عماد أبو غازي يكتب: السينما في دراسات الوثائق والأرشيف

عرفت مصر السينما في فترة مبكرة جدًّا بعد ظهورها في العالم؛ فقد قام الأخوان لوميير الفرنسيان بأول عرض سينمائي عام لهما في ديسمبر 1895، وفي نوفمبر 1896 شهدت مدينة الإسكندرية أول عرض سينمائي، تلتها القاهرة ثم بورسعيد في 1898. ومن ثم بدأ إنشاء دور العرض السينمائي في عدة مدن في البلاد، فدخلت السينما كفن أجنبي وافد في البداية. كما قامت بعثتان للأخوين لوميير بتصوير أفلام في مصر في 1897 و1906.

وقد شهد عام 1907 إنتاج أول فيلم سينمائي تسجيلي في مصر عن زيارة الخديوي للمعهد العلمي بمسجد المرسي أبو العباس بالإسكندرية، فدخلت مصر بذلك عصر صناعة السينما، على يد بعض الأجانب المقيمين في مصر. لكن الفترة ما بين 1912 و1927 شهدت دخول المصريين بقوة في عالم صناعة السينما، إنتاجًا وإخراجًا وتمثيلًا على يد بعض الهواة الذين أنتجوا أفلامًا تسجيلية قصيرة، ثم على يد الرائدين محمد كريم ومحمد بيومي، ثم عزيزة أمير. وتطورت صناعة السينما في مصر بسرعة مواكبة صناعة السينما في العالم، وبلغت أهمية هذه الصناعة الدرجة التي تشير معها بعض الدراسات إلى أن صناعة السينما احتلت المرتبة الثانية بعد صناعة الغزل والنسيج مباشرة في مرحلة مبكرة من تطورها.

تطورت الصناعة في مصر من السينما الصامتة إلى السينما الناطقة ثم الفيلم الملون، وساهم في الصناعة عدد من الأجانب المقيمين في مصر. عَرفت مصر الفيلم الروائي القصير، والفيلم التسجيلي، أو الوثائقي، ثم الفيلم الروائي الطويل، كما عرفت الجريدة السينمائية المصورة، التي تعد مصدرًا مهمًّا لدراسة تاريخ مصر الحديث، وكانت جريدة “آمون” السينمائية أول جريدة سينمائية مصرية صامتة، بدأت في 1923، وكان الوفد المصري قد لجأ قبلها إلى شركة إيطالية لإنتاج أفلام وثائقية تسجل نشاط قادة الوفد، وتدعو للقضية المصرية، ثم ظهرت جريدة مصر السينمائية التي بدأت مع أستوديو مصر الذي أسسه طلعت حرب، ثم تولت الدولة إنتاجها في فترة لاحقة.

***

إذن عرفت مصر منذ السنوات الأخيرة في القرن التاسع عشر السينما، وقد بدأت بالعروض، ثم إنتاج الأفلام. بدأ الإنتاج أجنبيًّا وسرعان ما تمصر، ودخلت الدولة فيه مع الستينيات. كما لعبت بعض الشركات الأجنبية دورًا في الإنتاج، وكانت هناك مشاركة كبيرة لأجانب مقيمين في هذه الصناعة. وشهدت مصر تجربة للقطاع التعاوني، كما ظهرت تجارب عدة للسينما المستقلة وللإنتاج المشترك الذي حصل على تمويل أجنبي.

وفي 1960 دخلت مصر عصر التلفزيون بإنشاء التلفزيون العربي الذي بدأ في سنواته الأولى بقناتين أصبحتا ثلاث قنوات، ثم زاد عددها بشكل كبير في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وقد بدأ التلفزيون في مصر حكوميًّا تابعًا للدولة بالكامل، بل كان أحد أدواتها الأساسية في تشكيل الوعي والترويج للسياسات العامة لها، وقد ظل احتكار الدولة للبث التلفزيوني لسنوات طويلة، لكن مع اتساع نطاق ثورة المعلومات والاتصالات وظهور الفضائيات وأطباق الاستقبال، وافقت الدولة في مصر على السماح بإنشاء شبكات البث الإذاعي والتلفزيوني الخاصة وفق ضوابط محددة، وقد أضاف ظهور التلفزيون منذ مطلع الستينيات مادة فلمية غنية إلى جانب الأفلام السينمائية بأنواعها المختلفة.

