«عوامات الكيت كات»: التضحية بتراث المدينة
الأضواء المتلألئة من العوامات الرابضة على صفحة مياه النيل تتحدى الظلام المحيط بها. وتحكي عن قصص لا تنتهي ومغامرات تفوق حدود الخيال لأبطال هذا العالم الخاص. إنها ليست مجرد عالم مثير، كما يبدو للبعض من الخارج، ولكنها جزء من تاريخ مصر السياسي والثقافي والفني والاجتماعي. ورغم ذلك يكتب حتى الآن تاريخها الصاخب، إذ اكتفى الباحثون بالأعمال الأدبية التي كانت العوامات مكانا للأحداث مثل رواية «ثرثرة فوق النيل» لنجيب محفوظ الذي وصف أحد شخصيات ثرثرة بأنه مثل العوامة “الحبال والفناطيس والزرع والطعام والمرأة”.
باستثناء دراسة فريدة للباحث الراحل عصام نبيل نشرها عام 2010 بعنوان “تاريخ العوامات على نيل المحروسة”. رصد فيها التحولات التي عاشتها العوامات وبداية ازدهارها وخفوتها.. «باب مصر» يستعرض- بالتزامن مع قرار الحكومة هدم العوامات الموجودة على سطح النيل – ما جاء في هذه الدراسة بعد أن سمحت لنا ابنة الراحل بنشر أهم ما جاء فيها من أفكار.
عوامات نيل المحروسة
أشار نبيل – في بداية دراسته – إلى صعوبة حصر الوقائع والحروب الاجتماعية والسياسية والعاطفية واللوجستية التي دارت رحاها في عوامات. إذ أنها عالم ساحر، يمتلئ بالكواليس والعلاقات الساخنة، والعلاقات الطبيعية أيضا، حتى لا تهدأ ولا يخلد مرتاديها للنوع أثناء تواجدهم فيها في أغلب الأحايين. ويظل النهر العظيم هو الحكيم الذي يتابع عن كثب ما يدور في العوامات وحولها. حيث تمتزج هناك المتناقضات بين الحب والكراهية، العمالة والمقاومة، الدعارة والعلاقات الشفيفة، المؤامرات والدفوعات. عالم يخلط التاريخ بالعلاقات الخاصة والعلاقات الاجتماعية. وتظل السياسة في كل الحالات وجبة شهية لأناس من المشاهير وأهل الحظوة. ولا يمكن أن نفض بكارة حكايات العوامات دون أن ذكر عوامة إخلاص حلمي، أو العوامة رقم 77، المأوى لأعداد من القطط التي تخص إخلاص في الوقت الراهن.
أشهر العوامات
ينوه البحث إلى أن العارفين بالعوامات يؤكدون أن العوامة رقم 20، والتي تقع في نهاية كوبري إمبابة الشهير الذي طالما ظهر في الأفلام المصرية. كانت ملكيتها تعود للعمدة الفنان صلاح السعدني، لكنه على الأرجح باعها منذ فترة ليست بعيدة. والعوامات أسرار وخفايا وحكايات صغيرة مدهشة تستحق السرد، ومدعاة للتعاطي الدرامي والأدبي. حين يصبح المكان أحد الأبطال الرئيسيين في العمل الإبداعي.
يتطرق البحث إلى أشهر العوامات وهي عوامة المطربة بديعة مصابني، التي تزوجت من نجيب الريحاني. وكانت العوامة تصدر شرفاتها لفندق شيراتون القاهرة خلال عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وكان العوامة لطبيعة عمل صاحبتها ونشاطها مكانا يستضيف العديد من الفنانين مثل المطرب ذائع الصيت محمد عبدالمطلب، وتحية كاريوكا وسامية جمال، واسمهان ، وشقيقها الفنان الراحل فريد الأطرش.
عوامة مصابني
ولم يقتصر ارتياد عوامة مصابني على أهل الفن. فكانت مزارا دائما للساسة الكبار لاسيما من يعشقون التقرب للفن وأهله. ويقال إن عوامة مصابني شهدت تكوين حكومات. لذا كان الصحفيون يقتاتون الأخبار من عوامة مصابني. فهناك كان المحفز على الكلام بلا حرج في أقوى حالاته. فما أجمل الكلام بلا تحفظ. حين يكون الكبير في حالة ارتخاء وانتشاء وفضفضة.
