علامات في المدينة

حينما شغفت بالطوف في ميدان محطة الرمل، بوسط المدينة، كانت غوايتي التنزه والاكتشاف في آن. حيث طوقت ذاكرتي أسماء الشوارع والميادين في تلك الأرجاء، وحيث سحرتني الحدائق التي تدنو من تلك الأنحاء. وفتنتني بيوت الأزياء الراقية شكوريل، هانو، صالون ڤيرالتى قطنت الشوارع الرحبة، “سعد زغلول” و”شريف” نموذجا. والكازينوهات والملاهي المطلة على الكورنيش، اتينيوس، ديليس، اكسليور وميرامار.

آنذاك، اعتدت تأمل مفردة “سابقا”، والتي ما زالت تحملها بعض لوحات معدنية تتصدر ناصية الشارع. تلك الشوارع التي مررت بها مرارا، طلت كطيف لا يبارح روحي، لأن أركانها ضمت علامات عريقة لم تتبدد. فمنزل الشاعر اليوناني كفافيس ما زال كائنا بشارع ليبسوس “سابقا”. تجاوره أزقة ضيقة تحمل أسماء “أزمير” و”مرسيليا”. كما ظلت بناية جمعية بطليموس الأول لعلماء اليونان بالإسكندرية بشارع قسطنطين سادينو بالأزاريطة، والجمعية الملكية للآثار بـ4 شارع “جريل”، “محمود مختار” الآن. ومنذ عهد قريب، كان مقر جريدة تاخيدروموس اليونانية بشارع زنكروله.

تميزت بنايات تلك الرموز بالطرز المعمارية المنفردة، والنقوش والزخارف البديعة. وأبرزت صدارة البناية تاريخ الإنشاء مدون بالفرنسية والإنجليزية 1919، 1927، 1939. وأخرى حملت عمد العمارة آنئذ، أوجست بيريه، بوسيرى، جان وولتر.

***

ألهمتني رحلة السير، بهجة ونشوة غمرتني، حينما طرقت طرقا ووجهات، غاب عني زمن ما حفلت به غير أني شهدت ظلال وملامح أخيرة لتلك الحقب. بيوت شاهقة في شوارع طويلة ممتدة، ذات أفنية متسعة بتلك البيوت وأبواب حديدية عريضة تفضي إلى نهر الشارع المجاور.

ظلت إطلالتي على تلك الأنحاء، أشبه بارتياد المجهول. حيث أصادف ما طرقته من قبل، ولكن الغيوم التي أدركت الذاكرة، عطلت تلمس الممر الضيق حينما خطوت فيه منذ أيام خلت. حتى عرفت أني ترددت طويلا على البناية المتهالكة الآن الكائنة بـ4 شارع بومباى كاسل بمحطة الرمل. حيث سكنت جمعية الدراما الطابق الثاني واحتلت اللوحة الرخامية “قصر بومبانى كاسل” بالعربية الحائط الحائل للبناية وكذا البلكونة المطلة على الشارع بالإنجليزية “Bombay Castle”. في سبعينات القرن الماضي، كان محل الأحذية هو البوابة للطريق إلى الجمعية التي ربما كانت مقرا للقيادة العسكرية الهندية إبان الحرب الثانية حيث كانت الهند أحد المستعمرات البريطانية.

آنذاك، شهدت الجمعية التي شغلت مكانا فقيرا، متسع قليلا، أحداثا ووقائع ثقافية وفنية، بصحبة نخبة من كتاب وفنانين عاشوا في الإسكندرية. لقد ضمت الجمعية عددا هائلا من رموز الفكر والثقافة في المدينة.. د.أبو الحسن سلام، مهدي بندق، حسين شاهين، عادل النحاس وآخرين حيث دارت حوارات ساخنة في السياسة والآداب والفنون الراهنة وقتذاك. وعرفت الشاعر “البلدوزر” عبدالصبور منير. وجدت بروفات بعض المسرحيات التي أدارها يوسف عبد الحميد ود.حسين الشيخ. وقرأ بعض الكتاب الشبان محاولات في نصوص إبداعية في حضرة محمد إبراهيم مبروك.

كان هذا الثراء الثقافي والفني، كان موازيا لوهج آخر، اتقد في حقول وأجواء أخرى، تلاشت وقائعه. غير أن سيرته لم تتبدد بعد.

اقرأ أيضا:

رجل الحديقة

مشاركة
المقالات والآراء المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع بالضرورة، بل تعبر عن رأي أصحابها
زر الذهاب إلى الأعلى
باب مصر