غرفة هيكل: تاريخ العرب الحديث بين أربعة جدران
تمنى محمد حسنين هيكل (1923-2016) أن يصبح – بعد تقاعده- موظف أرشيف في جزر «البليار» شرقي إسبانيا. لكن ما لم يتوقعه وهو يخطط للتقاعد، أن خلو البال من المستحيل في مجتمعات كانت، ولا تزال، تحبو بحثا عن طرق للحرية والديمقراطية، لهذا وجد نفسه في قلب معارك لا تنتهي.
لم يتقاعد، ولم يصبح موظف أرشيف. ولكن حياته الصحفية المثيرة والثرية، وعلاقاته جعلته مالكا، أو ملكا ربما على أرشيف ضخم ربما لم يتح لغيره من سياسيين وكتاب.
ورغم أنه استخدم هذا الأرشيف في كتابة العديد من كتبه عن تاريخ مصر الحديث. وقضايا الصراع العربي الإسرائيلي. إلا أن أسئلة عديدة ظلت مطروحة عن مصير هذا الأرشيف بعد رحيل صاحبه؟ وما الذي يضمه؟ وما الذي استخدمه هيكل وما استبعده من مواد هذا الأرشيف الضخم؟
الثلاثاء الماضي، كان قد مضى ثمانون عاما على ممارسة هيكل لعمله الصحفي. تحديدا في 8 فبراير 1942 عندما عمل محررا في جريدة “الإيجيبشيان جازيت”. هذا التاريخ، اختارته أسرة الراحل موعدا لافتتاح المرحلة الأولى لمتحفه بمكتبة الإسكندرية، والذي يضم أوراقه الشخصية، ووثائقه السياسية، ومكتبته. وكثير من مقتنياته التي تعتبر “جزءا جوهريا وأصيلا من التراث المصري والعربي” حسب تعبير السيدة هدايت تيمور زوجة هيكل.
**
هكذا استقر 4 آلاف كتاب، و8899 وثيقة من وثائق هيكل في مكتبة الإسكندرية. لتمثل في ركن خاص من أركان المكتبة متحفا لهيكل. وتم تصميم الجزء المتحفي محاكيا تماما لما كان عليه في مكتب هيكل في الجيزة، بما في ذلك جدارية الصور الضخمة التي انتقلت بأكملها إلى مكتبة الإسكندرية. وتضم صورا لهيكل مع أبرز قادة العالم وسياسييه ومثقفيه. وكذلك الخرائط العديدة والنادرة لمصر وللعالم العربي. وقد تعلم من ديجول تعلم من ديجول الرئيس الفرنسي ألا يتكلم إلا بعد أن ينظر إلى الخريطة ليعرف حجم الدول ومقدار أدوارها.
المكتب كما تركه، عليه آخر أوراق كتبها. وجداول مواعيده، وأدواته المكتبية، وعشرات الأقلام الرصاص، والحبر، وآخر كتابين كان يقرأ فيهما: “البحر العظيم: تاريخ إنساني للبحر الأبيض المتوسط” للمؤرخ البريطاني ديفيد أبوالعافية. أما الكتاب الثاني “من يدفع للزمار: المخابرات الأمريكية والحرب الباردة” للكاتبة فرانسيس ستونور سونديرز.
يجاور المكتب مكتبتين صغيرتين. تضم الأولي أسطوانات الموسيقي الكلاسيكية التي أحبها هيكل، وكان يستمع إليها بين الحين والآخر.
موتسارت هو الموسيقي الأفضل بالنسبة له. وصفه ذات مرة بأنه “يشبه الطفل الذي لم يكبر بعد، في موسيقاه براءة طفولة متمردة”. ثم يأتي بيتهوفن سيد البناء في الموسيقى حسب تعبيره، وأخيرا هايدين “سيد الكل”.
هيكل اكتسب محبة الموسيقى الكلاسيكية من أستاذه محمود عزمي الصحفي الشهير ومندوب مصر في الأمم المتحدة في أعقاب ثورة يوليو. يقول هيكل في حوار قديم: “كانت زوجته عزمي سيدة روسية رفيعة الذوق، كنا نذهب عنده كل خميس لنستمع إلى الموسيقى الكلاسيك، ومن هنا كان عشقي للموسيقى”. وفي الأوراق التي تركها هيكل، وتعرض في متحف الإسكندرية كارت شخصي من عزمي إلى هيكل وزوجته، يصف نفسه فيه بـ”فرانسيس بيكون” الفيلسوف الإنجليزي الشهير.. يكتب عزمي: “إلى محمد وهدايت رفيقي الطريق العزيزين. مع التمنيات الطيبة وصادق الاحترام”.
