوزي قائلا: “في أحد مقاهي الفجالة عقدت اجتماعا حضره أفراد العصابة. وقبل أن أبدأ في تنفيذ الخطة التي دبرتها قمت إلى التليفون واتصلت بامتثال فوزي لأقدم لها إنذاري الأخير”.
ودار الحديث بيننا على الوجه التالي:
– امتثال
– أيوة.. مين؟
– أنا فؤاد
– أزيك يا فؤاد
– الله يسلمك.. فيه كلام عاوز أقولهولك لتصفية الموقف بيننا
– إيه هو
– بعد نص ساعة.. لأني شايفك إنك لسه قايمة من النوم لما تفوقي بقى
– أنا فايقة دلوقتي.. أتكلم
وبدأ يتكلم فقال لها إن تصرفاتها الأخيرة معه قد جعلت بديعة وغير بديعة يمتنعن عن دفع الإتاوات، وعلى هذا أصبح مركزه مهددا بالانهيار وهو إزاء ذلك لن يتورع عن ارتكاب أية جريمة في سبيل أن يسترد كرامته بين فتوات شارع عماد الدين.
**
ثم طلب إليها فؤاد الشامي أن تترك البوسفور لمدة شهر. وتظهر برفقته في كل مكان حتى تشعر باقي الراقصات وصاحبات الكباريهات أنها خضعت خضوعا كاملا. على أن تستأنف بعد ذلك عملها، فرفضت امتثال فوزي هذه الفكرة.. فهددها بالقتل في تلك الليلة فقالت له على الفور:
– إذا كنت فؤاد الشامي صحيح حاول أنك تدخل الصالة الليلة دي.
فرد عليها:
– وحياتك ح أدخل الصالة الليلة دي وأكسر دماغك!
وكانت هذه هي آخر مرة يتحدث فيها وحش الليل إلى إحدى رعاياه بعد أن شقت عليه عصا الطاعة!
وقفلت امتثال فوزي سماعة التليفون في وجه رئيس حكومة البلطجية وملك الليل، وعاد الشامي إلى زملائه ليرسم لهم خطة قتلها في نفس الليلة. وسألهم من منكم يعرف امتثال فوزي؟
فأجابه حسين إبراهيم الشهير بحسين الزلمكة:
– أنا أعرفها
فأخرج فؤاد الشامي مجموعة من صور الراقصات ونثرها على المائدة وطلب منه صورة امتثال.
وعندما تأكد من أن حسين الزلمكة يعرفها جيدا طلب زجاجة بيرة من الجرسون وحطمها على المائدة. ثم طلب أخرى وأخرى حتى بدا عنق الزجاجة الثالثة من ثلاث شعب مدببة. فناولها لحسين الزلمكة وتواعد مع أفراد العصابة على اللقاء في المساء بعد أن عرف كل منهم الدور الذي يلعبه. هذا أمام سكين الكهرباء وذلك عند الباب وهذا بجوار باب الممثلين. وآخر خارج الكباريه والباقي يجلسون في المقاعد الخلفية. ولم ينس فؤاد الشامي أن يطلب إليهم عدم الاعتراف بأي شئ. أما دوره فكان عليه أن ينتظر في شارع مظلم خلف الكباريه، فإذا وجد الأنوار تنطفئ عرف أن الجريمة ترتكب. وارتكبت الجريمة والتقى جميع أفراد العصابة إلا حسين الزلمكة، وقبض على القاتل حسين إبراهيم واعترف بكل شيء. ثم قبض على فؤاد الشامي وجميع أفراد عصابته التي روعت مدينة القاهرة بجرائمها حينا من الزمن.
حسين الزلمكة
وهنا نصحح معلومة أخرى بأن قاتل امتثال فوزي، هو حسين إبراهيم حسن الشهير بحسين الزلمكة. كما نشر اسمه وصوره في الصحف والمجلات وقتها وكما تحدث عنه فؤاد الشامي نفسه بعد خروجه من السجن وليس “كامل الحريري” كما كتب الكثير فيما بعد عن أنه هو من قام بعملية القتل.
ترك الشامي ذكرياته الأليمة في كازينو البوسفور. ثم بدأ جولته في شارع عماد الدين فأذهله أن يرى العمارات العالية تقوم في مكان المسارح والكباريهات. وسأل عن الترام فقيل له لم يعد له مكان هنا، وكان أول مسرح رآه هو مسرح الريحاني، فدخل المسرح من باب الممثلين والتقى بالممثل عباس فارس ودار بينهما حديث قصير بدأه عباس فارس قائلا:
– سلامات يا فؤاد.. بطلت الشقاوة؟
– الحمدلله
– بتعمل إيه دلوقتي؟
– بابحث عن عمل شريف
وصافحه مختار عثمان بسرعة، ثم استأذنه ليؤدي دوره على المسرح.
وقال الشامي وهو يخرج من مسرح الريحاني:
– لقد كنت أحب الريحاني، ولم يحدث أن فرضت أية إتاوة على مسرح الريحاني، ولكني كنت أفرضها على الأرتيستات اللاتي يعشن في الكباريهات من السطو على جيوب الزبائن.
ولم يتعرف على وحش الليل سوى بائع متجول يسرح بالسندوتشات فاشترى منه الشامي ودفع له الثمن. وأدرك البائع أن الزمن تغير وأصبح الشامي يدفع كباقي الزبائن.
كيف أصبح مجرما
وعلى رصيف شارع عماد الدين أخذ فؤاد الشامي يروي قصته بحذافيرها. قال إنه بدأ حياته تلميذا ككل أولاد الناس وكان أبوه يشتغل وظيفة مدير القرعة في سوريا. ثم اضطر الوالد إلى الهرب إلى مصر من بطش السلطان عبدالحميد. واضطرت الأسرة إلى اللحاق بعائلها في القاهرة. ولم يكن يتجاوز عمره في ذلك الوقت أربع سنوات.
