عندما أنقذ أحمد بهاء الدين «صلاح جاهين» من السجن

في أغسطس عام 1974 بدأت واحدة من أهم معارك الفنان المبدع صلاح جاهين (1930-1986) في صحيفة الأهرام. عندما أعلنت لجنتا الصحة والإسكان بمجلس الشعب أن هناك إهمالا وقصورا في مرفق مياه القاهرة، وطالبت بمحاسبة المسؤولين عن هذا التقصير. واعترفت وزارة الصحة بأن هناك شوائب غريبة من الكائنات الحية في المياه ولكنها – على حد زعمهم- غير ضارة بالصحة. كما اعترف رئيس مرفق المياه بأن بعضا من هذه الشوائب تسرّب في المواسير إلى المنازل.

بداية المعركة

هكذا بدأت الأخبار وتوالت الحوادث والتحقيقات وجلسات مجلس الشعب، وتبادلت الاتهامات بين المسؤولين في الدولة حول ظاهرة تلوث المياه. ففي اجتماع عاصف في مجلس الشعب صرّح محافظ القاهرة أن لديه الشجاعة الكافية لأن يعلن أن المياه غير صالحة للشرب إذا كانت كذلك، لكن لم يحدث شيء من هذا حتى الآن وإذا حدث سيعلن الحقيقة للشعب حتى لا يشرب المياه قبل غليها.

وقال وكيل وزارة الصحة إن المياه تحمل نوعا مجهولا من الشوائب وتجري دراسات بواسطة خبراء مصريين وأجانب لتحديد نوعها وما إذا كانت ضارة أَمْ لا. أما عثمان أحمد عثمان وزير الإسكان فقد قال: “إن مرفقي المياه والمجاري ماشيين بقدرة قادر وأنه كان يتوقع ما حدث”. وأجمع أعضاء مجلس الشعب على أن هناك إهمالا في مرفق المياه ولابد من معاقبة المسؤولين.

وزارة جديدة

وفي يوم السادس والعشرين من سبتمبر ظهرت مانشيتات الصحف أن الوزارة الجديدة برئاسة عبدالعزيز حجازي تحلف اليمين مساء اليوم. ومن ضمن الوزراء كان دكتور مصطفى أبوزيد، وزيرا للعدل، مع احتفاظه بمنصب المدعي العام الاشتراكي – هكذا كتب بجوار اسمه. وكان الدكتور مصطفى أبوزيد قد عُين في وظيفة ابتكرها السادات لمحاربة خصومه وهي المدعي العام الاشتراكي. وذلك وقت قضية 15 مايو التي عُرفت بقضية مراكز القوى.

وفي الصفحة نفسها كان الخبر التالي: “تحقيق عاجل تتولاه النيابة في تلوث المياه، طلب الدكتور حجازي إجراء تحقيق عاجل في الوقائع الخطيرة التي عرضها عليه أمس المهندس الكيميائي الدكتور سيد محمود إسماعيل رئيس معمل محطة مياه روض الفرج، والتي تؤكد أن الإهمال في صيانة المرفق هي السبب الرئيسي في تلوث مياه الشرب وليس قلة الكلور. ثم أحيل التحقيق إلى النيابة العام لتتولى التحقيق في الاتهامات التي نسبها المهندس إلى العاملين في المرفق، وقد باشر التحقيق بالفعل السيد جابر ريحان رئيس النيابة، وقد قررت النيابة حفظ القضية وأن المتسبب في تلوث المياه مجهول”.

ريشة صلاح جاهين 

وهنا ظهر دور جاهين لتبدأ مع ريشته معركة، هي كما وصفها أحمد بهاء الدين أول معركة صحفية من نوعها خاضتها صحيفة ضد وزير. انتهت إلى إخراج الوزير منذ زمن طويل جدًا، ويقصد بها هنا منذ ثورة يوليو. ففي الأول من نوفمبر رسم صلاح جاهين في نافذته صورة للمدعي الاشتراكي ولم يرسم صلاح جاهين المدعي الاشتراكي في صورة مسيئة. ولكنه رسمه بكامل أناقته مرتديًا بذلته وفي مكتبه وهو يملي على كاتب التحقيق في موضوع تلوث المياه.