هناك كذلك مجال آخر استفاد من السينما؛ أعني: مجال التراث الثقافي بشقيه: التراث المادي الذي تخلف عن عصور الحضارة المصرية المختلفة، والفنون والحرف التراثية؛ فكلاهما استفاد من التطورات التي جاءت بها الثورات التقنية في القرنين الأخيرين، في مجال التوثيق والأرشفة. فقد استعانت مؤسسات حفظ التراث التابعة للدولة بالتقنيات التي ظهرت في القرنين الماضيين في إنتاج صور فوتوغرافية وتسجيلات صوتية ومواد فيلمية للمواد التراثية المختلفة، فخلف لنا هذا المجال مواد فيلمية أرشيفية احتفظت بها هذه المؤسسات.

***

إننا إذن أمام إنتاج كبير من المواد الفيلمية ممتد لأكثر من مئة سنة، فهل نمتلك أرشيفنا القومي للمواد الفيلمية؟ وإذا كان هذا الكم الكبير من المواد الفيلمية المتنوعة ما بين المادة الوثائقية والأفلام التسجيلية وأعداد الجريدة السينمائية والأفلام الروائية، يشكل جزءًا من تراث مصر الفني، فمن المفترض أن يشكل مادة مصدرية غنية لدارسي تاريخ السينما في مصر، ومصدرًا للدراسات حول تاريخ مصر الحديث والمعاصر؛ لذلك فقد كان من المفترض أن نحافظ على هذا التراث السينمائي الثري ونحميه ونيسر إتاحته للباحثين، لكن واقع الحال خلاف ذلك.

هناك إدارة تابعة لوزارة الثقافة تحمل اسم “الأرشيف القومي للسينما”، لكن هذا الأرشيف -إذا جاز لنا أن نسميه كذلك- تواجهه عقبات كثيرة بسبب المشكلات القانونية والإدارية والمالية، وأيضًا بسبب مشكلة غياب الوعي الأرشيفي والإدراك لأهمية وجود أرشيف قومي حقيقي للسينما، كذلك يمتلك التلفزيون المصري الحكومي مكتبةً للشرائط تضم موادَّ وثائقية شديدة الأهمية، لكنها لا تعكس التاريخ الحقيقي للتلفزيون المصري، فالكثير مما أنتجه التلفزيون منذ تأسيسه في 1960 لم يُحفَظ وأصبح تراثًا مفقودًا.

نستطيع أن نقول: إننا نمتلك أرشيفًا قوميًّا للسينما على الورق، لكننا لا نمتلك على أرض الواقع مؤسسة أرشيفية تحفظ تراثنا السينمائي، لقد بدأ الاهتمام بإنشاء كيان مؤسسي لحفظ الإنتاج السينمائي عندما أسست “مصلحة الفنون السينماتيك المصرية” في 1956، وانتقلت بعد إلغاء مصلحة الفنون إلى مؤسسة دعم السينما عام 1964، وفي فبراير 1970 أصدر وزير الثقافة الدكتور ثروت عكاشة القرار الوزاري رقم 129 لسنة 1970 بإنشاء الأرشيف القومي للفيلم، وانضم الأرشيف إلى الاتحاد الدولي للأرشيفات السينمائية.

***

ونظرًا لعدم الجدية في إيداع نسخ من الأفلام في الأرشيف صدر القانون رقم 35 لسنة 1975 ليلزم المنتجين والموزعين بإيداع نسخة 35 مم من كل شريط سينمائي من الإنتاج المصري أو المشترك لصالح الأرشيف القومي للفيلم. وعند إنشاء المركز القومي للسينما أصبح الأرشيف إدارة من إداراته، وألزم القرار الوزاري رقم 244 لسنة 1981 شركات الإنتاج بإيداع نسخة من أفلامها بالأرشيف، لكن الممارسة الفعلية لم تسفر عن تأسيس أرشيف حقيقي للسينما في مصر.

تعاني مصر من مشكلات كبيرة فيما يتعلق بحفظ التراث السينمائي والمواد الفيلمية عمومًا، ليس أولها بيع أصول الأفلام السينمائية التي أنتجتها شركات الإنتاج الخاصة لجهات غير مصرية، فمنذ البداية لم يتم إعداد مكان ملائم لحفظ نسخ سالبة من الأفلام يحافَظ عليها من التلف، كما أن التزام المنتجين بإيداع نسخ من أفلامهم ضعيف، بل حتى مؤسسة السينما التابعة للدولة تقاعست في إيداع نسخ من الأفلام التي أنتجتها، والمحصلة أن الأرشيف لا يقوم بمهامه المنوطة به رغم مرور أكثر من خمسين عامًا على تأسيسه، وما يحتفظ به من أفلام أقل من نصف ما تم إنتاجه بالفعل، والكثير منها في حالة سيئة بسبب ظروف الحفظ غير الملائمة.

ورغم أن هناك مطالبات متجددة من لجنة السينما بالمجلس الأعلى للثقافة منذ مطلع الألفية على الأقل لإنشاء أرشيف حقيقي للسينما ومتحف للسينما في مصر، ورغم صدور أكثر من قرار وزاري بتخصيص أماكن للمتحف والأرشيف والسينماتيك، ورغم مشروعات قدمها المسؤولون عن المركز القومي للسينما منذ 2009، ورغم الحصول على منحة تدريبية من فرنسا للتدريب على العمليات الفنية في أرشيفات السينما خلال 2011، فلم يحدث إلى الآن تقدم حقيقي في اتجاه إنشاء هذا الأرشيف.

"غلاف

المقررات الدراسية والدراسات الأكاديمية المرتبطة بأرشيفات المواد الفيلمية في مصر:

 انتقل الاهتمام بالوثائق وحفظها ودراستها إلينا في القرن التاسع عشر، تمثلت أول مظاهر الاهتمام في إنشاء الدفتر خانه العمومية سنة 1829 كأول مؤسسة أرشيفية حديثة في مصر، وفي النصف الثاني من القرن نفسه ظهرت أولى الدراسات الوثائقية أو المعتمدة على الوثائق، ثم بدأت الدراسة الأكاديمية لعلوم الوثائق في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بتأسيس معهد الوثائق والمكتبات التابع لكلية الآداب بجامعة القاهرة، لكن الاهتمام بدراسة المواد الفيلمية كوثائق تأخر لسنوات تقارب ربع القرن.

كانت البداية بإضافة مادة المصغرات الفيلمية في لائحة قسم المكتبات والوثائق اعتبارًا من سنة 1984، وكانت قاصرة على دراسة استخدام الميكروفيلم وغيره من أشكال المصغرات الفيلمية كوسيط تنقل عليه الوثائق التقليدية. وفي نفس اللائحة أصبح هناك مقرر دراسي لإدارة الأرشيفات المتخصصة، تغير اسمه من لائحة لأخرى، لكن محتواه ظل يدور حول دراسات الأرشيفات التي تحتفظ بوثائق ذات طبيعة غير تقليدية، ومن بينها أرشيفات المواد المسموعة والمرئية، ومنها بالطبع أرشيفات الأفلام بأنواعها. وتتركز الدراسة في هذا المقرر حول تعريف هذا النوع من الأرشيفات والعمليات الفنية التي تُجرَى فيها.

***

لقد بدأت هذه المقررات الدراسية في برامج قسم المكتبات والوثائق بكلية الآداب بجامعة القاهرة، حيث كان القسم الوحيد على مستوى الجمهورية، ومنذ ثمانينيات القرن الماضي توالى إنشاء أقسام المكتبات والوثائق والمعلومات في مختلف الجامعات المصرية، وتضمنت برامج الكثير منها مقررًا يدرس الأرشيفات المتخصصة، كما تتضمن برامج الدراسات العليا بشعبة الوثائق (الدبلومات والماجستير والدكتوراه) مواد دراسية ترتبط بدراسة الأرشيفات المتخصصة، وأرشيفات المواد المسموعة والمرئية.

ويدرس المقرر -في آخر لائحة لشعبة الوثائق سيبدأ العمل بها اعتبارًا من العام الدراسي القادم 2024/2025 الموضوعات التالية: إدراك الفرق بين الأرشيفات المتخصصة والأرشيفات النوعية، وتطبيق العمليات الفنية المختلفة داخل الأرشيفات المتخصصة والنوعية بأنواعها المختلفة، والمقارنة بين أهم الخدمات المقدمة داخل تلك الأرشيفات، والتعرف على الجوانب القانونية المتعلقة بالإتاحة والاطلاع داخل الأرشيفات المتخصصة والنوعية، مع التركيز على دور التجارب الوطنية والدولية في مجال الأرشيفات المتخصصة والنوعية.

وأضيف إلى المقررات الدراسية بالقسم مقرر فن السينما، وهذا المقرر واحد من مقررات الفنون والحضارة التي أقرها المجلس الأعلى للجامعات للاختيار من بينها، ويتضمن هذا المقرر التعريف بتاريخ السينما، ومفهوم السينما وأهميتها وأثرها على الفرد والمجتمع، ومراحل صناعة السينما، وعناصر تشكيل السينما، والسينما العربية وبخاصة المصرية، والمصطلحات السينمائية.

***

وأنشَأَ قسم الوثائق والمكتبات وتقنية المعلومات بكلية الآداب بجامعة القاهرة منذ 2018 برنامجًا بينيًّا من ضمن برامج الدراسات العليا التي يقدمها يختص بتوثيق المواد التراثية، ومن ضمن مقرراته الدراسية مقرر يحمل عنوان أرشيفات المواد السمعية البصرية. ويهدف إلى أن يمتلك الدارس القدرة على التعامل مع المواد المسموعة والمرئية وحفظها وأرشفتها بشكل سليم، والتعامل مع البرامج المختلفة التي تساعد على رقمنتها وترميمها بشكل آلي، كما يتمكن من التعرف على تاريخ وطبيعة المواد الأرشيفية السمعية والبصرية، واكتساب المهارات التي يتم من خلالها متابعة أنشطة إدارة الأرشيفات السمعية البصرية.

وتتناول محتويات المقرر عدة موضوعات، مثل: ظهور المواد السمعية والمواد البصرية، وتطورها كوسائط لنقل المعرفة والإبداع وحفظ التراث، ومفهوم الأرشيف السمعي البصري، وأنواع المواد السمعية والبصرية، أساليب حفظها وأرشفتها، الضوابط القانونية لإدارة أرشيفات المواد السمعية والبصرية، ومعايير عملها، والتحديات التي تواجه عملها، وإستراتيجيات مواجهتها، كما يتعرف على الأرشيفات السمعية البصرية على النطاق العالمي، ووضع الأرشيفات السمعية البصرية في مصر، وتتناول الدراسة أيضًا رقمنة الأرشيف السمع بصري.

كذلك بدأ التفكير في استخدام المواد الفيلمية في التدريس، ففي إطار برنامج الماجستير بجامعة ليدز في المملكة المتحدة قدم باحث مصري التطبيق الأول لاستخدام الفيلم كوسيلة للتدريس في مقررات المكتبات عام 1987. كما بدأ الاهتمام بتسجيل رسائل للماجستير والدكتوراه تتناول المواد الفيلمية من مداخل مختلفة، كانت الدراسة الرائدة في هذا المجال، رسالة دكتوراه في شعبة المكتبات، تناولت مكتبة الشرائط بالتلفزيون المصري نوقشت في عام 1993، وتوالى بعد ذلك تسجيل الرسائل التي تتناول السينما من زوايا مختلفة، كما صدرت على مدار السنوات الثلاثين الماضية أبحاث أكاديمية تناولت موضوع أرشيفات المواد الفيلمية، كذلك بدأ الاهتمام في أقسام التاريخ بدراسات تعتمد على الفيلم السينمائي كمصدر للتاريخ.

الثورة الرقمية ومستقبل أرشيفات المواد الفيلمية:

يعيش العالم لحظة فارقة يعاد فيها تشكيل ملامح الحياة على كوكبنا، واللحظة ليست وليدة اليوم، بل حالة تحول وحراك ممتد لأكثر من خمسين عامًا؛ فقد دخل عالمنا منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي ما يمكن أن نسميه ثورة الاتصالات والمعلومات، التي قامت لبناتها الأولى على منجز المراحل الأخيرة من الثورة الصناعية.

لقد شهدنا في العقود الخمسة الماضية تحولات فارقة في مسيرة البشرية، وشهد العقد الأخير من القرن الماضي تطورًا هائلًا في مجال المعرفة ووسائل اكتسابها بفضل إنجازات ثورة المعلومات المستندة إلى مـا تحقق من تقدم هائل في الاتصالات، والانتقال إلى حضارة الموجة الثالثة، ثم التحول بسرعة لما نسميه عصر مجتمع المعرفة.

في ظل هذا التحول يأخذ دور الأرشيفات بشكل عام أبعادًا جديدة، فالأرشيفات بأنواعها المختلفة -بما فيها أرشيفات المواد الفيلمية- تعتبر مصدرًا من مصادر المعرفة، التي هي أساس القوة في العصر الراهن، لقد بات جوهر التنمية الإنسانية مرتبطًا بعملية توسيع الخيارات أمام الناس، الأمر الذي يعني إتاحة أكبر قدر من المعلومات أمامهم، ويشكل الأرشيف كمصدر من مصادر المعلومات الأساسية في المجتمع، نقطة من نقاط الارتكاز في هذه العملية، ففي العصر الجديد أصبحت التحولات على الصعيد الثقافي والمعرفي حاسمة في إنجاز التطور المنشود، فالمعرفة هي كلمة سر العصر الجديد، وقد باتت منتجًا إستراتيجيًّا في هذا العصر.

***

لقد أضحى اقتحام مجتمع المعرفة والدخول إليه بقوة وجسارة ضرورة لازمة لتحقيق التنمية البشرية الشاملة والمستدامة، وكما ورد في تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول الصادر في 2002، فإن فجوة المعرفة أصبحت تُعَد المحدِّد الرئيس لمقدرات الدول في عالم اليوم، بعد أن كانت فجوة الدخل هي التي تحدد قدرات الدول.

وكما أكدت التقارير الخاصة بالمعلومات في العالم منذ مطلع الألفية، فإن الثقافة باتت تشكل روح التنمية، كما يشكل الإنتاج الثقافي للمجتمع وصناعاته الثقافية دعامة أساسية من الدعامات التي يقوم عليها مجتمع المعرفة، ويشكل توافر الإطار المؤسسي الملائم عنصرًا مهمًّا في عملية اكتساب المعرفة، كما يشكل توافر المعلومات وتدفقها عنصرًا أساسيًّا في هذه العملية.

يضعنا العصر الجديد أمام إمكانيات واسعة غير مسبوقة في إنتاج المعرفة والوصول إليها، بما في ذلك إنتاج المواد الفيلمية بالطبع، وكذلك في قدرات العمل الأرشيفي. لكنه في الوقت ذاته يضع أمامنا تحديات كبيرة فيما يتعلق بمستقبل أرشيفات السينما، ومستقبل المادة الفيلمية عمومًا، وفي مجتمعنا الذي يعاني من مشكلات عميقة في أرشيفه القومي للفيلم، وفي مكتبة الشرائط في التلفزيون، بل في عمل الأرشيف بشكل عام تصبح التحديات أمامنا أكبر وأعمق.

***

لقد انعكس التطور في مجال الاتصالات والبرمجيات بشكل واضح على واقع الثقافة بشكل عام في مختلف المجتمعات الإنسانية، وعلى عمليات الإنتاج الثقافي -بما في ذلك الإنتاج السينمائي- بصورة تجعل الاحتمالات المستقبلية الـواردة فيما يخص الأوضاع الثقافية مفتوحة.

يتيح العصر الجديد أمامنا إمكانيات كبيرة؛ فيفرض العصر الرقمي قيمًا جديدة مرتبطة بالتحولات التي تفرضها البيئة الرقمية على حياة الناس، كذلك فإن للثورة الرقمية تأثيرها على اقتصاديات الصناعات الثقافية بما في ذلك صناعة السينما. لقد ظهر مفهـوم الصناعات الثقافية مع الثورة الصناعية، لكن الآن مع الثورة الرقمية وما يصاحبها من تطورات شهدت الصناعات الثقافية تحولات في شكل المنتج الثقافي ومحتواه.

فقد انعكس هذا التطور على عمليات الإنتاج الثقافي في أكثر من اتجـاه، حيث دفعت الثورة الرقمية بالصناعات الثقافية إلى الأمام بقوة بما قدمته من إمكانيات كبيرة في إنتاج الثقافة ونشرها، مما أدى إلى ظهور مفـاهيم جديدة للإنتاج الثقافي مغايرة لتلك المفاهيم التي سادت منذ عصر الثورة الصناعية، حيث يؤدي التطور في تقنيات المعلومات والاتصالات إلى طمس الحدود بين المنتج المعلوماتي والمنتج الثقافي، وإلى تداخلهمـا مع المنتج الترفيهي. فأساليب الإنتاج وهياكله وعمليات التوزيع وظروف استخدام المستهلك للسلعة في الحالات الثلاث تكاد تكون متطابقة الآن.

***

تتيح الثورة الرقمية إمكانات جديدة في إنتاج الثقافة وتلقيها، ليس فقط على مستوى الدول والمجتمعات، بل حتى على المستوى الفردي، فكثيرًا ممـا كان يعد صناعـات ثقافية أصبح من الممكن إنتاجه بتكلفة محدودة، وتوزيعه بشكل واسع النطـاق، بالاستعانة بالتقنيات الحديثة للحاسبات الآلية في الاتصالات ونقل المعـلومات عبر الإنترنت.

فقد بات متاحًـا لنا أن نستخدم التقنيات الرقمية الحديثة في إنتاج الأفلام بتكلفة زهيدة نسبيًّا وبإمكانيات محدودة، وأصبح من الممكن -على سبيل المثال- أن ينتج المبدع عمله اليوم دون حاجة إلى منتج وموزعين، حيث يصوره بالكاميرات الرقمية، ثم يوزعه إلكترونيًّا ويتواصل مع منصات العرض، كما يحصل على العائد مباشرة كـذلك من خلال بطاقات الائتمان ووسائل الدفع الإلكتروني، أو على عوائد الإعلانات على المنصات المختلفة، وهذا يؤدي في المحصلة النهائية إلى منتج ثقـافي أقل سعرًا وأكثر انتشارًا.

ومن هنا تغيرت تمامًا اقتصاديات الإنتاج الثقافي فضلًا عن إمكانية التفاعـل المباشر بين المبدع والمتلقي، لكن من الآثار السلبية للإمكانيات التي تتيحها الثورة الرقمية: أنها فتحت أبوابًا واسعة لانتهاك حقوق الملكية الفكرية، وقرصنة الأعمال السينمائية، بما يترتب على ذلك من نتائج مدمرة لاقتصاديات الصناعة.

لكن ما تأثير ذلك كله على مجال الأرشيف؟

المشكلة الأولى التي تواجهنا: هي حفظ التراث السينمائي الرقمي، فإذا كان العصر الرقمي يتيح لنا إمكانيات رقمنة التراث وإتاحته عن بعد بما يحقق الحفاظ عليه ماديًّا وتوسيع دوائر المستفيدين، فمن ناحية أخرى فإن العصر الرقمي يفرض علينا تحديات جديدة. فما مصير المنتج الثقافي الرقمي الذي سوف يصبح تراثًا بعد سنوات قليلة، إذا كنا لم ننجح إلى الآن في جمع التراث السينمائي التقليدي والحفاظ عليه، رغم أن جهات إنتاجه معلومة لنا، فما بالنا بهذا الكم الهائل من المواد الفيلمية الرقمية؟

المشكلة الثانية: تتعلق بالتطور السريع في البرمجيات والوسائط الحاملة للمادة الفيلمية، لقد ظهرت منذ منتصف الستينيات إشكالية إطالة عمر محتوى الوسائط الإلكترونية مع البدايات الأولى لاستخدامها، والانتباه إلى أن التطورات المتلاحقة في البرمجيات وفي الوسائط تؤدي إلى فِقدان المحتوى، ومن هنا فلا بد من العمل على إطالة عمر المحتوى بنقله من وسيط إلى وسيط أحدث، وبتمكين البرامج الأحداث من قراءة المحتوى الذي استخدمت فيه البرامج الأقدم.

المشكلة الثالثة: أن إنتاج المادة الفيلمية الرقمية أصبح متاحًا بسهولة للكافة، فلدينا طوفان من المواد الفيلمية الرقمية، وأصبح في قدرة كل واحد منا أن يكون موثقًا باستخدام كاميرا الموبايل، ورغم ما يضيفه ذلك من قوة للأفراد فإنه يضع مصداقية المادة المنشورة على المِحَك، فالعالم الرقمي مفتوح أمام الجميع بلا قيود.

***

ومِن ثَم علينا إذًا أن نضع القواعد للتحقق من صحة المادة الفيلمية الوثائقية، مما أدى إلى ضرورة التوسع في مجالات دراسات الوثائق الفيلمية، وأضاف لها أبعادًا جديدة؛ منها: التعامل مع المادة الفيلمية الرقمية كما نتعامل مع الوثائق النصية الرقمية، من حيث نقدها وتحليلها؛ من أجل التأكد من صحة محتواها. ولا شك في أن المستقبل يحمل في طياته مشكلات أكبر مع التطور في مجال الذكاء الاصطناعي، مما يزيد من عبء التحقق من الصحة في الوثائق الفيلمية.

خلاصة القول: رغم أن مصر عرفت العروض السينمائية بعد شهور قليلة من أول عرض سينمائي في باريس، ورغم أن مصر عرفت صناعة السينما منذ العقد الأول من القرن العشرين، وتطور فيها فن السينما واستقر منذ عشرينيات القرن الماضي، ورغم أن الخمسينيات شهدت إنشاء السينما تيك، والستينيات شهدت تأسيس أرشيف الفيلم، ورغم أن الدراسات الأكاديمية لأرشيفات المواد الفيلمية بدأت في ثمانينيات القرن العشرين، فالمسافة بين الواقع والمستهدف ما زالت بعيدة للغاية.

مقاطع من دراسة طويلة للدكتور عماد أبو غازي عن «السينما والأرشيف» منشورة في كتاب «مرايا السينما» – بإذن خاص من دار المرايا.

اقرأ أيضا:


ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»

ماجد نادر يكتب: «وزير هيمثل معاك؟!»

د. محمد عفيفي يكتب: «عماد أبو غازي» مؤرخًا

بسمة عبد العزيز تكتب: في مَحبة الحضور الهادئ الطاغي

د. سلمى مبارك تكتب: إنسان من الطراز النادر

د. أنور مغيث: مع «عماد»

د. ياسر منجي يكتب: لأنه أبَى إلا أن يكون «عمادًا»

كريم زيدان يكتب: المحب لما يعمل.. المخلص لما يعتقد

وليد غالي يكتب: «النبيل»

مشاركة
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر