عمرو عصام يكتب: لمصر لا لجليلة

قبل عشرة أعوام، وبالتحديد في نهاية هذا الشهر – فبراير من العام 2015 كنت أقوم بإنهاء إجراءات الخدمة العسكرية بمدينة الإسكندرية. لا أزال أتذكر ذلك اليوم جيداً، سلمت مهماتي وودعت أصدقائي، وحملت أغراضي ومتعلقاتي الشخصية وتوجهت صوب إحدى محطات قطار أبو قير الذي يخضع الآن لمشروع تحديث. كم كنت أتمنى أن يكون جزءًا من نقاش مجتمعي واسع نظراً لأهمية هذا المرفق ودوره الحيوي في حياة السكندريين!
***
كانت محطة القطار تبعد عن موقع وحدتي مسافة مناسبة، بحيث يمكن قطعها سيرا على الأقدام دون مشقة أو عناء. خلال رحلة القطار إلى محطة سيدي جابر، كنت قد انتهيت من قراءة الصفحات الأخيرة من أحد الكتب التي كنت أحضرها معي وأقراها بانتظام كلما وجدت متسعاً من الوقت أو كانت الظروف ملائمة. رحلة القطار تلك كانت من نصيب كتاب «التحضر العشوائي»، الذي تعرفت من خلاله لأول مرة على اسم جليلة القاضي. قبل هذا التاريخ بعامين، وتحديداً في شتاء 2013 – خلال فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في موقعه القديم – الأفضل من وجهة نظري بأرض المعارض في مدينة نصر، كنت حريصا للغاية على اقتناء نسخة من هذا الكتاب بعد أن رشحه لي وقتها أحد أساتذتي الذي توفي قبل نهاية 2013، ولم يمهلنا القدر فرصة لمناقشة الكتاب أو اختبار أفكاره!
ظل هذا الكتاب حبيسا في مكتبتي لأكثر من عام، قبل أن أقرأه أكثر من مرة على فترات متقطعة. كان هذا الكتاب بالنسبة لي نافذة على عوالم جديدة ـ أولها المركز القومي للترجمة وما يقدمه من إصدارات شديدة التميز. وكم أتمنى أن تتوافر لهذه المؤسسة العريقة الدعم اللازم والموارد المالية المناسبة لتمويل مشروعات الترجمة بالشكل الأنسب الذي يحفظ للمترجمين حقهم في حياة كريمة، ويحفظ لنا كقراء حقنا أيضاً في نصوص جيدة، تقترب بدرجة كبيرة من روح النص الأصلي ولا تفقده خصوصيته أو مضمونه. -عرفت بعد ذلك أن جليلة بذلت مجهوداً كبيراً أثناء العمل على ترجمة النص الأصلي من اللغة الفرنسية إلى العربية، من خلال المزج بين الكتابة الأدبية والعلمية بالقدر الذي أضاف للكتاب أبعاداً أخرى مثلما حفظ للكتاب خصوصيته كدراسة أكاديمية وأطروحة علمية، وهو شيء تجيده جليلة جيداً – كونها باحثة تعشق الكتابة وتهوى الأدب وأعتقد أننا نتشارك في هذا الاهتمام.
***
تأتي أهمية «التحضر العشوائي» كدراسة أكاديمية باعتبارها واحدة من المحاولات الجادة التي اشتبكت مع مدينة القاهرة ليس فقط من النواحي العمرانية، ولكن الاقتصادية والاجتماعية، التي غالباً ما تغيب عن دراساتنا العمرانية المتخصصة سواء من ناحية العمق أو زاوية التناول والتحليل. وكم أتمنى أن تركز جامعتنا المصرية على نواحي أخرى أكثر أهمية، بعيداً عن تلك النظرة الشكلية للعمارة والعمران في مصر. من خلال هذا الكتاب، تعرفت لأول مرة على أسماء مهمة في الأدب والاقتصاد مثل عبدالحكيم قاسم وعادل حسين، وكيف تقاطع إنتاجهم المعرفي مع مجال الدراسة وموضوعها بشكل عام.
بعد ذلك بشهور قليلة، تعرفت أكثر على الإنتاج المعرفي للدكتورة جليلة القاضي بعد قراءة عملها الجماعي الهام عن مدينة رشيد، وذلك خلال مشاركتي ضمن أحد المشروعات البحثية الواعدة التي تجاوزت مركزية القاهرة، وحاولت التحليق بعيداً نحو المدن الإقليمية. وكم أتمنى أن يتجاوز إنتاجنا المعرفي عن العمران المصري حدود القاهرة والإسكندرية- كمدن كبرى مع التركيز على المدن المصرية الأصغر والأقل حجماً وحظاً أيضاً.
***
مرت سنوات وظلت علاقتي بجليلة لا تتجاوز في حدودها الشبكة العنكبوتية، حتى جاء صيف 2020 ومعه أزمة محور الفردوس (جيهان السادات حالياً)، لتبدأ معه الأستاذة الجامعية فصلا جديدا في حياتها – أعتبره امتداداً لتجربة جليلة ـ فتاة الحركة الطلابية. تأسست مجموعة إنقاذ جبانات القاهرة التاريخية من خلال دعوة جليلة القاضي لمجموعة من المتخصصين والمهتمين بالتراث المصري بشكل عام. – وعلى مدار ما يقرب من خمسة أعوام -، لا تزال هذه المجموعة تعمل بجد وتجرد شديدين وبشكل تطوعي تماماً في سبيل تسليط الضوء على أهمية حماية هذا التراث الجنائزي المتفرد، وضرورة الحفاظ عليه إيماناً منا جميعاً بحق الأجيال القادمة في تراث وطنهم.
هكذا تعرفت على جليلة القاضي عبر إنتاجها المعرفي أولاً، ثم مجموعة إنقاذ الجبانات ثانياً. وطوال هذه المدة، جمعنا لقاءات كثيرة ونقاشات طويلة، بالإضافة إلى أكثر من مشروع بحثي ومعرفي. تحدثنا عن السبعينات، وعن جيل الحركة الطلابية، وكيف تشكلت تلك الحركة وكيف انتهت تلك النهاية المأساوية! جليلة بالنسبة لي نافذة مهمة ومرآة حقيقية على عوالم التراث والمدينة والسياسة والجامعة.
في ذكرى مولدها، أكتب لها وأنا أبعد عن القاهرة آلاف الأميال، متمنياً لها الكثير من السعادة والطمأنينة وراحة البال. وأتمنى أن نحتفل معها جميعاً العام القادم بكتابنا الجديد الذي تعمل عليه فتاة الحركة الطلابية منذ سنوات. إيمانا منها بحتمية المقاومة وضرورة المواجهة. وإيمانا منا جميعا بأن مصر وطن عظيم يجب حماية تراثه بعيداً عن معاول الهدم وقوى التدمير! كل سنة وأنتي طيبة يا أستاذتي الغالية، وأتمنى لكي ولمصر كل الأمان والطمأنينة.
اقرأ أيضا:
ملف| «جليلة القاضي».. 75 عاما في مواجهة القبح
جليلة القاضي: المتمردة الساخرة
أمنية عبدالبر تكتب: جليلة، أستاذتي وصديقتي
د.داليا الشرقاوي تكتب: علمتني الجرأة في التجوال