عقلية العوامة في قرار هدم العوامات!
قررت الحكومة، فجأة، هدم كل العوامات الموجودة على سطح النيل..العوامات فقط، الخشبية، الصغيرة، التي لا يزيد عددها عن ثلاثين عوامة تقريبا، وليس بقية الاشغالات والمباني الأسمنتية الكثيرة التي تحتل مساحات هائلة من شاطئ النيل، أو الأبراج العملاقة التي تحجب الرؤية وتحجز النسمة، ليس في القاهرة فقط، ولكن في كثير من مدن المحافظات المختلفة التي بليت بداء الأبراج القبيحة المنظر المحيطة بالنيل مثل أنياب قرش آكل للحوم البشر.
العوامات فقط هي التي أثارت انتباه واستياء الحكومة، مع أنها، مقارنة بما يوجد على ظهر النيل من انتهاكات، تبدو مثل قوارب خشبية تهزها المياه وسط أساطيل حربية مدججة بالسلاح.
القذي والخشبة!
هذه العوامات الصغيرة الخجولة المتناثرة، والتي يوجد معظمها بالقرب من إمبابة والكيت كات، ربما تكون انتهاكا بالفعل لحرمة النيل، ولحق الجماعة في الانتفاع بنظافة مياهه وهواءه وحسن منظره، وربما يقتضي الحق أن تزال هذه العوامات أو يبقى عدد رمزي منها كأثر سياحي فقط، ولكن رؤية العوامات فقط من بين كل الانتهاكات الموجودة على النيل، ومنها مصانع تبث نفاياتها وعوادمها في النيل، ونواد فئوية وعامة تحتل الشاطئ وجزء من النيل، وفنادق ومبان عملاقة، وكازينوهات ومطاعم عائمة تطبق على أنفاس النيل نفسه..أن ترى العوامات فقط، من بين كل هذا، فأنت مثل الذي يرى القذي في عين أخيه لكنه لا يرى الخشبة التي في عينه!
وحتى مع افتراض أن هناك خطة لازالة كل التعديات القائمة على النيل، وأن زمن العوامات قد ولى، فإن ذلك لا يمنع من الاحتفاظ ببعضها كأثر تاريخي وسياحي، خاصة أن هذه العوامات أصبحت جزءا من التراث الثقافي للمصريين، بفضل عدد من الروايات والأفلام والأعمال الفنية التي وثقت هذا التاريخ وهذا الزمن توثيقا بديعا. ولو أن هذه العوامات وجدت مثلا في فرنسا أو أمريكا، وظهرت في روايات بلزاك أو هيمنجواي أو لوحات رينوار وماتيس، أو في بعض أفلام العصر الذهبي لهوليوود، لكانت وزرات ثقافة وحكومات هذه الدول ستسعى بالتأكيد للاستفادة ثقافيا وسياحيا بهذه العوامات، بتحويل بعضها إلى متاحف وآثار للأجيال القادمة، كجزء من التاريخ الحي لهذه البلاد.
تاريخ معماري وبصري
معظمنا لم يعش في عوامة وربما لم يدخل عوامة في حياته وبعضنا ربما لم ير عوامة ولو من بعيد، ولكن معظمنا يعرف العوامات من خلال روايات نجيب محفوظ وأفلام الأبيض والأسود التي استغلت الخصوصية المكانية للعوامة ذات المعمار المميز، التي هي بيت ومركب، جزء من المدينة وشئ منفصل عنها، تحلق دوما بين الثبات والحركة مثل حلم.
في أعمال محفوظ تحفر العوامة صورتها البصرية كدال ثقافي على شخصيات العمل وعلى العصر. في الثلاثية تصبح العوامة موقعا للمتعة المحرمة للسيد أحمد عبد الجواد العائش بشخصيتين. هذا عصر كان فيه بعض الرجال يملكون عوامة أو “جرسونيرة” (شقة صغيرة خاصة لممارسة المتعة) حيث يمكن أن يعبروا عن شخصياتهم المتناقضة، وعن طبيعة المجتمع الفصامي العائش بشخصيتين.
في “ثرثرة على النيل” التي يصل فيها الفصام الثقافي والسياسي إلى ذروة أزمته (مع هزيمة 1967 وانكشاف خواء الأحلام الكبيرة والفساد الذي ينخر المجتمع والأفراد) تصبح العوامة هي المكان/ المجاز الأفضل للتعبير عن مجتمع يطفو، يعتقد أنه راسخ ومستقر، لكن بمجرد أن يحل أحدهم السلسلة التي تربط العوامة بالأرض، يصبحون في مهب الريح.
أحلام وكوابيس
العوامة كموقع سينمائي تصلح أيضا لمقارنة أخرى: الخمسينيات بأحلامها الرومانسية الكبيرة، والسبعينيات بكوابيسها المحدقة.
في فيلم “أيام وليالي” (إخراج بركات، 1955) تشغل العوامة والقارب ونهر النيل موقعا شديد الخصوصية والعذوبة للرومانسية والغناء. وتدور واحدة من أجمل أغاني عبد الحليم حافظ وهي “أنا لك على طول” على متن قارب أمام عوامة المحبوبة (إيمان).
في فيلم “ثرثرة فوق النيل” (إخراج حسين كمال، 1971)، مثل الرواية المأخوذ عنها، ولكن بشكل أكثر مبالغة وفجاجة، تصبح العوامة مأوى لنماذج إجتماعية منحرفة ويائسة، تعبر في مجملها عن يأس وفساد عام، ويصعب أن نجد موقعا يمكن أن تتجمع فيه كل هذه النماذج وأن يعبر هذا الموقع عنهم بصريا مثل العوامة…فكل واحد منهم أشبه بعوامة بشرية، يطفو على ظهر الحياة منقطع الانتماء والجذور، لاهيا ومستمتعا باللامسئولية، ولكن ليس لديه قدمين وليس تحته أرض يمكن أن يقف عليها.
ربما حان الوقت لاطلاق مشروع وقرارات متكاملة للقضاء على كل التعديات القائمة على نهر النيل، ومنها العوامات، ولكن من الجرم هدمها جميعا، ومن الجرم أن نمحو جزءا من ذاكرتنا البصرية والثقافية دون أن نفكر في الحفاظ عليها والاستفادة منها.
..لكن يبدو أن عقلية العوامة الطافية بلا جذور لم تزل تنتشر وتتوغل وتسود.
اقرأ أيضا:
ثورة القوارير في السينما السعودية!