علاء عبدالخالق.. كم يشبه جيله؟!
كان يفترض أن أكتب مقالا آخر حول ما وصلت إليه صناعة السينما والدراما في مصر، وأسباب تراجعها، أو توقفها محلك سر. في الوقت الذي تنفتح فيه النوافذ على إنتاجات تحقق نجاحات “عالمية” في كل مكان. ولكن كلما فتحت صفحة بيضاء لأكتب، أجد نفسي أفكر في علاء عبدالخالق.
مثل كثيرين من الجيل الذي تفتح وعيه بداية الثمانينيات، كان علاء عبدالخالق بالنسبة لنا نسمة حرية ومتعة فنية تخص جيلنا. مع بقية أبناء جيله مثل فرق “المصريين” و”الأصدقاء” ومحمد منير وعلي الحجار ومحمد الحلو ومدحت صالح وحنان ومنى عبدالغني. وصولا إلى حميد الشاعري وبقية مطربي ما عرف بموسيقى “الجيل”.
***
يرتبط صوت علاء عبدالخالق في ذاكرتي بكلية الألسن، وشركة “سونار” المنتجة لألبوماته. كنت أذهب مع صديقي وزميل الكلية ناصر عزيز، لزيارة شقيقه فايز عزيز مهندس الصوت المعروف بشركة “سونار” في حي جاردن سيتي. لشراء الألبومات الجديدة بخصم يصل إلى نصف ثمنها أو أقل. وهناك كنت أرى بعض شباب المطربين مثل حنان، زوجة كمال علما، أحد مالكي الشركة، ومحمد منير وحميد الشاعري. يرتبط صوت علاء عبدالخالق في ذاكرتي أيضا بليالي وشاطئ شرم الشيخ. حيث كنت أعمل عقب تخرجي وعملي بالسياحة لبعض الوقت.
لم تكن تخلو ليلة من سماع أغنيات علاء المرحة، الراقصة، التي تسبح بصوته الرقيق عبر الأثير المحمل برائحة البحر: “داري رموشك عني وداري.. ليه بتحبي تزيدي في ناري.. قلبي مسلم ليكي.. عاشق من أولها.. مش محتاجة عنيكي.. تكويني بجمالها”. أو “الحب له صاحب، والكره له صاحب، الحزن له صاحب والفرح له صاحب.. وأنا ع الوعد متصاحب”. أو أغاني أهدأ مثل “الحب بحر مالوش آخر.. وقلوبنا في رحابه بواخر”، أو أكثر شجنا مثل “بحبك كون.. وشئ مجنون.. وقلبي يكون على هواكي..”.
في صوته المبحوح قليلا، لطف وحزن معا، وخجل. فيما بعد سأعرف أنها صفاته الشخصية وليس صوته فقط.
كنت قد تركت مجال السياحة والتحقت صحفيا تحت التمرين بمجلة “روز اليوسف” مع نهاية الثمانينيات. وعهد لي رئيس قسم الفن محمد عتمان بتغطية الموسيقى والغناء، فكنت أقضي معظم الليالي في زيارة الاستوديوهات وشركات إنتاج الكاسيت. وبالطبع التقيت علاء عبدالخالق وأجريت معه أكثر من حوار، مع كثير من نجوم هذا العصر الذهبي للأغنية “الشبابية”. حيث لم يكن يمر أسبوع واحد، خاصة في الصيف، دون صدور عدة ألبومات غنائية جديدة. كذلك التقيت بالملحن الكبير أحمد منيب في بيته بالسيدة زينب، وتحدثنا. من بين ما تحدثنا فيه، عن عمله مع محمد منير وعلاء عبدالخالق، والفارق بين ألحانه لكل منهما.
***
والحقيقة أن الاثنين كانا ينتميان لعالم مختلف عن معظم العاملين في مجال الموسيقى آنذاك. كان الحاج أحمد منيب يشعرك أنك تجلس بالفعل مع الحاج أحمد جارك، بجلبابه وبيته البسيط وحفاوته وطبيعيته. وكأنما الرجل لم يكن عبقريا ولا كان مسؤولا عن تغيير مسيرة الموسيقى المصرية، مع بضعة أسماء أخرى، خلال النصف الثاني من سبعينيات، ثم ثمانينيات وبداية تسعينيات، القرن الماضي.