**
أما المكتبة الصغيرة الثانية، تضم تمثالا شهيرا للكاتب المصري. وتبدو علاقة هيكل بمصر القديمة قوية، حيث اتخذ تمثال الطائر أبيس (إله الحكمة لدي المصريين القدماء) شعارا له، يطبعه على أوراق الخطابات التي تخرج من مكتبه.
ويوجد بعض الكتب التأسيسية، التي ربما كان يلجأ إليها دائما. أو كانت كتبه المفضلة، أو الأقرب إليه، وهي في الأغلب كتب سيرة لشخصيات بارزة من التاريخ السياسي الحديث. من هذه العناوين كتاب المؤرخ البريطاني الشهير مارتن جلبرت عن ونستون تشرشل الذي يتكون من 8 مجلدات كبيرة. وكتابات لمؤرخين آخرين عن “تشرشل”، وكتاب ميلوفيان ديجلاس عن “تيتو”. وكتابات أخرى عديدة في السير الذاتية للسياسيين، والإستراتيجية والاقتصاد.
**
من بين العديد من الوثائق المعروضة، نطالع للمرة الأولى أوراق هيكل الشخصية، شهادة ميلاده، شهاداته الدراسية، بعض مسودات بعض كتبه بخطه الأنيق الدقيق العصي على القراءة أحيانا، رسائل متبادلة بينه وبين العديد من الصحفيين العالميين. ومذكرة بخط يد جمال عبدالناصر عن معركة عراق المنشية 1948. وخطاب من على الفيومي (ملخص الحوادث للسرية الثالثة) أيضا عن حرب 1948.
رسالة من زكريا محيي الدين أرسلها لهيكل بعد 5 يونيو. وهذه الوثائق هي ما أمكن عرضه إذ سبق الكثير تحت الدراسة لتحديد ما الذي يمكن الاطلاع عليه، وما لا يمكن. سنطالع أيضا دفاتر مواعيد هيكل. الشخصيات التي كان يلتقيها. كما نطالع أوراقا من أجندة هيكل من بينها رقم هاتف جمال عبدالناصر (61272) ويحمل تاريخ الأجندة 3 أغسطس 1952 أي بعد عشرة أيام من قيام ثورة يوليو. ربما كان هذا هو اللقاء الأول بين ناصر وهيكل بعد حرب 48. تبادلا أرقام الهواتف، وكتب هيكل وقتها لأول مرة عن عبدالناصر مقالا في مجلة ” آخر ساعة” بعنوان “الهدوء الذي ترقد تحته عاصفة”.
**
تكشف شهادة ميلاد هيكل أنه جاء إلى الدنيا على يد قابلة يهودية تسمي فريدة كوهين. كان يسكن وقت ولادته في 8 شارع الدراسة، بالجمالية. وكان والده تاجر غلال. كما تكشف شهاداته الدراسية أنه درس في المرحلة الابتدائية في مدرسة خليل أغا. وبعد تخرجه منها، كان يسعي للالتحاق بمدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية. وقد تقدم لذلك بالفعل كما هو مثبت بالأوراق. ولكنه لم يلتحق بالمدرسة الثانوية بل غير وجهته إلى مدرسة التجارة المتوسطة بالظاهر، وعندها غير أيضا عنوان سكنه ليصبح 174 شارع فاروق بالقاهرة.
من الوثائق المعروضة، رسالة من مصطفى أمين إلى هيكل، لم يتضمنها كتاب هيكل الشهير «بين الصحافة والسياسية» الذي تضمن كل وثائق المعركة الخاصة باتهام مصطفى أمين بالجاسوسية. يكتب أمين لهيكل في الخطاب:
هذه أول مرة أستطيع أن أكتب خطابا. إنني أكتب لك لأقول إنني فرحت جدا بتعينك رئيسا لمجلس إدارة أخبار اليوم. إنني أهنئ أخبار اليوم بهذا الاختيار الموفق. إنك تعلم أنه كان من أماني حياتي أنا وعلى أن تعود إلى أخبار اليوم وأن تعود أخبار اليوم إليك. ولعلك تذكر أنني اقترحت هذا الحل في وقت من الأوقات. إن هذا في رأيي خير حل لمصلحة أخبار اليوم التي نحبها جميعا. مصطفى أمين – 7 ديسمبر 1965.
يتضح من تاريخ الرسالة أنها مرسلة من السجن. حيث كتبت بعد خمسة أشهر من القبض على مصطفى أمين في قضية الجاسوسية الشهيرة. وكان هيكل بعد القبض على أمين قد تولى مسؤولية رئاسة مجلس إدارة الأهرام وأخبار اليوم لفترة.
**
كما تعرض المكتبة نسخة المهداة من هيكل إلى زوجته من كتاب “أزمة المثقفين” الصادر عام 1961: يكتب إليها هيكل في الإهداء: “سوف تجدين في هذا الكتاب نفسك. في كل فكرة. في كل سطر. في كل كلمة. كل فكرة فيه ناقشتها معك. كل سطر فيه سمعتيه منى قبل أن يجرى على الورق. كل كلمة فيه ليست غريبة على سمعك. وقبل ذلك كله، فلقد كنت أنت القوة الدافعة ورائي ثوريا لكي أكتب كل أسبوع. ولقد كتبت. وهذا بعض منه أو هذا بعض منك. بعض منك وبعض منى، كأنه ابن آخر”.
المحب محمد (21/11/1961). الكتاب هو الثالث لهيكل. وصدرت منه طبعة واحدة. ولم يعد هيكل نشره مرة أخرى.
**
التجول بين الكتب التي تمت إتاحتها تكشف لنا في مكتبة هيكل اهتمامات هيكل أو ذوقه في القراءة. الكتب المعروض كانت في مكتب هيكل، وليست في بيته. ومن هنا هي معظمها أقرب ما تكون مراجع أساسية ودوائر معارف. يحفظ هيكل بجواره على لسان العرب. وبدائع الزهور في وقائع الدهور. وكليلة ودمنة. وأعمال المقريزي. ودولة الإسلام في الأندلس لمحمد عبدالله عنان والشاهنامة ودوائر معارف عربية وأجنبية.
مجموعة ثروت عكاشة عن تاريخ الفن. أعمال محمد عبده وطه حسين، العقاد، وسلامة موسي، ونجيب محفوظ ويوسف إدريس. ترجمات شكسبير. وكليلة ودمنة. الشوقيات. ودواوين حافظ إبراهيم. ونزار قباني. كما يحتفظ بنسخة من مكتبة صديقه الراحل كامل الشناوي لمسرحيات شوقي. والتي كثيرا ما يستعين بأبيات منها في أحاديثه ومقالاته.
كان الشناوي واحد من أساتذة هيكل. التقاه لأول مرة في أخبار اليوم – حسب هيكل، كان “فنانا قلب نواميس الكون فإذا النهار نوم وإذا الليل يقظة ومغامرات وحكايات لا أول لها ولا آخر.. ومع اختلاف شخصية كل منا وربما بسببه فقد أنشدّ كل منا إلى الآخر. والتناقض أحيانا عنصر جذب. كنت أتهمه بالبوهيمية وهو يتهمنى بالنظام. وكنت أراه يهدر ثلاثة أرباع وقته وكان يرى أن الحياة أجمل من أن تضيع في العمل”. كما تضم المكتبة ركنا خاصا عن الكتب التي تناولت تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.
**
يكتب إليه جمال حمدان: لابن مصر العظيم في الصحافة العربية والعالمية. الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل. تحية تقدير وإعجاب”.
أما إحسان عبدالقدوس: “إلى زميل العمر في دنيا متعبه. دنيا الفكر والقلم. الأستاذ محمد حسنين هيكل، مع تمنياتي بالصحة دائما، والنجاح دائما، والحب دائما”.
بينما يكتب جمال الغيطاني على روايته”حكايات هائمة”: “أستاذي وصديقي محمد حسنين هيكل: من علمني حروفا وأضاء بصيرتي. مودتي العميقة ومحبتي الدائمة-2015”.
ويكتب له المؤرخ الشهير عبدالرحمن الرافعي:” إلى السيد الأديب الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام، مع أطيب تحياتي- 1960″.. وفي طبعة نادرة من ديوان محمود درويش “أحد عشر كوكبا”.. يكتب إليه درويش:” إلى أستاذي محمد حسنين هيكل. لك كل الكواكب في عيد ميلادك السبعين. بإعجاب ومحبة -1993. كان هيكل هو القارئ الثالث لمحمود درويش حسب ترقيم النسخة المرسلة. وفي أوقات أخرى كان هيكل قارئا لمخطوطات درويش قبل أن تطبع.
اقرأ أيضا
ماجدة الجندي: سلاما لكاتبة حرة بلا قيود