وكتب أعلى الرسم “لا أحد مسؤول عن تلوث المياه”، والمدعي الاشتراكي يقول للكاتب: “تقيد ضد مجهول.. المجهول اللي أنت عارفه بتاع حريق الأوبرا وقصر الجوهرة وسرقة عصاية توت عنخ آمون واختفاء الصابون”. وكانت قصة اختفاء الصابون هي الأخرى من القصص والحكايات والأزمات التي تستحق أن تُروَى وقد خاض فيها صَلاح جاهين بريشته معركة أخرى بعدة رسومات.

وفي اليوم التالي رسم صلاح جاهين رسمة كتب عنوانها “الحكم بعدم مسؤولية أحد عن تلوث مياه الشرب”. ورسم فتاتين إحداهما تقول للأخرى: “ده عريسي مهم قوي في البلد وهو المجهول اللي بيعمل الحاجات اللي بتسمعي عليها!”.

وكان وقتها أحمد بهاء الدين يقول: “كان صلاح جاهين يشاورني دائما في كل رسم كاريكاتيري بالتليفون صباح كل يوم. ووافقته على فكرة رسم المدعي الاشتراكي في صورة كاريكاتيرية، وجاءني صلاح جاهين منزعجا في مكتبي. وقال لي إنه تلقّى بالتليفون استدعاءً بالذهاب غدا إلى النيابة للتحقيق معه في الواقعة المنسوبة إليه. وهدأت من روعه وقلت له أن يذهب إلى الموعد وأن لا يقول أكثر من أنه استخدم حقه في التعبير عن الرأي. وأنه عرض الرسم على رئيس التحرير المسؤول وأنه يطعن في حق المدعي الاشتراكي ومكتبه في التحقيق معه. ويطلب السماح له باستدعاء محام ومندوب من النقابة ورئيس التحرير المسؤول”.

التحقيق مع صلاح جاهين

وفي اليوم التالي- يوم ذهاب جاهين للنيابة-  ظهر في صدر الصفحة الأولى للأهرام بيان بعنوان التحقيق مع صلاح جاهين. كان نصه: “استدعى أمس الأستاذ عبدالحميد صادق، المحامي العام بمكتب النائب العام، الرسام صلاح جاهين للتحقيق معه. بناء على طلب الدكتور مصطفى أبوزيد فهمي بوصفه المدعي العام الاشتراكي. في الكاريكاتير الذي نشره الأهرام أمس وأمس الأول تعليقًا على تقرير نتيجة التحقيق في شأن تلوث مياه القاهرة.

وقد نسب إليه ارتكاب جنحة إهانة إحدى السُّلطات العامة. وقد أبدَى الرسام صلاح جاهين في التحقيق. أنه كان يصدر فيما نشره من كاريكاتير عن حقه في التعليق على أمر من الأمور التي تهم الرأي العام. وأن التقرير محل التعليق تقرير إداري وليست له أي صفة قضائية. وأن مناقشة التقرير لا تعني المساس بسُلطة التحقيق. وأنه أراد به الحث على تحديد المسؤولية عن عدم تزويد مرفق المياه بالكلور وقطع الغيار في الوقت المناسب. واستقى معلوماته عن التقرير مما نشرته الصحف بشأن المؤتمر الصحفي الذي أعلنت فيه نتيجة التحقيق الإداري”.

أعطى أحمد بهاء الدين في هذا البيان درسا لمسؤولية رئيس التحرير الأدبية أمام العاملين في الجريدة. فلم يتهرب أو يلقي التبعة على جاهين ولكنه تصدّر المشهد بهذا البيان الذي ينطوي على التحدي والإعلان عن دخول معركة. ولم يكن ذلك بمألوف. وأحدَث هذا النشر ضجة كبرى جعلت الذين ذهب إليهم صلاح جاهين لا يفتحون معه أي تحقيق في انتظار تعليمات جديدة. وعاد صَلاح جاهين بلا تحقيق بعد أن كاد يزج به في السجن. بل انتهت المعركة بالفصل بين منصبي المدعي العام الاشتراكي ووزير العدل تأكيدا على قيمة الريشة التي يمتلكها الفنان. وقيمة رئيس التحرير حينما يدرك قيمة منصبة ومهنته.

اقرأ أيضا:

رخا سجينا: الكاريكاتير في الزنزانة

زهدي في السجن: رحلة شيخ رسامي الكاريكاتير

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر