عمرها 99 عاما.. نزع شبابيك وأبواب «فيلا غُرة» التراثية تمهيدا الهدم
فيلا غُرة، واحدة من أروع الشهادات على عراقة الإسكندرية وتراثها المعماري، وتقف اليوم على أعتاب الاحتفال بمرور مئة عام على إنشائها. لكن هذا الحدث التاريخي يأتي وسط أجواء من القلق، بعدما بدأت معالم العقار تتعرض للطمس، إذ تم نزع شبابيكها وأبوابها الخشبية، وكذلك المعادن المزخرفة، ما أثار تساؤلات حول مصير هذا العقار المميز. وإذا ما كان ذلك تمهيدا للهدم.
تسجيلها بقائمة التراث
تقع فيلا غُرة في 18 باتريس لومومبو (بلجيكا سابقا)، وبحسب الموقع الرسمي لجهاز التنسيق الحضاري، فإن فيلا غُرة مسجلة باعتبارها ذات طابع معماري مميز. وحاولت مالكة الفيلا “هدى محمد إسماعيل أحمد البمبي” تقديم تظلم في وقت سابق لحذفه العقار والحديقة من قائمة الحصر، وقدمه نيابة عنها “خالد زكي الحامولي” بصفته وكيلا عن مالك العقار. لكن كان قرار اللجنة الرفض والإبقاء على العقار وحديقته في جداول الحصر، وأوصت اللجنة بإزالة السور الفاصل بين المبنى وحديقته تأكيدا لمحضر المخالفة برقم 733 لسنة 2006.
حاول «باب مصر» التواصل مع المهندس محمد أبو سعدة، رئيس جهاز التنسيق الحضاري، لمعرفة إذا كان العقار ما زال مدرجا في قوائم الحصر، وسبب نزع الأخشاب والأبواب من العقار، وإذا كانت تلك خطوة تمهيدية للهدم أم التطوير، لكن لم يتم الرد.
قال مسؤول بمحافظة الإسكندرية – رفض ذكر اسمه-: “إن الفيلا حصلت قبل ثلاث سنوات على حكم نهائي بالحذف من القائمة، وجاء الشطب بقرار المحكمة، لكن الإزالة من سجلات المباني المحظورة لا يمنحها قرار الهدم، لأنه قرار آخر مختلف يتم إصداره بعد تغيير ملامح العقار أو إفساده”.
تجارة “أشلاء” التراث
ظهرت فيلا غُرة مجردة من أخشاب الشبابيك والأبواب، وأعمال الحديد “فيرفورجيه” للسور والنوافذ. بالتزامن مع مئوية العقار الذي تم بناؤه في عام 1925. أثار التغيير المفاجئ على العقار غضب الكثير من المهتمين بالتراث. إذ تشهد الإسكندرية تغييرات كبيرة تؤثر على تراثها المعماري. حيث يتم إزالة العديد من القطع المعمارية القيمة مثل البلاط والأبواب والنوافذ.
ويقول المعماري والفنان د. محمد عادل دسوقي: “تساهم هذه التجارة في اندثار الطابع التراثي للمدينة أصبحت صناعة رائجة. إذ تباع كل قطعة يتم فكها من هذه المباني مثل رخام السلالم وحديد المدفأة والشيش الأخضر، أو ما نطلق عليه – أشلاء التراث -. ولهذا السوق طلب كبير في القاهرة وبعض المحافظات الأخرى، بل تصدر إلى أوروبا. وهي تجارة سوداء تفقدنا الثروة الكبيرة المعمارية والعقارية والفنية والعمرانية شديدة الأهمية”.
ويستكمل في تصريحات خاصة لـ«باب مصر»: “يعكس هذا الوضع ثروة ثقافية تذوب تدريجيًا، ومع فقدان هذا التراث، فإننا نفقد أيضًا جزءًا من تاريخ المدينة، الذي كان يشمل تنوعًا ثقافيًا ودينيًا وإثنيًا غنيًا. لكن ما يحل محل هذا التنوع ليس دائمًا ذا قيمة تذكر”.
فيما علق الباحث محمد رحمي على تطورات الفيلا، وقال: “قبل أيام، كنا نحتفل هذا العام باليوم العالمي للمدن 2024، مع التركيز على موضوع الاستدامة، وأشك أن التراث تم وضعه في الاعتبار”.
عودة الهدم وقانون البناء
في حديثه عن الوضع الراهن في الإسكندرية، عبر الدكتور محمد عادل عن عدم وضوح الوضع الحالي، مشيرًا إلى أن خروج بعض العقارات من قائمة التراث يأتي في وقت حساس يتزامن مع عودة قانون البناء.
