“عيد السياحة” في سيوة.. موسم المصالحات ولمّ الشمل
“اذا قال النقيب “الله الله” تراهم راكعين وساجدين.. وأجنحة تطير بغير ريشٍ إلى ملكوت رب العالمين…” تواشيح وابتهالات وأناشيد دينية تنطلق بها حناجر الرجال بمناسبة “عيد الحصاد” في واحة سيوة الخضراء، القابعة وسط الصحراء على بعد 300 كم جنوبي مطروح.
“عيد الحصاد” أو “عيد السياحة”، يتزامن مع موسم حصاد التمور أو”عيد التسامح والمصالحة”، بحسب ما يردده السكان المحليين في حكاياتهم القديمة عن خلاف استمر لسنوات طويلة بين أهل سيوة في الشرق والغرب، قطعت بسببها شرايين التواصل وتغلغلت فيه القطيعه إلى جاء شيخ صالح ألف بين الفريقين وأقر التصالح والمسامحة والأخوة.
يظل المسمى الأصلي هو”عيد السياحة”، وليس المقصود بـ”السياحة” هنا الترحال والترفيه، وإنما يقصد بها في لهجة سيوة الخلوه الدينية في ساحة بعيدة عن الناس والضوضاء، في اختلاء للعبادة فقط، بحسب الشيخ عبدالرحمن الدوميري، شيخ قبيلة “الظناين” بسيوة، مندوب الطريقة “المدنية الشاذلية”.
الطريقة المدنية الشاذلية تنسب للشيخ محمد حمزة ظافر المدني (نسبة للمدينة المنورة)، الذي زار تابعيه بسيوة، أثناء عودته من “فاس” بتونس، في جولته التي جاب خلالها الشمال الأفريقي، وطلب من أصحابه التجمع في ساحة كبيرة، فاختاروا منطقة “الدكرور”.
الدكرور
كانت منطقة الدكرور خالية من السكان، عبارة عن رمال وجبال، وكان الشيخ المدني يجتمع بهم في وقت الظهيرة، وبعد تناول الغداء يفتيهم في الدين ويقرأ عليهم القرآن ويدعو لهم ويحدثهم عن التواضع والتسامح والمحبة، وبعد فترة غادر واستكمل رحلته.
يقول الدوميري: كالعادة الشيخ مندوب فى كل مكان يزوره، فيقيم “زاوية” أي مسكن للمغتربين وعابري السبيل، ويقدم لهم الطعام والمبيت دون مقابل، وجوار ذل مسجد لتعليم اللغة العربية وتحفيظ القرآن الكريم.
يضيف الدوميري أن أهالى سيوة استحسنوا زيارة الشيخ المدني لهم، لما في تلك الزيارة من روحانيات دينية وابتهالات وصفاء نفسي وعقلي، فحرصوا على إحياء ذكرى هذه الزيارة في نفس الموعد من كل عام.
أهالي سيوة لم يكتفوا بيوم واحد للاحتفال، بل جعلوها 3 أيام قمرية متتالية، واستمرت هذه الطقوس منذ عام 1285 هجريا حتى هذا الوقت، وأطلقوتا عليه “عيد السياحة الدينية”.
مندوب الطريقة الشاذلية يرى أنه لا صحة لما يقال أن الاحتفال بعيد السياحة وراءه الصلح بين قبائل متنازعة ومتناحرة، موضحًا أن سيوة كلها كانت تتبع الطريقة المدنية الشاذلية، وكانت تقام حضرة (حلقة ذكر) مرة كل شهر مرة في “الغربين” ومرة في الجبل العتيق، واخرى في أغورمي، إلى أن جاءت الطريقة “السنوسية” وأصبح هناك تابعين للطريقتين في سيوة، والاثنان يشتركان في الاحتفالات والطقوس، في جو من الأخوة والمحبة.
ويحدد موعد “السياحة” كل عام على حسب الشهر العربي والليالي القمرية، ما بين أشهر سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر، ويجب أن تكون الأيام قبل أو بعد يوم الجمعة.
طقوس عيد السياحة
وعن طقوس عيد “السياحة” يستكمل الدوميري: إنها تبدأ قبيل العيد بأيام بجمع التبرعات المالية من جميع الأسر، لشراء مستلزمات الطعام من لحوم وأرز وأواني طهي وإعداد مخبوز الرقاق “المجردق”، كما يتطوع الطباخين والشباب لخدمة الاحتفال بالطهى وتقديم الطعام.
وخلال الثلاثة أيام يقوم الطباخون بطهي اللحم في المرق والأرز، وإعداد أطباق”الفتة”، وسط الابتهالات والأناشيد الدينية حتى أذان الظهر، ثم يوضع الطعام في الأواني، ويبدأ “الشاويش” أي رئيس الطباخين توزيعها على الأهالي في الساحة المواجهه لجبل الدكرور.
يجلس الأهالي في شكل “حلقات” دائرية تشمل الأطفال والكبارعلى حد سواء، وبطريقة عشوائية يختلط الناس بعضهم بعضًا في جو من المودة والإخاء، ويمتنعون عن لمس الطعام، حتى تأتي اللحظة الحاسمة، عندما يُنادى “بسم الله”، ليبدأ الجميع في تناول الطعام في آن واحد.
طقوس الاحتفال
بعد الطعام يذهب الأطفال لشراء الألعاب والحلويات من الأكشاك المقامة خصيصا في مكان الاحتفال، وفي المساء تقام حلقتي ذكر “حضرة”، وبعد انتهائها يتوجه المشاركون إلى خيامهم وخلوتهم للنوم أو يستكملون احتفالاتهم ويتبادلون أحاديث السمر مع الأقارب والأصدقاء، ويُختتم العيد بمسيرة للأهالي من جبل الدكرور إلى المسجد الكبير، وسط سيوة، يقودها شخص، يحمل راية خضراء.
الدوميري يتابع أنه الأطفال قديمًا كانوا يُحرموا من مظاهر الترفيه والألعاب، لذلك كان أحد الرجال يرتدي ملابس تنكرية مضحكة، تشبه الأراجوز، ويطرق أبواب المنازل في الحارات والشوارع، كأنه “شحاذ”، مداعبا الأطفال ليضحكهم.
كان ذلك الرجل الذي يقلد الأراجوز تمنحه الأسر “النفحة”، التي كانت عبارة عن بعض التمور أو الفول السوداني أو الحلوى أوالكيك المنزلي، وتجمع النفحات، ثم توزع على الناس جميعا، ليتشاركوها دون تفرقة بينهم، لكن ذلك اختفى بظهور الألعاب ووسائل الترفيه الحديثة.
المرأة.. الجندي المجهول
وعن دور المرأة في احتفالات عيد لسياحة، تقول فاطمة كيلاني، موظفة، إحدى فتيات سيوة، تقول إن دور المرأة ينحصر في غعداد رقائق الخبز “المجردق”، لعمل “الفتة” في العيد، كما تعد أنواعًا من الكيك و”المنين” وهو نوع من المخبوزات التي تدخل في صناعتها العجوة، لتقديمها للأطفال والمعتكفين في “الدكرور”.
وكانت المرأة قديمًا تعد في اليوم الثالث وجبة شهيره اسمها “افطير” مكونة من السمك واللحم والبيض، وتحتفظ لزوجها بجزء منها ليتناولها بعد عودته من العيد، ولكن توقف ذلك، واكتفين بالمخبوزات.
تضيف أن المرأة في سيوة لديها طقوس خاصة في عيد السياحة، فيجمعن المال لشراء بعض الطعام، ويتجمعن كل يوم في منزل إحداهن لإعداده، وتبادل الأحاديث والاحتفال، مشيرة إلى الفتيات قديمًا لم يمنعن من الذهاب إلى “الدكرور”، لكن حاليا اقتصر ذهاب الفتيات اللاتي تقل أعمارهن عن 9 سنوات فقط، بجانب وقلة قليلة من الواتي تتراوح أعمارهن بين 16 حتىى 20 عامًا.
توضح فاطمة أن بعض الأسر لا تسمح للبنات بالاحتفال، كما أن هناك عزوف من الفتيات أنفسهن، بسبب كثرة عدد الوافدين والزائرين لسيوة، فلم يعد الأمر مقتصرًا على أهالي سيوة فقط، كما كان في الماضي.
الشيخ فتحى كيلاني، شيخ قبيلة الظناني، يقول إن أهل سيوة توقفوا عن الاحتفال بعيد السياحة لمدة 3 سنوات من بعد ثورة 25 يناير بسبب الحالة الأمنية، ثم استأنفوا الاحتفال منذ العام الماضي.
كيلاني يضيف أن عيد السياحة بسيوة يعود بالنفع على أهالي الواحة، ومن الممكن أن يجذب أعداد أكبر من السائحين الأجانب والمحليين للمشاركة في الاحتفالات.
2 تعليقات