«عماد أبو غازي» وأرستقراطية الثقافة المصرية

ينتمي الدكتور عماد أبو غازي إلى قبيلة من زمن قديم: أرستقراطية إدارة الثقافة المصرية وحارسة محفوظاتها، وهذان معلمان من ثلاثة تخطر بالبال، إن ألقينا نظرة شاملة موجزة على مسيرة الدكتور عماد. المعلم الثالث قد يبدو من نافلة القول، لكن في عالم اليوم هو معلم بالغ الأهمية في عالم الإدارة بشكل عام: عماد أبو غازي رجل مهذب، حلو المعشر، قبل أن يتولى وزارة الثقافة وبعدها، وهذه خصال قد عزت بين قيادات الإدارة في العالم كله.
كنت معيداً شاباً في كلية الآداب بجامعة القاهرة في الثمانينات، حين برز عماد أبو غازي ضمن مجموعة من شباب المدرسين الطليعيين التقدميين، الذين يمكن أن نصفهم إجمالاً بالمجموعة اليسارية -بالمعنى العام الأخلاقي للكلمة، وربما بشيء من المجاز. واليوم أراه وهو يلقي دروسه ويحاضر في سميناره بالجامعة -التي أزورها إلى اليوم بانتظام- ولم يتغير فيه شيء من حيويته وحرصه على دعم طلابه والتفاعل معهم، ولم يزد إلا علماً وخبرة.
***
أظن النظر إلى منجز عماد أبو غازي المؤسسي يثري عمل مؤرخي الثقافة ومؤسساتها المصرية إن انطلق في تحليل ثلاثة أوجه لموقعه في تاريخنا الثقافي، خاصةً وأن الحالة الثقافية المؤسسية عام 2025 لا تبدو صالحة لإعادة إنتاج شخصيات لها نفس الملامح المعرفية والمؤسسية. ربما لا تنبت التربة الثقافية المصريةقبل عدة عقود قادمة شجرة جديدة من فصيلة عماد تتمتع بالصفات الثلاث:
1) التعامل بأسلوب راق وفضل متوارث مع الأفراد والملفات الثقافية، وهو ما أسميه انتماء عماد إلى أرستقراطية إدارة الثقافة والمعرفة في الجامعة والوزارة.
2) الوقوف على أرشيف حيوي ونادر يوثق تاريخ الإدارة الثقافية وجانباً من تاريخ إنتاج الثقافة والمعرفة.
3) البساطة والاحترام الجم للكبير والصغير وتجلي ذلك في دعمه لشباب الباحثين والموظفين على السواء.

أرستقراطية الإدارة
تجربة عماد أبو غازي في العمل كأمين عام مساعد للمجلس الأعلى للثقافة ثم كوزير للثقافة لسنين طويلة نموذج لتجربة انتهت بنهاية ثورة يناير 2011، وإن لم يكن آخر من مثلها. هو ابن تجربة اعتماد الدولة -بالذات في مجال الإنتاج الثقافي- على كوادر جامعية تشغل مناصب وسيطة ثم قيادية على أن تتولى قيادة مؤسسات وزارة الثقافة، بل وقيادة الوزارة نفسها أحياناً.
هكذا صاحب الدكتور عماد أبو غازي الدكتور جابر عصفور منذ توليه منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة تحت قيادة الوزير التاريخي الفنان فاروق حسني. وتجربة عماد في العمل لسنين طويلة مع الدكتور جابر عصفور كرئيس للإدارة المركزية بالمجلس الأعلى للثقافةثم كأمين عام للمجلس، بما مجموعه اثنا عشر عاماً، كانت امتداداً للتواصل بينهما في كلية الآداب جامعة القاهرة. وقد ظلت الجامعة العريقة لعقود معمل كوادر وقيادات المؤسسات الثقافية المصرية.
كانت تجربة عماد أيضاً تجسيداً لما أسميته أرستقراطية الثقافة. ليس المقصود هنا تعبيراً طبقياً مطلقاً، بل الإشارة إلى نخبة تتكون بالعمل في خدمة الدولة، والانطلاق من مؤسسات إنتاج النخب، مثل الجامعة والعائلات ذات التاريخ العريق في دواليب الدولة. عماد أبو غازي حفيد المثال المصري العظيم محمود مختار، وابن وزير الثقافة المهم بدر الدين أبو غازي في عصر السادات.
***
وعماد هو الأستاذ الجامعي والمؤرخ العام، ومؤرخ الحركة التشكيلية في عصر النهضة في مطلع القرن العشرين، وهو نفسه الشخص الذي لم تغيره المناصب، فكان الأستاذ الجامعي والباحث ومنتج المعرفة قبل الوزارة وبعدها. ومن الدال أن بدر الدين أبو غازي قد تولى الوزارة لسبعة شهور فقط، وتولاها عماد أبو غازي لتسعة شهور فقط، فكلاهما لم يكن متوافقاً مع السياق الإدارة والسياسي الذي توليا فيه الوزارة (بدايات عصر السادات، وبدايات عصر ثورة يناير). وهذه علامة من علامات أرستقراطيتهما: لم يكونا عبيداً للمنصب، وإن كان يخدمان المؤسسة عن طيب خاطر.
يعرف العالم كله ظاهرة الأسر التي تعمل في مؤسسات بعينها أو في مؤسسات شقيقة، وأشهرها الموظفين والإداريين في مؤسسات الثقافة والصحافة، والإعلام، والأمن والدفاع. وقد تبدو تلك التقاليد التي تجعل عائلات تتوارث العمل في بعض المجالات المؤسسية تكريساً لشيء من المحسوبية أو اكتساب النفوذ، لكن تلك التقاليد لا تختلف في جوهرها عن فكرة الطريقة الصوفية التي يتوارث فيها “القيادة” ابنٌ عن أبيه. تستخدم الأدبيات الصوفية تعبير “الخلافة” في إشارة لتلك الظاهرة، ضمن ما تشير إليه الكلمة.
تولى عماد الوزارة مثلما تولاها أبوه، وإن اختلفت الظروف. كانت خبرة عماد في الجامعة والوزارة كافية لتؤهله لقيادة الوزارة برمتها، لكن أتصور أن تاريخه الشخصي كان عاملاً إضافياً. ربما كانت حالة أب وابن يتوليان وزارة الثقافة حالة استثنائية في تاريخنا المصري، لكنها تمثل أقوى تجلٍ لفكرة تناقل الخبرات والعلاقات لإدارة المؤسسات.
حارس الأرشيف
ورث عماد عن أبيه بدر أبو غازي أرشيفه الذي تجمع له أثناء توليه وزارة الثقافة ومن خلاله، بالإضافة لأرشيفه الشخصي ولأرشيف العائلة الذي يعود إلى مختار وأبيه. في زمن آخر، ربما كان المنطق السائد هو الحفاظ على أرشيف مركزي تابع للدولة -لوزارة الثقافة مثلاً- وبالتالي الدعوة إلى استلام الدولة للمواد الأرشيفية والوثائق والمحفوظات، كي تكون في حماية الدولة المركزية، وكي تتولى الدولة إدارة ذلك الأرشيف لتنشيط الذاكرة المؤسسية والذاكرة الوطنية، وتنظيم وتسهيل عمل الباحثين.
لكن في ظل خفوت قبضة الدولة ومنطقها التنظيمي، لاسيما منذ بداية القرن الحادي والعشرين، صار امتلاك الأفراد لأرشيف شخصي، حتى وإن كان يضم أوراقاً عامة خاصة بمؤسسات، عاملاً من عوامل تعويض المجتمع عن مواطن الضعف والنقص في الذاكرة الأرشيفية لجمعية والرسمية.
***
ولعل جانباً هاماً من المنجز العلمي لعماد أبو غازي في السنين الأخيرة يتمثل في عدة أوراق ألقاها ومقالات كتبها عن فكرة الأرشيف الخاص أو الشخصي وتحليله لأرشيفه الشخصي وأرشيف العائلة. بالكتابة كفعل نظري وبحفاظه المادي على أرشيف شخصي، يعطي عماد مثالاً لتلك القضية التي يتزايد طرحها لا سيما في مصر: صعوبة بناء أرشيف رسمي تابع للدولة، وصعوبة الوصول إلى الوثائق، بل وأحيانا استحالة الحصول على مدخل إليها أو الاطلاع عليها.
من هنا تنشأ أهمية الأرشيف الأهلي والشخصي وأرشيفات المؤسسات غير الهادفة للربح لتعوض النقص في الأرشيف العام الذي تديره الدولة، مثل الدار القومية للوثائق والمحفوظات. ولعل الدكتور عماد أبو غازي ينجح في إنشاء جمعية غير حكومية، غير هادفة للربح تعتني بإدارة هذا الأرشيف، معطية نموذجاً لما سوف تضطر مؤسسات الأرشيف أن تكون عليه. مؤسسة مثل هذه لا شك قد تمثل تعويضاً للفراغ الذي يخلقه الاتجاه المحلي والدولي لتقليص دور الدولة في حفاظ الذاكرة المؤسسية والثقافية للبلاد، وإيكال ذلك الدور الأرشيفي للجمعيات الأهلية والمبادرات الخاصة.
الهوية المصرية
مع الطور الأخير للرأسمالية وأثره على مصر، قلت جاذبية المناصب القيادية في مؤسسات الثقافة بالنسبة للأسر التي صعدت إلى أعلى شرائح الطبقة الوسطى بفضل خدمة الدولة. وكذلك ضعفت تغذية أرشيفات الدولة. لهذا أتصور ظهور شخصية مثل عماد أبو غازي في تاريخ وزارة الثقافة أصبح صعباً. ليس سهلا أن نعثر على أبناء عائلات خدمت في الوزارة يقبلون أعباء المناصب في مؤسسات الثقافة في الأجيال القادمة، لأن البقاء في، أو الارتقاء إلى أعلى شرائح الطبقة الوسطى لم يعد مضموناً في ظل سياسات إعادة الهيكلة، ولأن مناصب القيادة أصبحت تفقد تدريجيا شيئا من بريقها، مثلما يحدث في كافة المؤسسات العامة.
وليس سهلا بالتالي أن تتواتر تقاليد الحفاظ على الأرشيفات الشخصية بين الصفوة التي توفر الكوادر لوزارة الثقافة. وفي ظل الاحتفاء بالقوة -بمعنى الصلف- كعلامة على المكانة والقيادةفي المجتمع، يصعب أن تظهر كوادر الإدارة التي تتحلى بخلق عماد أبو غازي ودماثته، وهي الدماثة التي تعزز فكرة أرستقراطية الثقافة، لأن النخبة الحقة لا تتعالى ولا تتصرف بصلف.
***
لعل المعلم الوحيد فيما يمثله عماد أبو غازي، الذي يمكن أن تتوارثه أجيال شابة في عالم الإدارة والإنتاج الثقافيين، هو تصوره لهوية مصر بوصفها مصرية مستقلة بالأساس، متمايزة عن محيطها في الشرق الأوسط. تصور للهوية يشبه تماثيل جده العظيم مختار: هوية حديثة، مرتكزة على منجزات الغرب المعاصر بقدم، وعلى التراث الفرعوني بقدم أخرى. المصرية كما يتمثلها عماد راسخة واثقة في نفسها، ولا تبتذل تصور التمايز المصري في خطاب عن التفوق أو الانعزال. مصرية تشبه إنتاجه المعرفي من خلال الجامعة، ونشاطه الثقافي من خلال وزارة الثقافة.
أستاذ الدراسات العربية، جامعة يورك، تورنتو
اقرأ أيضا:
ليلى بهاء الدين تكتب: «كأني عدت إلى المنزل»