غواني.. قنواتي

في 30 مايو 1909، حضرت إلى محافظة مصر بنت تركية تسمى عزيزة بنت عارف وأبلغَّت بأن محمد شكري وحسن خليل البرنسوز وشريفة بنت علي قد تحايلوا عليها وعلى أربع بنات تركيات غيرها، وأحضروهن من «إسلامبول»، حيث أوهموهن بإدخالهن خادمات في المنازل الكبيرة أو تزويجهن بعائلات شريفة.

وأوضحت أنها عند وصولهن إلى الإسكندرية نزلوا بهن في لوكاندة محمد راشد، وهناك عرضن للبيع لبعض العاهرات ولأشخاص آخرين كانوا يترددون على تلك اللوكاندة للغرض المذكور. ولما لم يجدوا في الإسكندرية من يشتريهن سافروا بهن إلى مصر، حيث عرضوهن على أشخاص كثيرين بواسطة سماسرة. وأخيراً، أخذوا لهم بيتاً أقاموا فيه مع ثلاث بنات منهن، بعد أن وضعوا واحدة وابنتها في منزل رجل مغربي. وصاروا يقودون رجالاً لاغتصاب البنات الثلاث الباقيات بالإكراه، غير أن واحدة منهن، وهي عزيزة، تمكنت من الفرار بعدما فتحت باب الدار بسكين. فأرسلت المحافظة البنت عزيزة إلى نيابة محكمة مصر، وعرض الأمر على جناب النائب العمومي الذي أمر بسرعة ضبط البنات. وبالفعل، تم ضبطهن مع محمد شكري.

استحضرت النيابة ميشيل أفندي قنواتي، رئيس قلم البسابورت، الذي ارتكب جريمة تسهيل فرار البنات التركيات من وجه المحافظة، وعدم مراعاته الآداب معهن، وطلبه أخذ عزيزة، وتهديدهن بمنعهن من السفر إلى مصر إن لم يأخذها، كما أخذ منهن جنيهين لتخليصهن من قلم البسابور، وذلك بإيعازه من محمد راشد أن يضمنهن، واستعماله سلطة وظيفته والرشوة.أحيل ميشيل أفندي قنواتي إلى مجلس التأديب بالمحافظة وصدر الحكم بعزل قنواتي من وظيفته وحرمانه من المعاش والمكافأة.

***

الوقائع.. في 20 إبريل سنة 1909، وصلت الباخرة الرومانية من الآستانة وكان من ضمن ركابها رجل طاعن في السن يدعى محمد شكري وامرأته شريفة هانم ومعهما طفلة صغيرة وخمس نساء. وبمرورهم من قلم التذاكر، اشتبه ميشيل قنواتي بأمرهم لمخالفة ظهرت له من اطلاعه على التذاكر والأوراق، فأمر بحجزهن لأن أعمار النساء كانت لا تنطبق على البيانات الواردة في تلك التذاكر والأوراق. وبالاستفهام من محمد شكري، الذي كان قد تركهن وفر هارباً عن أمرهن، ادعى أن شريفة زوجته وباقي النساء بناته. وبعد محاولة طويلة، اعترفت النساء بأنهن لسن أولاد شكري، وأنهن أحضرن للخدمة أو الزواج. ثم سلمهن مأمور قسم العطارين لمحمد راشد بضمانة بأنه لن يصرح لهن بالخروج أو السفر خارج القطر إلا بعد إذن من المحافظة. وبناء على طلب محمد راشد سافروا إلى مصر.

***

آنذاك، ضاقت ساحة مجلس التأديب بالشهود، فتلاطمت الرؤى والآراء المتعددة في شأن قنواتي ونسائه.

المستر بلاتنر، محمد راشد صاحب لوكاندة، الحاج على حسن سمسار، أبو زيد إبراهيم وعثمان موسى سماسرة على حسن، شقيق محمد راشد، الكونستابل لويجى دوناتو، ومارڤن ويتفلد.

وانعقد الإجماع على الاتهام الثاني الذي يفيد “ذهابه إلى لوكاندة محمد راشد وطلبه أخذ عزيزة إحدى الحريمات مستعملاً سلطة وظيفته في ذلك، حيث هددن بمنعهن من السفر”. حيث أكدت ذلك شهادات محمد راشد، وأبو زيد إبراهيم، وعثمان موسى، وعلى حسن، وسلطان محمد، وحنيفة، وزهرة، وعزيزة، وحميدة، وشاذلية، وحسن، وأحمد.

آنذاك، كانت الألسن والجرائد تتناقل دعاوى الرقيق الأبيض التي كانت تهبط الإسكندرية دوماً، غير مبالية بمقام كبير ولا بمركز أمير، حتى وصل ذلك الأمر إلى أمراء وجليلات الأسر الكبيرة في الثغر وفي مصر. وشملت أيضاً ساحة الاتهام تساهل سعادة المحافظ، حيث أنكر علمه بأمر البنات، ونسى الإفادات التي جاءته من سعادة محسن باشا والتي تسلمها من حميدة إحدى الحريمات.

***

ومن اللافت أن مارڤن وتفيلد، رئيس قلم بالمحافظة وترأس قنواتي في قلم البسابورتات، شهد بأن قنواتي كان ميالا للنساء. وشهد الكونستاب لويچى دوناتو اعتاد أخذ نقود في سابقة عام 1901، مما أدى إلى خصم عشرة أيام من راتبه. وأفاد مسيو بلاتنر، مأمور قسم المينا ببيع البسابورتات بقيمة أكثر من قيمتها المقررة، وذكر مسؤوليته عن أخذ شيخ طائفة الشوام أربعة قروش صاغ على كل تذكرة يقطعها من المسافرين من الشوام.

وأفاد صاحب لوكاندة “إسكدار” بباب سدرة بالعطارين بأن عائشة حسين وابنتها حسيبة خليل ظلتا بطرف سراي سعادة محسن باشا، أما الخمسة الآخرين مسافرات محمد شكري وشريفة هانم إلى مصر، ويعملن في تجارة الفوط وما يشابه ذلك، أما الثلاث نساء فيستخدمن بمصر.

عندما انعقد المجلس المخصوص في سراي نظارة الداخلية في عام 1909 برئاسة إسماعيل باشا صدقي، سكرتير عموم النظارة، وسعادة عبد الخالق باشا ثروت وآخرين، تم التأكد من تحقق الاتهام الموجه لميشيل قنواتي. غير أن بطركخانة الروم الأرثوذكس، وبطركخانة الروم الكاثوليك، والجمعية الخيرية الإسرائيلية بالإسكندرية، والطائفة المارونية بالإسكندرية، ساندت قنواتي وأشادت بنزاهته وأطالت في براءته.

اقرأ أيضا:

إبراهيم نصر الله شاهدا: ذاكرة الجراح المفتوحة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر