«عماد أبو غازي» مؤرخًا: الانتماء لجيل ثورة 1919

يعد الأستاذ الدكتور عماد أبو غازي أحد المؤرخين المصريين المعاصرين المرموقين. هذه المعلومة لا نذكرها هنا من باب المجاملة أو الاحتفاء أو بحكم التلمذة والود الذي يحكم علاقتي بهذا الأستاذ الجامعي الكبير، التقييم هنا مبني على حجم المنجز، والمشروع الذي يقدم لنا أبو غازي شخصية مصرية حتى النخاع، المثقف المشتبك في العديد من القضايا التي تنتصر لمفهوم الأمة المصرية كما صاغتها ثورة 1919 لأول مرة في التاريخ الحديث. من هنا يمكن إعادة موضعة مشروع أبو غازي بكل تجلياته كامتداد واستئناف لجيل مصر للمصريين، على الرغم من أنه ينتمي بحكم الميلاد إلى جيل يوليو 1952.
يمكن تقسيم مشروع أبو غازي إلى أكثر من مستوى. الأول ينتمي إلى الكتابات الأكاديمية في حقل الأرشيف المصري واستخدامه، وهو صاحب منجز في هذا الحقل، فضلا عن دراسات في حقل الدراسات المملوكية وأرشيفها، نذكر هنا رسالته للماجستير (وثائق السلطان الأشرف طومان باي: دراسة وتحقيق ونشر لبعض وثائق الوقف والبيع والاستبدال) 1988، ثم رسالة الدكتوراه (دراسة دبلوماتية في وثائق البيع من أملاك بيت المال في عصر المماليك الجراكسة مع تحقيق ونشر بعض الوثائق الجديدة في أرشيفات القاهرة) 1995، ثم مجموعة من الدراسات والأبحاث والكتب المنشورة نذكر منها؛ كتاب (طومان باي السلطان الشهيد) 1999، و(في تاريخ مصر الاجتماعي: تطور الحيازة الزراعية زمن المماليك الجراكسة) 2000، و(1517.. الاحتلال العثماني لمصر وسقوط دولة المماليك) 2019.
***
هذه الدراسات وغيرها تركز على التخصص الأساسي لأبو غازي كباحث مختص في تاريخ مصر في العصر المماليكي، هنا نلتقي بالباحث المتمكن في قراءة مواد الأرشيف المصري واستخراج نتائج بحثية مهمة في تفكيك تاريخ مصر في تلك الفترة من خلال التركيز على النشاط الاقتصادي والاجتماعي. فهو ينطلق أساسا من قراءة المجتمع ككل ولا يقع في فخ القراءة السطحية التي تركز عن طبقة الحكم وتجعل التأريخ السياسي المعيار الوحيد للحكم، ليتخلص بذلك من داء لازم إنتاج المدرسة المصرية الأكاديمية في الكثير من الأحيان.
لكن هذا الجانب ليس السبب الوحيد لتميز إنتاج أبو غازي الأكاديمي، فهو مهموم بالواقع الذي نلمح شبحه في ثنايا دراساته عن عصر المماليك، لا يعني هذا أنه يعيد قولبة تاريخ المماليك في قوالب حديثة، بل أن الأسئلة التي يحلمها في نقاشه مع المصادر القديمة والمواد الأرشيفية تنطلق من محاولة فهم الحاضر عبر استقراء الماضي.
أحد النماذج اللافتة في الكشف عن رؤية أبو غازي التاريخية والتي تنحاز لمفهوم الوطنية المصرية التي صاغتها ثورة 1919، نجدها في كتابه عن الاحتلال العثماني لمصر، العنوان الذي يحمل مفردة “الاحتلال” والكتاب الذي يستخدم مفردة “الغزو” يبدو سجالي مع الواقع الذي حاول فيه أبناء التيار الإسلاموي تصوير الدولة العثمانية باعتباره دولة بيضاء ونموذج أعلى للحكم الإسلامي القويم، وهو محض تخيل لها أغراضه السياسية التي لا تمت لواقع التاريخ ومنطقه.
***
لذا فكك هذا الكتاب هذه الأوهام والأباطيل والتاريخ المعد أيديولوجيا، وضع أبو غازي هدفه الرئيس من الكتاب في الإجابة على عدة أسئلة تدور في عقول الغالبية العظمى: هل حمت الدولة العثمانية المنطقة من التوسع الاستعماري الأوروبي أم أضعفتها؟ وهل أدت الحقبة العثمانية في تاريخنا إلى تطور المجتمع المصري أم إلى تدهوره؟
وقبل أن يشرع أبو غازي في عرض وجهة نظره المدعومة بقراءة واعية لملابسات العصر وكتابات المؤرخين المعاصرين ووثائق الفترة، يسعى لكشف أسباب نجاح العثمانيين لاحتلال مصر، مستعرضًا مواضع الضعف في النظام المملوكي الذي بدأ رحلة انهيار طويلة تجاوز القرن قبل الغزو العثماني، مع تعمق الأزمة الاقتصادية التي ضربت المجتمع وفساد طبقة المماليك التي حملت المصريين تبعات الفشل الاقتصادي.

ويلخص وجهة نظره من الحكم العثماني وأثره السيئ على المجتمع المصري بالقول إن “خطورة الاحتلال العثماني تكمن في أنه وقع في لحظة كان (نظام عالمي جديد) يتشكل فيها، فحال ذلك الاحتلال دون انخراطنا في ذلك النظام وأعاق مساهمتنا في صياغته، وعندما أفقنا من الصدمة حاولنا أن نستعيد دورنا، كان الزمن قد سبقنا، ومقدرات الأمور قد خرجت من أيدينا.
فعندما عبر دول الغرب والشمال من عصر الثورة الزراعية إلى عصر الثورة الصناعية وحققت فيه إنجازها… بقيت مصر لثلاثة قرون أخرى ترزح في ظلمات العصور الوسطية، حتى بدأت تجربتها في التحديث المنقوص مع عصر أسرة محمد علي”.
***
يمكن فهم الكتاب إذن باعتباره رد على خطاب العثمانيين الجدد الذي يسعى إلى التضحية بمصر وتاريخها على مذبح تقديس الدولة العثمانية، ويصفهم صراحة بالذين “يسعون لغسيل تاريخ الحكم العثماني للمنطقة”، ويخلص إلى نتيجة مهمة تستحق أن تفرد بنقاش تاريخي مطول: “كانت ثلاثة قرون من الضعف والانهيار في ظل الحكم العثماني كفيلة بأن تمهد الطريق أمام الاستعمار الأوروبي لاحتلال المنطقة واقتسامها في أقل من قرن من الزمان”.
إذا تركنا مشروع أبو غازي لقراءة العصر المملوكي والعثماني، ننتقل إلى القسم الثاني من مشروعه، والمتعلق بالتأريخ لمصر في العصر الحديث، وتحديدا القرن العشرين. هذا الجانب البعض لا يعرفه ولا يرصده، على الرغم من أننا نستطيع القول بكل أريحية وثقة إنه أحد أهم المتخصصين في تفاصيل تاريخ مصر في القرن العشرين، بالنظر إلى قدرته على التعامل مع الأرشيف المصري وخبرته الطويلة فيه التي أصقلتها السنين، فضلا عن استناده إلى أرشيف عائلي شديد الثراء والاشتباك مع تفاصيل تاريخية غاية في الأهمية على مدار القرن العشرين.
كلها عوامل جعلت ما يكتبه عن تاريخ مصر الحديث من الأهمية؛ سواء في المقالات أو الأبحاث أو عبر مدونته شديدة الأهمية (الخماسين)، وهي منجم بحثي لكل مهتم بتاريخ القاهرة، ويقدم من خلالها كتابات شديدة الأهمية عن تاريخ المدينة من زوايا مختلفة.
***
كما قدم الكثير من الدراسات حول ثورة 1919 وتاريخ مصر في القرن العشرين، نذكر منها: (1919: حكايات الثورة والثوار)، و(حكاية ثورة 1919)، فضلا عن تحقيقه لمذكرات مصطفى النحاس، ثم تحقيقه بالاشتراك مع وليد غالي لبعض أوراق الإمام محمد عبده عن (مشروع استقلال مصر 1883)، كذلك العديد من الأبحاث والمقالات والكتابات التي تشتبك مع تلك الفترة.
في ظل انحياز أبو غازي لهذه الثورة التي جعلته يقول في نهاية تحليله لها أنها انتصرت، وهو حكم نشاركه فيه لأن المقياس السياسي بتحقيق الاستقلال التام غير المنقوص لا يمكن أن يكون المعيار الوحيد، بل أن الروح التي بثتها الثورة المصرية في جسد المجتمع تعد الإنجاز الأكبر لها، وهو الأمر الذي يركز عليه أبو غازي في دراساته؛ البشر والمجتمع في السياق التاريخي لا التوقف عند مستوى التأريخ للنخبة.
يبدو اهتمام أبو غازي بثورة 1919 مفهوما لأنه متسق مع أفكاره، فهذه الثورة أكدت على العديد من القيم الأساسية وأدت إلى كثير من المكاسب للمصريين، في مقدمتها تأسيس مفهوم الوطنية بشكل صحي، تم التراجع عنه في فترات تالية بشكل أدى لظهور أمراض في المجتمع، كما أنجزت الثورة الدستور الأكثر رقيًا في تاريخ مصر، وفتحت الباب لحياة نيابية رغم كل الملاحظات عليها كان يمكن البناء عليها لإقامة ديمقراطية سليمة، والمضي في طريق حكم المصريين لأنفسهم، وتفجير ينابيع الإبداع في المشهد المصري بصورة غير مسبوقة، في ضوء التركيز على الإنسان المصري دون أي التفاف أو مراوغة، وهي الروح التي اختفت من مصر في النصف الثاني من القرن العشرين، لذا لا يتردد أبو غازي في التذكير بها دوما.
***
استطاع عماد أبو غازي، أن يقدم تجربة شديدة الثراء لمؤرخ مصري بالانخراط في واقعه والانشغال به، فرغم أن التخصص الدقيق في مصر المملوكية، والذي نلتقي فيه بشخص باحث التاريخ المتمكن من أدواته، إلا أن المؤرخ هنا حاضر بقوة عبر الانشغال بتأريخ تحولات القاهرة العاصمة المصرية ومركز الثقل السياسي والحضاري والثقافي.
بحسب المتابعة لمدونته (الخماسين) الثرية بمواضيع الدفاع عن تراث المدينة والتوعية به، فما قدمه أبو غازي من عمل يذكرنا بروح المقريزي، فكلاهما ينطلق من تحولات المدينة التي تمضي في مسار منحرف يهدد خصوصيتها ويهدم نسيجها ويبدد تراثها، لذا المقاومة عندهما تبدأ بالتركيز على تراث المدينة وخصوصيته كمقدمة للدفاع عنه، أي أن البداية دائما بالمعرفة، وهذا هو جوهر مشروع أبو غازي العاشق حتى النخاع لمصر والمصريين.