أما الراقصة التي منحت لقب (ملكة العوامات) عن جدارة هي حكمت فهمي، التي كانت ترقص وتغني كل ليلة لجنود الاحتلال البريطاني في نادي الـ(كيت كات). وما أحوجها بعد ليلة من الرقص والغناء بضمير للخلود بعوامتها التي تقبع على نيل الزمالك أرقى أحياء القاهرة العاشقة لليل والسهر والأضواء.
ومن المعروف أن “حكمت” كانت جاسوسة تعمل في معية الجاسوس الألماني (يوهان إبلر). حيث تساعدها ظروفها كراقصة تراقص جنود بريطانيا في الحصول على المعلومات من الجنرالات الإنجليز، لتصب في النهاية عند الجنرال الألماني الأشهر (روميل) الذي كان يقاتل الإنجليز عند العلمين. فكانت حكمت فهمي تراقص كبار الضباط في الـ(كيت كات). ثم تسحبهم مخمورين للعوامة. وتستدرجهم في الكلام لتتقصى المعلومات التي يثمنها الألمان غاليا.
جاسوسة روميل
والطريف أن روميل وضباطه كانوا بالسذاجة غير المبررة. حيث صدقوا ولاء حكمت لهم، حتى لقبوها بجاسوسة روميل. وتحدثوا عن إخلاصها للجيش البريطاني الثامن في حربه ضد الألمان. هذه الثقة التي ساعدت حكمت في عملها حتى سقط الجاسوسان الألمانيان (يوهان إبلر)، و(هنريتش غيرد ساندستيت)، اللذان اطمأنا لحكمت وعوامتها التي اتخذوها محطة للاتصال بقيادة المخابرات الألمانية.
وفي عوامة حكمت استعان الجاسوسان بالرئيس الأسبق محمد أنور السادات عن طريق حكمت في صيانة وإصلاح وتطوير أجهزة الإرسال الموجودة بالعوامة. ولأن الجاسوسان اعتادا البحث عن فتيات الليل، انكشف أمرهما على يد عاهرة فرنسية هي (إيفيت عن إبلر). فالجاسوس الأول وكان معروفا في مصر باسم (حسين جعفر) اصطادها وقضى ليلة معها في مقابل 20 جنيها إسترلينيا.
وكما كان كريما معها في المال كان كريما في الثرثرة. فلم تتردد العاهرة الفرنسية في إبلاغ الاستخبارات. وتم اعتقال الجاسوسين، ومعهما صاحبة العوامة حكمت فهمي، والسادات وزميله حسن عزت، اللذين طردا من الجيش في 8 أكتوبر من العام 1942. وجرى ترحيلهما إلى سجن الأجانب ثم إلى معتقل قرب مدينة المنيا.
العوامات والسينما
يتطرق البحث إلى جزئية أخرى وهي أن العوامات دوما تشكل مطمعًا لمخرجي السينما، باعتبارها من أماكن التصوير العبقرية، والتي تعطي مساحة إضافية للدراما. حيث ثراء المكان وخصوصيته.
أديب نوبل الكبير نجيب محفوظ الذي كان من مريدي وعشاق العوامات. حيث أقام لفترة طويلة بعوامة حسين باشا دياب، أنجب خلالها كريمته الكبرى. وحين استيقظ محفوظ على حادث غرق طفلة من عوامة هجر حياة العوامات نهائيا. وللعوامات حضور في بعض روايات محفوظ خاصة في الثلاثية.
ومن الطريف أن شاعرنا حافظ إبراهيم أطلقوا عليه “شاعر النيل” لأنه ولد بعوامة في العام 1872.
يذكر الكاتب في بحثه تعرض العوامات إلى تعد واضح في النصف الثاني من القرن العشرين. حين أصدر وزير الداخلية المصري (وقتها) زكريا محيي الدين، قرارا بنقل جميع العوامات من الزمالك والعجوزة إلى منطقة إمبابة في العام 1966. وقيل أن السبب في ذلك يعود إلى عشق زكريا رياضة التجديف في النيل، ويمارسها بشكل دوري نهاية كل أسبوع.
وشعر زكريا أن العوامات تشغل مسطحا كبيرا من مياه النيل، لذا لم يتردد في إصدار القرار الذي أغضب المشاهير من عشاق العوامات والذين ارتبطوا بعوامات بعينها.
وبالفعل تم نقل 65 عوامة من العجوزة إلى إمبابة. كما تم إعدام 37 عوامة أخرى تحمل ذكريات وحكايات لا تنتهي. وتفتقد المحروسة عوالمها، عالم العوامات. فبعد أن كان النيل يحتضن 500 عوامة، فقدنا 477 عوامة، ولم يبق للذكرى سوى 33، منها 9 عوامات مرخصة فقط.
الأثرياء والباشوات
الفرمان الوزاري لم ينل استحسان الأثرياء والباشوات، الذين رفضوا الانتقال إلى المنطقة التي اعتبروها شعبية. فاضطروا إلى بيع عواماتهم بمبالغ ضئيلة أو تركها لمصيرها القاتم، مثل عوامة المطرب فريد الأطرش التي كانت تتألف من طابقين على الطراز العربي. واعتبرت المكان المفضل له لمقابلة أصدقائه من الفنانين والفنانات. وعلى ظهرها لحن أجمل أغنياته خاصة أغنية “حبيب العمر”.
وقد توقع البعض أن تتحول هذه العوامة إلى متحف، لكن ورثته لم يهتموا بصيانتها والحفاظ عليها بعد وفاته. حتى أنهم امتنعوا عن تسديد الرسوم المطلوبة عليها لأجهزة الدولة. فتحولت إلى كهف مهجور. مما اضطر شرطة المسطحات المائية إلى سحبها من الماء نهائيا وتفكيكها وبيعها خردة في عام 1982.
وامتلك الفنان محمد الكحلاوي في أربعينيات القرن الماضي عوامة اعتاد أن يسهر فيها مع جمع من الفنانين والصحفيين والأصدقاء. وفي بعض الأحيان كان ضيوفها من المغنين، وفي عوامة الكحلاوي وسهراتها خرج مشروعا فيلميه “كابتن مصر” و”أحكام العرب”.
سهرات صاخبة
كانت العوامة رقم 75 ملكا للفنان نجيب الريحاني، لكنها غرقت بعد أن رفض الورثة إصلاحها. أما العوامة رقم 66 فكانت تملكها الفنانة منيرة المهدية. وقد اشتهرت هذه العوامة بأنها كانت مقصد كبار المسؤولين ورؤساء الحكومات في عهود مضت.
وقالت في تصريحات لها قبل وفاتها: “لو فكر صحفي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد. ولكن أحدا لم يفكر يومها أن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي”.
وتقول منيرة المهدية في مذكراتها إن رئيس الوزراء آنذاك حسين رشدي باشا – الذي شكل أربع وزارات متعاقبة بدءا من 5 إبريل عام 1914 وانتهاء بتاريخ 19 مايو عام 1919- كان يجتمع مع وزرائه في العوامة ويتخذون القرارات الخاصة بشؤون البلاد. “وكان يقول لي رشدي باشا أنا لما باجي هنا بالي بيروق”. وقال حسين رشدي باشا لمنيرة المهدية: “إنك تستطيعين الحصول على الاستقلال لمصر” بأغنية من أغنياتها. ويقال إنه على أنغام أغنية “يا حبيبي تعالى بالعجل” كان الوزراء والساسة يناقشون تطورات الوضع في مصر المحروسة. وبلغ عشق منيرة المهدية لعوامتها أنها في العام 1963 باعت فيلتها بمنطقة مصر الجديدة بمبلغ 6 آلاف جنيه، وسيارتها، وجاءت لتعيش في العوامة. لكنها تركت الماء وعادت إلى البر مرة أخرى بعد أن غرقت عوامة جيرانها.
تحدي الظلام
ينهي عصام نبيل دراسته ويقول: “عوامات النيل تتبع ثماني جهات مختلفة: إدارة الملاحة، الوحدة المحلية بالجيزة، إدارة حماية النيل، شرطة المسطحات المائية، وزارة الري، أملاك الدولة، الصرف الصحي، وزارة السياحة. وهكذا تفرق دمها بين القبائل.
يتعين أن نشير إلى أن هناك نوعين من العوامات: نوع ثابت لا يتحرك من مكانه. وهو عادة يكون من الخشب مكون من طابقين ومهيأ للسكن تماما. النوع الثاني من العوامات يحتوي على محرك ينتقل بها من مكان إلى مكان. وكان أصحاب مثل هذا النوع من العوامات يتجهون بها إلى الشواطئ خلال فصل الصيف خاصة مصيف رأس البر، وكان هذا النوع يعرف باسم “الدهبية”.