“الكثير من المباني التراثية تحت التهديد”، بهذه الكلمات وصف الباحث في تاريخ العمارة، الوضع في مدينة الإسكندرية. وأضاف: “عودة البناء تسببت في موجة هدم واسعة لمباني غير مسجلة. وهو ما يجعل من الصعب على أحد المطالبة بوقف عمليات الهدم”.
وأشار دسوقي إلى أن الفترة الأخيرة شهدت توقفًا نسبيًا في الهدم، وكانت المباني التي ما زالت قائمة تتمتع بجودة عالية. لكن مع العودة السريعة لقرار البناء، تم هدم الكثير من المباني، بما في ذلك تهديد فيلا “غرة” التاريخية، متابعا: “لم تتضح بعد التفاصيل المتعلقة بقرار هدم الفيلا، ولكن هناك تكهنات بأنها ستهدم بناءً على حكم قضائي”.
ماكس أدريعي.. معماري مبدع
بحسب المعماري محمد عادل، تتسم فيلا غرة بتصميم مميز، للمعماري المصري “ماكس أدريعي” بالاشتراك مع آخرين مثل أزيما وإدري ودبان، للعائلة الشامية التي كلفتهم ببنائه قديما.
رغم أن اسم “ماكس أدريعي” أجنبيا، إلا أنه معماري مصري من مواليد مركز السنبلاوين بمحافظة الشرقية. ويقول د. محمد عادل: “يعد ماكس أدريعي من أبرز المعماريين الذين تركوا بصماتهم في مدينتي الإسكندرية والقاهرة. فقد صمم في الإسكندرية العديد من المباني المهمة بالتعاون مع معمارين آخرين، مثل مبنى كلية سان مارك. وفي القاهرة قام بتصميم دار القضاء العالي، ليكون له حضور معماري متميز في مصر. وهو مصري ولد في السنبلاوين ودرس في باريس وعاد لمصر”.
واختار موقع “فيلا غرة” الحالي لبناءها بالحي اللاتيني بالإسكندرية، لأنه قديما كان حي معروف بكثافة السفارات والمرافق الدبلوماسية. ويعد من الأحياء التي احتفظت بطابعها الخاص كمنطقة سكنية تضم الفيلات والقصور.
ويستكمل الخبير المعماري: “تطل الفيلا على استاد الإسكندرية، لكن الوضع تغير مؤخرًا، حيث تم إزالة جميع نوافذها وأبوابها الحديدية المزخرفة، في خطوة تشير إلى أن عملية الهدم قد تكون وشيكة. أصبحت الآن مجرد جدران تنتظر البلدوزر في أي لحظة”.
فيلا شيكوريل.. تراث مفقود
تطرق المعماري إلى تصميم ماكس أدريعي “فيلا شيكوريل” الشهيرة. ويقول: “تم هدمها وأقيم مكانها عمارة سكنية غير جذابة، رغم محاولات عديدة للحفاظ عليها عبر مناشدات ووقفات احتجاجية. كما لا تزال هناك العديد من الأسئلة حول ملكية فيلا شيكوريل. إذ كانت في السابق تابعة للقصور الرئاسية حتى عام 1977، حيث كانت مسكنًا للرئيس الراحل مبارك”.
ويستكمل: “لم يتضح بعد كيف انتقلت ملكيتها إلى آخرين أو لماذا تم هدمها. هذه الأسئلة ظلت دون إجابة طوال السنوات العشر الماضية. رغم أنها تظل شائكة ومحورية في النقاش حول حماية التراث في المدينة”.
عائلة غُرة الشامية
وبحسب الباحث محمد رحمي، يرجع تاريخ “فيلا غرة” إلى عائلة غرة الشامية التي استقرت في مصر في القرن التاسع عشر. وتم بناء الفيلا في عام 1925. وتتميز بإطلالتها على استاد الإسكندرية. ومن بين أفراد العائلة البارزين ألفريد غرة الذي ترأس البنك الإمبراطوري العثماني في الإسكندرية لفترة طويلة.
ويستكمل عن تاريخ العائلة، أنه بالإضافة إلى إدجار غرة، وهو محامي عمل في وزارة المالية المصرية. وحصل على وسام الخديوي إسماعيل عام 1936 تقديرا لخدمته العامة الاستثنائية. مضيفا أن إيلي غرة الذي ترأس الجالية السورية في الإسكندرية وأدار مع إبراهيم وجان غرة إحدى أهم شركات السمسرة في الإسكندرية. وكان إيلي هو آخر من عاش في فيلا غرة.