أما علاء عبدالخالق فعلى عكس أغلب المغنيين، لم يكن يشعر أنه في منافسة مع أحد، أو أنه جدير بمنافسة أحد. كان دوما راضيا، شاكرا عندما ينجح، لا يذكر أحدا بالسوء، ولا يعلق أي فشل على أحد. ومثل الحاج أحمد كان يبدو شابا عاديا في ملبسه ومسلكه وحديثه، غير شاعر على الاطلاق بأنه نجم، أو شخص مختلف. وفيما كان يتسابق أغلب المغنيين والمغنيات على الأضواء والحفلات والفرص، لم يكن علاء عبدالخالق يسعى لأي شئ ليس في يده بالفعل.
لقد تابعت بعض ما نشر عنه على مواقع التواصل خلال الأيام الماضية. واعتقد أن الجميع اتفقوا على هذه الصفات وما يشبهها من دماثة وخلق وتواضع وبساطة.
***
مرة أخرى كنت قد انتقلت من تغطية الموسيقى إلى التركيز في عشقي الحقيقي وهو السينما. منسحبا بالتدريج من الوسط الذي التقيت خلاله بمعظم، إن لم يكن كل، نجومه من مغنيين وملحنين ومؤلفين، والقليلون منهم جدا الذين لم تول تربطني بهم علاقة صداقة وود. حتى لو كانت من بعيد، وكم من مرة نويت أن التقي مجددا بمنير وعلي الحجار وحميد الشاعري وعلاء عبدالخالق. ولكن الأيام والسنوات تسحبنا وتنفلت من بين أيدينا (على رأي الشاعر سيد حجاب) ولا نتذكر أن العمر قصير والفرص التي تمضي لا تعود إلا عندما يرحل أحدهم. والحقيقة أن الكثيرين يرحلون هذه الأيام من جيل الثمانينيات، تاركين غصة في القلب وشعورا مريرا بأن العمر، أو معظمه، قد ولى. وربما يكون الأكثر قسوة هو أن عصرا كاملا له طعم ولون ورائحة لا تنسى. قد تلاشى ولم يعد له وجود سوى في ذاكرة بعض الأحياء، من الذين تجاوزا الخمسين والستين.
كان علاء عبدالخالق أحد مظاهر هذا العصر. واعتقد أن مظاهرة الحزن عليه ورثاءه التي ملأت مواقع التواصل الاجتماعي وراءها مشاعر مشتركة (غمرتني شخصيا) أطلقها موته الهادئ المسالم.
الكثيرون يموتون، ولكن القليلون يحملون طابع وملامح وصوت ولون ورائحة عصرهم. لذلك يتذكر الناس عصر عبدالحليم كلما أطلت صورته، وعصر أم كلثوم كلما صدح صوتها. وعلاء عبدالخالق، حتى بصوته محدود الامكانيات، والنجاح قصير العمر الذي حققه. إنما يشبه عصر وجيل العقدين الأخيرين من الألفية الماضية، أكثر من أي مطرب آخر. أكثر من الذين تجددوا وتغيروا مثل منير وعمرو دياب، ومن الذين وقعوا وقاموا ووقعوا وقاموا مثل مدحت صالح، أو الذين لمعوا كالشهب، واعدين بالوصول إلى القمر. ثم حطمت الأيام أحلامهم، مثل علي الحجار ومحمد الحلو.
***
علاء عبدالخالق وصوته ظلا هناك، في ذلك الزمن الذي لا يزيد عن عشر سنوات تقريبا، كانوا كافيين للفصل بين قرن وآخر، وعالم وآخر. جيل الكاسيت وألبومات الصيف والمرح المغلف بالحزن والأمل المشوب بالشك، والحب على الطريقة القديمة، والأناقة على الطريقة المضحكة، قبل الانترنت والموبايل وثقافة البورتو والكومباوند.
ربما يسمع الجيل الحالي، أو القادم، أغاني علاء عبدالخالق، ولكنهم بالتأكيد لن يشعروا بما يتذكره ويشعر به جيل علاء عبدالخالق عندما يستمعون إليه.
اقرا أيضا:
السينما المصرية والعالمية (3): معادلة الإنتاج السائد.. وفقا لـ«بيت الروبي»