وفي مصر اشتغل أبوه بتجارة الصابون والزيوت يعاونه أخوه الأكبر واتخذت الأسرة من حي الظاهر موطنا لها والتحق فؤاد الشامي بأحد الكتاتيب. ثم بمدرسة راتب باشا الابتدائية. وعندما اشتد عوده وجد في نفسه ميلا إلى الرياضة، فانضم إلى فرقة كرة القدم والملاكمة وحمل الأثقال. وهو يقول إنه على الرغم من كراهيته الشديدة للدراسة وحبه العنيف إلى الرياضة فإن ترتيبه في الفصل كان الأول دائما وترتيبه في الرياضة كان الأخير دائما.
ولم يستطع تكملة دراسته بعد الشهادة الابتدائية وانضم إلى أخيه وأبيه في المحل. وأمضى معهما ثلاث سنوات هادئة، ثم حدث أن دعاه أحد أصدقائه إلى سهرة حمراء وكانت هذه السهرة الحمراء في بيت تديره امرأة اسمها “نجية صرصارة”، وكان ممكن أن تمر هذه الليلة بسلام لولا أن تعلق قلب فؤاد الشامي بفتاة في هذا البيت اسمها “روحية”.
وهكذا انحدر فؤاد الشامي في هذا الطريق، وتوفى أبوه وكان نصيبه من تركة أبيه ألفين من الجنيهات صرفها كلها على الكباريهات وبنات الليل. ثم أصبحت حياة الليل تجري في عروقه حتى صار الظلام مملكته الوحيدة التي لا يحيا إلا في أعماقها الخاطئة.
شارع عماد الدين
ويواصل فؤاد الشامي سيره في شارع عماد الدين متعبا من الذكريات التي تزاحمت على رأسه ويجلس على أحد المقاهي التي كان يفرض عليها نفوذه. ولم يتعرف على صاحب المقهى لأنه تغير وعندما تقدم منه الجرسون لم يطلب ويسكي ولا كونياك ولا بيرة وإنما طلب واحد كازوزة!
ثم قال: “لأول مرة أطلب في هذا المقهى كازوزة. لقد كانت كل طلباتي وطلبات أعواني من الخمر والحمد لله لقد نسيت الخمر. السجن فقط هو الذي جعلني أنساها”.
وزار وحش الليل بعد ذلك جميع كباريهات القاهرة، فلم يستطع أن يتعرف على واحدة من راقصات اليوم سوى ببا إبراهيم، والتي التقط معها صورة وكذلك صفية حلمي بكازينو أوبرا.. وقال الشامي لببا إبراهيم:
– لقد كنت صديقتي وتعرفت عليك قبل الحادث بخمسة عشر يوما!
ثم التفت إلى زميلاتها اللاتي جلسن حوله وقال:
– لقد كانت صديقتي فقط وليست عشيقتي!
وكانت الراقصات ينظرن إليه كما ينظرن إلى وحش مخيف. بل أن بعضهن ينظرن قد أسرع بالخروج من الصالة من شدة الذعر. وقال فؤاد الشامي إن راقصات اليوم يختلفن كثيرا عن راقصات الأمس. فقد كان المعجبون فيما مضى يحبون الأجساد الممتلئة. أما هذه الأجساد الثعبانية التي أراها الآن فلم تكن تعجب أحدا من عمد وبكوات زمان. وحاول فؤاد الشامي أن يتعرف على زبون واحد من زبائن الكباريهات القدامى فلم يقع نظره إلا على لفيف من الشبان حديثي السن فقال:
– لقد حاولت البحث عن وجه قديم من الوجوه التي اعتدت أن أراها فلم أجد أحدا. هما كلهم ماتوا؟ ثم سكت قليلا واستطرد وهو يهز رأسه أسفا: أو تركوها للعيال!!
إمبراطور الليل
لم تنته قصة فؤاد الشامي عند خروجه من السجن وتجوله في شوارع وكباريهات القاهرة. فبعد عدة أشهر وتحديدا في شهر يوليو 1955 كانت الصحف على موعد آخر مع إمبراطور الليل، الذي ترك حياة الليل.
وفي تحقيق آخر نشرته مجلة “آخر ساعة” في يوليو 1955 تحت عنوان “فؤاد الشامي تاب.. ملك البلطجة والبارات يفتح محلا للبقالة” يتتبع التحقيق كيف أصبح الشامي صاحب محلا للبقالة وتزوج من فتاة في سن العشرين كانت تجئ لتشتري من دكانه فأعجب بها وعرف الحب لأول مرة طريق قلبه، وأصبح ينتظر أول مولود له في حياته.
لقد تحول إلى إنسان آخر لا علاقة بينه وبين الشخص الذي كان يرتاد البارات ويقتل ويضرب..خيط واحد هو الذي يربط بين فؤاد الشامي القديم والحديث هو تلك المراقبة المفروضة عليه بحيث تجعله ينام في التاسعة مساء، ويصحو ثلاث مرات كل ليلة على نداء العسكري، وهو يصيح: فؤاد الشامي دفتر المراقبة علشان تمضيه.
ويمضي مرة أخرى مع ذكرياته قائلا: “لقد علمني السجن أنه ليست هناك صداقة وسط الشر، لم يزورني أحد في السجن، لم يساعدني أي شخص من الرجال الذين كنت أصرف عليهم بلا حساب ن لم يهتم بي إنسان، واحد فقط بقي ورائي حتى خرجت من الليمان وفتح لي محل البقالة الذي أقف فيه وأديره هل تعرفون هذا الواحد؟ أنه أخي مختار الشامي”.