عماد أبو صالح: معرض الكتاب المضاد
معرض القاهرة الدولي لم يكن مجرد سوق للكتاب، كان عيدا للثقافة، وكان يحتوي على مظاهر كثيرة تجعله سلوكا مضادا لفكرة السوق، وعماد أبو صالح واحدٌ من تلك المظاهر.
أرض المعارض رمز من رموز التجارة. ومهما كانت المبررات التي تتعلق بصناعة الكتاب، إلا أننا لا نحب الكتاب بوصفه سلعة، ولا نستسيغ الكاتب أو القارئَ بوصفه زبونا، الكتابُ قيمة في حد ذاته، غايةٌ، والتجار يريدونه وسيلة للربح فقط.
**
لا بأس بالربح طبعا، إلا إذا تعارض مع قيمة الكتاب، أو مع خصوصية المجتمع، وظروف الغالبية العظمى، والتي تجعلهم يتجنبون الكتب بشكل لا شعوري تقريبا.
من الخطأ مساواة القارئ المصري بالزبون الأوروبي، لأن الأخير يعيش في منظومة مختلفة تماما. ومفهوم الكتاب عندنا يختلف عن مفهوم الكتاب هناك، ومن أبسط أسباب الاختلاف، تخلفنا في منظومة بناء الإنسان قياسا بالمواطن الأوروبي. وتجاهل تلك الخصوصية يساهم في عزل الكتاب عن المجتمع، وتكريسه لفئة صغيرة.
نحاكم الشاعر عادة، أو نحكم عليه، من خلال نصوصه فقط، أما عماد أبو صالح فنحكم عليه بمواقفه كلها. ونراه شاعرا في كل أحواله، خاصة وهو يطبع شعره، ويهديه للمحبين. ثم ينزوي في ركنه الخاص صامتا، ودون أن يتورط في نزاع أو تنافس من أي نوع.
**
يرفض المعرض ولا يبتعد عنه، يهاجر بين الناس، ويعتزل بين الجماهير، أعجبتنا جسارته وهي تبدو في منتهى الهشاشة، أعجبنا اقتحامه لساحة الحرب بوردة صغيرة.
يظهر عماد أبو صالح في أرض المعارض ومعرضه على ظهره، حقيبة من القماش. تمتلئ بنسخٍ من ديوانه الجديد، يشعرُ بمحبتك للشعر فيقدم لك ديوانَه مع توقيع جميل. تلك طريقته الوحيدة في توزيع كتبه، وهي طريقة معروفة لدى الشعراء، وكانت أساسية خاصة في فترة السبعينيات، حيث كانت القيود كثيرة، وحركة طبع الشعر ضعيفة جدا.
الشعراء لأعمالهم يرتبط في الغالب بحالة العجز عن توزيعها من خلال المؤسسات الكبيرة، أي أنهم يتمنون عرض أعمالهم في أفضل الأماكن، لكن ما باليد حيلة، كما أنهم يمنحونها هدايا لبعض الأصدقاء والنقاد، لكن، بالمعنى العادي للهدية تقريبا.
الأمر مختلف بالنسبة لشاعرنا. لأن توزيع الشاعر لديوانه ـ هنا ـ هو الأسلوب الأفضل، والأنسب، حتى لو كانت هناك إمكانية لتوزيعه من خلال دور النشر الكبرى، وهو أكثر من كونه وسيلة لتوزيع الكتاب. هو طقس جميل، من غاياته تعميق إحساسنا بالشعر بوصفه هدية، الشعر نفسه لا الكتاب، الشعر بشكل عام لا شعره وحده، وإن كان شعره يأتي متناغما مع تلك الطريقة.
**
مكان طبع الكتاب عجيب هو الآخر. ورغم أن الشاعر يطبع على نفقته الخاصة. الأمر الذي يعني إمكانية طبعه في دور نشر معروفة، أو من تلك التي تحصل على مبالغ مالية بسبب ارتفاع مستلزمات الطباعة وانعدام المردود المادي للشعر، إلا أنه لجأ إلى مطبعة عادية تماما. مطبعة لا تطبع الشعر، بل تطبع الكروت. واختياره للمكان موقف مضاد، لا لدور النشر الكبيرة فقط، بل لموقفنا من الشعر ونحن نراه بعيدا عن تلك المطبعة التي ترمز للعادي والبعيد عن الشعر.
أسلوب عماد أبو صالح بالغ الخطورة على شعره، لأنه يقتصر على دائرة ضيقة جدا، بحكم عدد النسخ، وبحكم الصدفة التي تتحكم فيمن يلتقي بهم شخصيا. إنه يشبه اللاعب الذي يحتفظ بالكرة بين قدميه، ويربط حركتها بحركته، ولا يستفيد من سرعتها، وقوة انتشارها، وهو ليس مضطرا لذلك، ومن الطبيعي أن يؤثر ذلك بالسلب على انتشاره.
**
لقد وضع شعره في أضيق الحدود، ومع ذلك، حقق انتشارا لم تحققه الأعمال التي تم وضعها في أوسع الحدود، وتلك المفارقة تستحق التأمل.
الآن، وبعد سنوات طويلة من تجربة الشاعر، تآكلَ الكتابُ بوصفه حقا من حقوق المواطن، ووسيلةً من وسائل نهوض الدولة. وزادت في المقابل هويته كصناعة غايتها الربح بغض النظر عن القيمة. كما زادت المؤشرات التي تدل على هبوط مستوى الذوق والتفكير العقلاني الرشيد، وبات سلوك الشاعر كما لو كان نبوءة أو تحذيرا من هذا الهبوط.
اقرأ أيضا:
الشيخ محمد عبدالقادر: تجربة تحويل بيوت الصعيد إلى مؤسسات ثقافية